Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تسهم "الإدارة الأهلية" في استتباب الأمن في السودان؟

حاول النظام السابق الاستفادة منها باستقطابها وتقوية مكانته

علي محمود أرباب ناظر عموم قبائل الأمرأر مع أفراد قبيلته (اندبندنت- حسن حامد)

أعلنت الحكومة الانتقالية العمل على تنظيم "الإدارة الأهلية" المكونة من زعماء القبائل لاستتباب الأمن والحد من النزاعات في بلد متعدد الأعراق. وظل دور "الإدارة الأهلية" التي تحكم باسم القبيلة من خلال تطبيق الأعراف على القبائل، مبنياً على الرضا والالتزام من قبل المواطنين وقيادات قبائلهم، كما يمتلك القادة نفوذاً قد يفوق نفوذ السلطة الرسمية وهو محصور في استقواء القبائل ببعضها.

وحاول النظام السابق الاستفادة منها باستقطابها وتقوية مكانته، إذ تحول دورها من العمل الاجتماعي في حفظ الأمن وحل النزاعات إلى العمل السياسي ودعم حزب المؤتمر الوطني الحاكم السابق وحمايته، مما أفقدها ثقة المواطنين.

غير أن كل هذه الأدوار قبل النظام السابق وبعده لم تفلح في حل الصراع الإثني، مما يجعل ما تقوم به الحكومة الانتقالية بغرض تنظيمها للحفاظ على النسيج الاجتماعي مغامرة محفوفة بالمطبات السياسية في ظل الخلاف حول حقيقة هذا الدور.

الحكم غير المباشر

في المقابل، أطلقت الإدارة البريطانية أوان الاستعمار، نظاماً سمته "الحكم غير المباشر"، بعدما اكتشفت أن السودان أكبر من أن تحكمه مباشرة فعملت على تطبيق قانون المناطق المقفولة على جنوب البلاد. كما اكتشفت أن زعماء القبائل يقومون على سلطات قضائية وإدارية ومالية ويمارسون حكماً تقليدياً على مجتمعاتهم وتتوفر لهم الطاعة، فسعت إلى تقريبهم لمساعدتها في حكم البلاد، ولم تجد صعوبة بسبب طمعهم في سلطة دائمة وخوفهم من مصادمة الحكام الجدد.

كانت النتيجة أن قبع الزعماء باختلاف رتبهم من نظَّار وعُمد ومشايخ ومقاديم ووجهاء المجتمع وزعماء الطوائف تحت جناح الإدارة البريطانية. كما أُدمجوا في الهيكل الإداري الاستعماري، مع الإبقاء على سلطاتهم التقليدية التي تطورت عبر التاريخ منذ عهد مملكة سنار وسلطنة دارفور، من خلال التعاون مع سلطات الاحتلال وفق قانون عام 1922.

وفي مقابل حصول هؤلاء على الحماية والرواتب المجزية والامتيازات، والاعتراف بهم كقادة محليين، فإن عملهم كان جمع الضرائب وتوفير العمالة الرخيصة وفض النزاعات القبلية، وقد أسهم العمل من خلالهم في جعل تكلفة إدارة الحكم منخفضة بل أسهم في زيادة إيرادات الإدارة البريطانية. إضافة إلى الحكم من خلال مؤسسات موجودة مسبقاً مثل الرئاسات التقليدية، والقانون العرفي، والحواكير والجودية، وهذا ما مكن من إنشاء سلطة تنفيذية ونظام قضائي يقبله الناس في ظل سلطة الإدارة البريطانية.

بعد الاستقلال انخفض دور زعماء القبائل التقليديين فقد حافظت الحكومة الوطنية على امتيازاتهم الاجتماعية والاقتصادية ولكنها استبعدتهم سياسياً، بسبب إعاقتهم للوعي السياسي  والاندماج وِفق هوية وطنية كانت نتيجة النضال ضد الاستعمار، فكون زعماء الطوائف أحزاباً سياسية مثل طائفة الختمية التي أنشأت الحزب الاتحادي الديمقراطي، وطائفة الأنصار التي أنشأت حزب الأمة.

وظلّ زعماء القبائل في المناطق البعيدة في دارفور وشرق السودان وجنوبه بعيدين من الاحتكاك مع الحكومة، بل تركت لهم حكم مجتمعاتهم المحلية الذي أخذ في التلاشي حتى حلَّ الرئيس الأسبق جعفر النميري الإدارة الأهلية في عام 1973، إذ وصفها نظامه بالتخلف والتبعية، وعندما طبَّق نظام الحكم الإقليمي استبدل الإدارة الأهلية بالحكم الشعبي المحلي.

خدمة النظام

لم يسنّ النظام السابق قانوناً جديداً للإدارة الأهلية، لكنه أنعشها عبر استخدامها في ترسيخ التنافس القبلي واستقطاب بعضها بمصالح اقتصادية وأمنية تحافظ على وجوده وتحميه في تلك المناطق البعيدة.

وقد استثمر مستفيداً من مكانتها لخدمة توجهاته وأهدافه ودعم مصالحه وتصفية خصومه، وخلق حالة عداء واضحة بين أبناء الإقليم المناوئين للنظام مما حملهم على التمرد. كما خلق حالة من التفرقة بين زعماء القبائل العربية والأفريقية فانقسمت القبائل وفق هذا التصنيف الإثني مدعومة بالتصنيف السياسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم يكن اتجاه الحكومة الانتقالية إلى سن قانون لتنظيم عمل "الإدارة الأهلية" بغرض درء النزاعات القبلية، هو الأول في التقرب أو استقطاب قيادات الإدارات الأهلية، فقد خاطب نائب رئيس المجلس العسكري، محمد حمدان حميدتي، حشداً من قيادات الإدارة الأهلية، بدعوة من سلطان قبيلة "الفور" في أبريل (نيسان) 2019، ومثله مع قبائل شمال السودان، كما تمت دعوة عدد كبير من زعماء القبائل من قِبل المجلس العسكري لمؤتمرٍ تشاوري في الخرطوم في يونيو (حزيران) من العام ذاته، مما أثار حفيظة قوى الحرية والتغيير التي فسَّرت ذلك التحرك على أنه تم بغرض دعم "الإدارة الأهلية" للمجلس العسكري ضدها.

ترسيخ القبلية

وإن كان وضع "الإدارة الأهلية" في دارفور بتعددها الإثني والقبلي واضحاً بسبب النزاعات التاريخية على الأرض أو حول المرعي ومصادر المياه المختلفة وربما الحدود الإدارية والحواكير (أراضٍ زراعية تضم بعض القرى يهبها السلطان لفرد معين بغرض الاستفادة من غلاتها) وغيرها، فإنه لا يقل تأثيرها في أنحاء أخرى من السودان. ففي شرق البلاد أيضاً ارتفع صوت قوميات عدة مثل قومية البجا التي تتفرع منها قبائل وعموديات ومشايخ معترضةً على مسار الشرق ضمن اتفاقية جوبا للسلام، الذي وُقِّع عليه في فبراير (شباط) 2020.

وتمتد هذه المجتمعات عميقاً في مناطق جغرافية نائية ومنغلقة حتى أن التواصل معهم يتم باللغات المحلية عبر العمد والمشايخ الذين يتبعون النظارة في المناطق المختلفة.

ومن دون الرجوع إلى هذه المجتمعات أعلن "المجلس الأعلى لنظارات البجا" والعموديات المستقلة بقيادة ناظر الهدندوة محمد الأمين ترك، الذي ينتمي إلى حزب المؤتمر الوطني، عن رفضه عبر بيانٍ وجهه إلى الحكومة الانتقالية والجبهة الثورية والوسيط دولة الجنوب والاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي.

وهذا يعني علو سلطة فرع من "الإدارة الأهلية" على فروع أخرى بسبب تهميش الإقليم في الحكومات السابقة، وترسيخ القبلية للاستقواء بها في عهد النظام السابق عبر النظَّار، وما وقوف مجلس نظارات البجا في وجه هذا الاتفاق الذي يسعى إلى معالجة أزمة شرق السودان، إلا تجسيداً لذلك.

جذور عُرفية

ترى بعض الأدبيات السياسية والثقافية السودانية أهمية "الإدارة الأهلية" لما للعرف من جذور ضاربة في المجتمعات القبلية، عرّفه المؤرخ السوداني محمد إبراهيم أبو سليم "العرف مبنيٌ على مزاج القبيلة ويحكم الأمور الشخصية والعائلية والجماعية التي تُحلُّ في إطار التقاليد وكان يرأسها ويديرها الشيوخ وكبار السن".

وكانت الحكومات السابقة تميل إليه لأنه قانون تقبل به المجتمعات لخلق التوازن الاجتماعي بين القوى الاجتماعية مما يساعد على استقرار القبائل ولأهميته في الحفاظ على الثقافة والنسيج الاجتماعي المحليّ. بينما برزت آراء مناوئة تلفت إلى أن السعي الحالي لتقنين الإدارة الأهلية هو لإخفاء هشاشة النظام من خلال إقامة تحالفات مع النخب التقليدية وهي ردة إلى ما كان يفعله النظام السابق بتأثيره الكبير في العرف القبلي فأصبح صنو الوصولية والمصلحة.

وعبَّر تيار من قوى الحرية والتغيير في عددٍ من المخاطبات الجماهيرية في وسائل التواصل الاجتماعي عن أن الحكام التقليديين هم من إرث النظام السابق وأن سيطرتهم وميلهم إلى الاستبداد سيقوِّض من التحول الديمقراطي، وأن "تركيز المجلس العسكري على "الإدارة الأهلية" هو لإضفاء شرعية سياسية للمجلس العسكري". بينما يرى فريق ثالث من مجموعة من المثقفين أن نظام "الإدارة الاهلية" يكلّف الحكومة موارد باهظة، ويشكِّل عوائق أمام عمليات التنمية والتحديث والتحول الديمقراطي.

انتزاع السلطة

وأمام هذه الاتجاهات المختلفة لا يمكن الجزم بأن "الإدارة الأهلية" قد تمثّل ضامناً لمرور الفترة الانتقالية بسلام ومن ثم الانتقال إلى مرحلة التحول الديمقراطي، ذلك أنه بالنظر إلى ظهور زعمائها المتكرِّر في النظام السابق وممالاتهم للسلطة الحالية أفقدتهم ثقة مجتمعاتهم.

وقد كان استخدام آليات فض النزاعات الأهلية سيكون أكثر جدوى من آليات الحكومة المركزية الرسمية، لقرب "الإدارة الأهلية" من بيئتها محل الأزمة، ولكن تغذيتهم للحرب المتواصلة في إقليم دارفور وطول الأزمة في شرق السودان زعزعت ثقة المواطن في قائد قبيلته وعشيرته، لذا لا بد من تطوير وتعديل القوانين ذات الصلة بهذه الأقاليم البعيدة، خصوصاً أن هناك اتجاه عام حملته مبادئ ثورة ديسمبر (كانون الأول) بتخفيف سلطة القبائل والطوائف. 

إضافة إلى ذلك، في ظل عجز الدولة عن الإحاطة بالحكم في هذه الأطراف والعهد به للإدارات الأهلية، يمكن أن تشتبك هذه الإدارات مع حكومات الأقاليم بعد تطبيق النظام الفيدرالي، إذ لا يُتوقع أن يمنع تقنين دورها من تصور انتزاع السلطة من يدها أو مشاركتها فيها.

وبعد تطبيق نظام الحكم الإقليمي الذي يلازمه نقد كثير، فسيكون التحدي في أن يضطلع بالأدوار نفسها التي كانت تقوم بها "الإدارة الأهلية" ولكن بكفاءة حديثة، مع الوضع في الاعتبار أن الحكام الإقليميين قد يسعون للحصول على المناصب وانتخابات المجالس على أُسسٍ قبلية. وعليه، فإن التعاطي مع المجتمع السوداني بعد التحول الديمقراطي قد لا يُضمن نجاحه بتقنين نظام "الإدارة الأهلية"، أو باستبدالها بنظام أقرب إليها في بلد لا تزال حروبه قائمة على العصبيات القبلية والإثنية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل