Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جيمس جويس فنان يرسم صورته الذاتية في شبابه

الرواية التي خرجت عن سرديات القرن التاسع عشر إلى حداثة القرن العشرين

الروائي جيمس جويس (دار الآداب)

قد لا يحتاج القارئ العربي إلى جهد كبير من أجل أن يتعرف إلى كاتب إيرلندي أحدث نقلة فنية وأدبية في نوع الرواية الحديثة، مطلع القرن العشرين، عنيتُ به جيمس جويس صاحب الرواية الملغزة وذات الفضاء الداخلي "أوليس"، ورواية "ديدالوس"، و"البطل استيفان"، و"أناس دبلن"، وغيرها. وكانت أولى رواياته الصادرة عام 1914، بعنوان "صورة الفنان في شبابه" والمترجمة إلى العربية، على يد ماهر البطوطي، والصادرة عن دار الآداب- بيروت بطبعتها الثالثة، الإطلالة الأولى له في عالم الرواية، وأول منعطف في مسار الرواية الغربية المعاصرة، التي تغادر القرن التاسع عشر وموضوعاته وقضاياه الاجتماعية، إلى القرن العشرين العامر بالرؤى الفلسفية والعوالم الفردية والمقاربات الفريدة في بناء العالم الروائي. بل يمكن القول إن لجويس أثراً كبيراً في صوغ الرواية الغربية الحديثة، يماثل الأثر الذي تركه فرانز كافكا في قصصه الغرائبية (التحول) ورواياته التي تشي بأجواء سلطوية قامعة (الدعوى) منبئة بصعود النازية، وعارضة مأساة الفرد المعزول وسط عالم عدواني لا يساوم (أميركا).

 رواية "صورة الفنان في شبابه" لن يكون للسرد أو للحبكة الرئيسية الأهمية الحاسمة؛ إذ قد يخلص القارئ من الرواية إلى نتيجة مفادها بأن الحبكة الرئيسية إن هي إلا تجسيد لمسار تحرر كلي من سمات كانت هذه الشخصية الرئيسية "استيفان ديدالوس"، المعادلة لسيرة الكاتب جيمس جويس الشخصية في تفاصيلها الكبرى. وهي قد اكتسبها بالتربية والوراثة من محيط محافظ جداً، على مر الأيام، منذ ولادته وطفولته، في مدينة هي خليط بين لحظات الثراء الخاطفة وأزمنة البؤس الطويلة، بسبب مهنة الأب غير الثابتة، وبين تربية مسيحية كاثوليكية موشحة بقومية إيرلندية قيضت له على يد الآباء اليسوعيين في دبلن، إلى تحلل تدريجي من الإيمان الكاثوليكي، ومن النزعة الوطنية الإيرلندية التي يُفترض بكل امرئ مولود في البلاد أن يعتصم بهما، ومن العائلة التي أرهقه الانتماء إليها صغيراً، وأسقمه التنصل منها كبيراً.

إذاً، وإن صح أن رواية "صورة الفنان في شبابه" هي أقرب ما تكون، في صيغتها الظاهرة، سيرة ذاتية ملفوظة بضمير الغائب، ومحكية بلسان الراوي العليم، أشبه برواية "دوريان غراي" لأوسكار وايلد أو "اعترافات" لجورج مور، فإنها مجال مؤات تماماً لعرض الكاتب أهم هواجسه الفكرية والمسائل الفلسفية واللاهوتية، مثل الخطيئة وجهنم، والمقدسات، وتصوراته عن الجمال، والمرأة، والوعي واللاوعي والأحلام، والمبادئ الثلاثة (العزلة، والمنفى، والحيلة). تبدأ الرواية بحكاية خرافية تليها أبيات، ويُفتتح السرد النثري بطلب من الأم (أم ستيفن) من ابنها بوجوب الاعتذار: " آه، سوف يعتذر ستيفن وردت دانتي: "آه ستأتي النسور وتنزع عينيه إن لم يفعلْ" (ص8)

صراط التقاليد

ويفهم القارئ من السياق اللاحق أن الأم، أم ستيفن، كانت ترغب في أن يندرج ابنها في صراط التقاليد الإيرلندية المحافظة، بل وكانت تتمنى له أن يصير كاهناً مثيلاً للكهنة اليسوعيين في دبلن، ممن يملكون زمام الأسرار الكنسية، يطوعون بها حتى الأباطرة ومنهم نابليون. ويحوزون الكثير من الإمكانيات المادية والمعنوية التي تخولهم توظيف الأفراد في المؤسسات المناسبة. ولكن هذه الرغبة لن تتحقق، وسوف تؤول إلى نقيضها، على ما يبينه مسار الأحداث في الرواية؛ ذلك أن الرواية الشبيهة بالسيرة، وليست سيرة ذاتية، تنقسم خمسة أقسام، أو خمسَ مراحل متتالية على صورة مراحل العمر من الطفولة حتى البلوغ، وكل منها تشكل مزيجاً من الوقائع المنتقاة من سيرة الشخصية المحورية ستيفن ديدالوس، ومن الحوارات المستفيضة بين شخصيات تؤدي أدواراً ملائمة في حينه، مضافاً إليها تعليقات من الراوي العليم، ومقطعات شعرية، وغيرها مما يستدعيه السياق.

وعلى سبيل المثال، تشكل المرحلة الأولى فرصة للتعرف إلى الإطار الإيماني (الكاثوليكي) الورع الذي ولد فيه الطفل ستيفن، في بيئة إيرلندية، وقد أرسله والداه إلى مدرسة داخلية من أجل أن يتربى على أيدي الكهنة اليسوعيين (الجزويت) في مدرسة كلونجوز بمدينة سالينز، وفي مقاطعة كلدار بإيرلندا، على أهم المبادئ بنظرهم. وهي: الإيمان الكاثوليكي، وإيثار العائلة، والتمسك بالوطن الإيرلندي. ولكن هذه المبادئ، وإن كان وعيها من قبل ستيفن ديدالوس في غير أوانه، فإنها شكلت محاور الهجوم المعاكس الذي سوف يشنه عليها الفتى ستيفن، والشاب الجامعي لاحقاً، سلاحه فيه المنطق والفلسفة اليونانية اللذان تشرب تعاليمهما في الجامعة الجزويتية نفسها.

وبالطبع لن تكفي الإشارة إلى الحوارات المستفيضة بين والد ستيفن سيمون ديدالوس وبين سائرالشخصيات للدلالة على مناخ متنامٍ في أوساط العامة معارض لرجال الدين الكاثوليك (ولا سيما الجزويت)، مثل كلامه: "إننا شعبٌ سيء الحظ، يتحكم فينا القساوسة"(ص53). مثلما لا يسع اقتطاف مقاطع من أحاديث بين تلاميذ المدرسة الداخلية الصغار، ومنهم ستيفن، حول مناولة القربان المقدس، والعقوبات الجسمانية الشديدة اللاحقة بهم جراء تكاسلهم في دروس اللغة اللاتينية على يد الأب "دولان"، ونفور ستيفن من اللعب مع زملائه الآخرين، وبدئه فتياً بكتابة المقالات المهرطقة دينياً، وعظات الأب "أرنال" الطويلة، وغيرها، لا يسعها أن تنقل الثراء في الإيحاءات التي يحملها متن الرواية.

انقلاب المزاج

وكذلك الأمر في المرحلة الثانية (ص85-148) وهي مرحلة فتوة ستيفن، حيث بدأت التحولات تظهر في تصرفاته، وانقلاب مزاجه، وخبر غرامه الأول بفتاة، وكتابته أشعاراً لها، تنتابه خلالها لحظات شك، ونوبات وتجارب تفضي إلى التوبة، على غرار القديس أوغسطينوس والقديس فرنسيس الأسيزي اللذين كان يجري رواية سيرتيهما على التلاميذ بغية الاقتداء بهما، على ما كان حاصلاً في حصص التربية الدينية، داخل الأديرة أو المدارس الداخلية ذات الطابع الديني. أما التوبة والشعور بالأمان اللاحق بها، فحصلا له بعد اعترافه، ومناولته القربان المقدس.

أما المراحل الثلاث الباقية، أعني مرحلة الشباب، والتعليم الجامعي، وما بعدها، فهي تروي اصطراع التأثيرات المسيحية والتوراتية في نفس ستيفن الفنان الشاب، واشتداد نوبات الإيمان والشعور بالخطيئة المفضية به إلى جهنم، على ما رسخه القساوسة في نفسه، وبين الشك ببعض هذه المقدسات، على ضوء المنطق والتراث العقلي الفلسفي الذي مال ستيفن إلى تبنيه، آخر المطاف، لدى كل من أرسطو وأفلاطون وإبيكتوس، وغيرهم، وبات ميزانه في تقييم ذاته وفي قبوله الانغماس في شرور العالم وخطاياه الكبيرة، لا سيما خطيئة الزنا، مع المومس، في أحد شوارع دبلن، ومع غيرهن.

ولكن الأهم في كل ذلك، هو عرض الشاب ستيفن مرافعته المستفيضة في شأن الفن ونظرته الخاصة إلى الجمال والجمالية، المستفاد بعض عناصرها من أمهات المراجع الفلسفية والعلمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

"الفن هو الخلقُ الإنساني للمادة المحسوسة أو المدركة من أجل غاية جمالية" (ص290) وفي هذا يمكن العودة إلى الحوار المستفيض الذي جرى بين ستيفن وكل من لينش وكرانلي، المفترض أنهما زميلان في الجامعة. ومن التصورات أيضاً، الآتي: "تُقَدم لنا الصورة الجمالية إما في المكان، أو في الزمان. وكل ما هو مسموع يُقدم في الزمان، وكل ما هو مرئي يُقدم في المكان. ولكن الصورة الجمالية، سواء كانت مكانية أو زمانية، تُدركُ أولاً في وضوح منطويةً منفردة على خلفية المكان أو الزمان الذي لا حد له" (ص297-298).

ولكن، هل يعتبر إدخال الروائي بعضاً من محاور الجدال الفلسفي في متن روايته تحريفاً للرواية، أو تدخلاً تعسفياً في تكوينها الأدبي؟ إطلاقاً. ذلك أن الرواية الغربية، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، هي نتاج ذلك الخليط الذكي والفريد بين الفكر الفلسفي والسياسة وأمزجة العصر والمكان والزمان، وبين التكوين السردي وشبه العالم الخاصين والمتوازيين مع المكونات الأخرى، مع الحفاظ على إيقاعات السرد الداخلية. دليلنا على ذلك، في رواية "صورة الفنان في شبابه"، هذا التداخل الذكي بين المشاهد، في الفصول الأخيرة، وبين توالي الحوارات الفكرية المختزلة عن زمنه، والتي تراوحت بين الدينية المحافظة، وبين الوجودية، والعلموية، والاشتراكية، والشيوعية، والنزعة القومية (الإيرلندية) المحافِظة، التي ينتهي ستيفن، ومن خلاله الروائي، إلى ردها، لصالح الفن السبب الأخير للآتي من أيامه: "إن الروحَ تولدُ البداية في مثل هذه اللحظات التي أخبرتُكَ بها. إن مولدَها بطيءٌ وغامضٌ، أكثر غموضاً من مولد الجسد. وحينَ تولدُ روحُ الإنسان في هذا البلد، فإنهم يلقون عليها الشباكَ ليمنعوها من التحليق. إنكَ تحدثني عن الوطنية واللغة والدين. إنني أحاولُ أن أفر من هذه الشباك" (ص284).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة