Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المجتمعات الطارئة"... عندما تعصف الحرب باستقرار البشر

صنعت أزمات المنطقة العربية حركة نزوح أدت إلى تغيير ديموغرافي ونشوء تجمعات جديدة قد تغير دول المهجر إلى الأبد

تقول إحدى أشهر قصص النزوح في التاريخ العربي، إن سداً في مأرب يعود عمره إلى نحو 3 آلاف عام، تعرض للتصدع ومن ثم الانهيار، لينتج من ذلك دمار القرى والمزارع، أعقبه فترة جفاف طويلة، مما دفع سكان تلك المناطق التي كانت ذات غالبية أزدية تعود إلى كهلان من سبأ من قحطان إلى النزوح شمالاً، لينتج من تلك الحركة صياغة الخريطة الديموغرافية لقبائل شبه الجزيرة العربية.

وعلى الرغم من الخلاف حول أسباب النزوح وتوقيته، وأيضاً حول مدى دقة الرواية من عدمها، فإن الأكيد هو أن هذه الأزمة حالها حال بقية الأزمات الإنسانية، ما إن تجبر الناس على الانتقال إلا وتهبهم أرضاً جديدة يضعون فيها أمتعتهم، ظناً منهم أنها أرض ستسعهم مؤقتاً إلى حين صلاح الحال من حيث جاؤوا، لكن ما إن يطول مكوثهم حتى يصبح ما يربطهم بالأرض الجديدة أكثر مما يربطهم بـ "الوطن" الذي عصفت الأزمة بما تبقى لهم فيه من ذكريات فيه، وتصبح الأرض الطارئة والمؤقتة مكاناً دائماً، ويصبح ساكنوها مكوناً جديداً يملك في هذه الأرض ما يملكه السكان الأصليون.

السد الذي انهار في العام 150 قبل الميلاد لم يكن آخر السدود المتصدعة، فكل حركة نزوح شهدها العالم العربي خلال العقد الماضي على وجه الخصوص، وأخرى سبقتها، كان وراءها سد من نوع ما تسبب بتجريف المجتمعات إلى مواقع جديدة، ظنت لحظتها أن تسكن مخيماً للنازحين الموعودين بالعودة، إلا أن المكوث طال بعد أن زرع شجرة بجوار خيمته، ليصبح ظل هذه الشجرة هي كل ما يملكه هذا المرتحل، ووطنه الذي سيبقيه فترة طويلة في هذه المكان.

اللاجئون المواطنون في الأردن

وفقاً لمفوضية اللاجئين، يحتضن الأردن 57 جنسية، ويقيم فيها نحو 762 ألف لاجئ من المسجلين، منهم 671 ألف لاجئ سوري، و67 ألف عراقي، ونحو 6 آلاف يمني، ومثلهم سودانيون، و800 صومالي، وآخرون من جنسيات أخرى.

وتكشف أرقام وإحصاءات الأمم المتحدة أن 17 في المئة من اللاجئين يعيشون في المخيمات، فيما يعيش الباقون في المدن، كما أن نحو نصف اللاجئين هم من الأطفال.

فقبل نحو 60 سنة كانت عمّان محطة أولى لرحلة اللجوء الفلسطيني، وبعد سنوات شُقت الشوارع وتناسلت البيوت، وتحول ساكنو الخيام إلى مواطنين، وأصبحت المخيمات مدناً كبيرة وشوارعها أسواقاً عريقة.

 

أما العراقيين فقد حلوا على الأردن مرتين، الأولى عام 1991، والثانية في أعقاب سقوط بغداد عام 2003، حيث توافد نحو نصف مليون عراقي إلى البلاد، استطاع عدد قليل منهم بعد سنوات الهجرة إلى دول غربية، لكن الأكثرية بقيت وانخرطت في المجتمع الأردني.

تعامل الأردن مع العراقيين كزوار مؤقتين، لا كلاجئين، لكنه في المقابل تجاهل تجاوز العراقيين مدة الإقامة الممنوحة لهم، وأبدت عمان قدراً كبيراً من الليونة في تطبيق قوانين الهجرة. 

وحصل مئات العراقيين على الجنسية الأردنية عن طريق الاستثمار، لكن آلافاً من المقيمين في المملكة باتوا يتعاملون مع أمر واقع وكأنهم أردنيون بحكم إقامتهم الطويلة في البلد.

ومن مظاهر اندماج اللاجئين العراقيين تحولت أحياء بأكملها في العاصمة عمان إلى أحياء عراقية خالصة أو ذات كثافة وأغلبية سكانية من العراقيين، تحديداً في مناطق الرابية وخلدا والجاردنز.

في المقابل، يراقب المسؤولون الأردنيون بقلق الأرقام المتواضعة التي ترصد العودة الطوعية للاجئين السوريين إلى بلادهم، وسط نتائج استطلاع صادرة عن مركز نماء للاستشارات الاستراتيجية حول نيات اللاجئين في العودة إلى ديارهم، والتي تشير إلى أن 15 في المئة منهم فقط مصرون على العودة، وساهم اعتقال السلطات السورية المئات بعد عودتهم بعزوف غالبيتهم عن العودة وتفضيلهم البقاء.

ويرى مراقبون أن الأردن هيأ نفسه لحقيقة مفادها بأن غالبية اللاجئين السوريين لن تعود إلى بلدها، وأن الأردن تحول إلى حاضنة للسوريين، وتحديداً من مناطق جنوب سوريا ودمشق وحمص، على الرغم مما يشكله ذلك من ضغط على البنى التحتية الأردنية.

ومع فتح الحكومة الأردنية المجال أمام اللاجئين السوريين لاستصدار رخص عمل، وجد كثيرون ضالتهم في مشاريع تجارية ناجحة أخذت تنافس التجار الأردنيين بجدارة، خصوصاً في مجال المطاعم والحلويات.

في مصر يتأثرون صعداً وهبوطاً

حال الاندماج التي أشرنا إليها تبدو جلية في مصر، فبحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، فإن وضع اللاجئين وملتمسي اللجوء في مصر يتأثر بالظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة، حتى الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة التي مرت بها البلاد أثرت في المصريين والمقيمين واللاجئين على حد سواء. وتشير المفوضية كذلك إلى أن الإصلاحات الاقتصادية في مصر منذ العام 2016 أثرت في الحياة اليومية للأفراد العاديين، لا سيما الفئات الأكثر ضعفاً، وبينهم البعض من اللاجئين وطالبي اللجوء، وذلك نتيجة الارتفاع الكبير لكلفة المعيشة.

وإذا كان السوريون هم الأكبر عدداً والأكثر تنظيماً في مصر، سواء أولئك المقيدين في جداول المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (نحو 133 ألف لاجئ وملتمس لجوء) أم المقيمين والذين تقدر وزارة الخارجية المصرية أعدادهم بما لا يقل عن 550 ألف سوري، فإن أحياء مصر عامرة بـ "مقيمين" آخرين قدموا إليها بسبل مختلفة ولأسباب عدة.

الأعداد يصعب حصرها، ولا يوجد إحصاء رسمي، لأن "المقيمين" لا يذكرون بالضرورة أثناء دخولهم أنهم جاءوا خوفاً على أسرهم من وضع أمني غير مستقر أو بحثاً عن فرصة حياة أفضل أو أمل في علاج قد يتحقق، والمعلومة الوحيدة حولهم هو ما ذكره الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قبل عامين في مؤتمر ميونيخ للأمن، أن مصر تحتضن نحو 5 ملايين شخص من دول عربية وأفريقية.

هذه الملايين اللاجئة في بلد الـ 100 مليون، اندمجت فيه حتى باتت لا تعبر عن نفسه إلا من خلال أدخنة لحم مندي يمني مع سمك عراقي مسكوف ومعهما إمبكبكة ليبية وشاورما سورية في شارع واحد، تتجاور فيه مطاعم المقيمين ذائعة الصيت بين المقيمين والمواطنين وكذلك اللاجئين، لتكون دكاكينهم تلك علامة على طول المكوث وربما ديمومته.

المغرب... لمن لم ينجح في العبور

للمغرب وضع خاص في مجال استقبال الهجرة، إذ شكل لأعوام بلد عبور إلى أوروبا التي تفصله عنها 14 كيلومتراً، ومنذ اندلاع النزاعات في دول جنوب الصحراء والأزمة السورية، استقبلت المملكة موجات هجرة عابرة من تلك البلدان، في حين قرر بعض المهاجرين الاستقرار في المغرب، لكن وبعكس دول أخرى، هناك عوامل عدة حدت من تشكيل تجمعات لهم.

وفي حين تتمكن الغالبية من المهاجرين من العبور إلى الضفة الشمالية للمتوسط عبر شبكات الهجرة السرية، تجبر الظروف بعضهم على الاستقرار في المغرب. وما شجع على ذلك، إقدام المغرب على تسوية وضعية المهاجرين السوريين منذ العام 2013، إذ فاق عدد المهاجرين الذين منحوا تصريح الإقامة 50 ألفاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استقر العديد من المهاجرين، سواء من الأفارقة أو السوريين، في المدن المغربية الكبرى، حيث ينشط السوريون منهم في مجال التجارة والصناعة، حتى أصبحت تنتشر في بعض المدن مطاعم متخصصة في المطبخ الشامي، ومحال بيع الحلويات السورية، في حين ينشط المهاجرون من جنوب الصحراء في مجال البناء والحدادة والخدمة في البيوت.

ويلفت مازن، المهاجر السوري المقيم في المغرب، إلى أن المهاجرين السوريين يقيمون تجمعات لهم في بعض المدن المغربية، وهناك حارات خاصة بهم. لكنه يشدد على محدودية هذه الظاهرة لقلة عدد السوريين في البلاد التي لا يتجاوز عددهم فيها 7 آلاف.

اليمن... النزوح إلى الداخل

عملت ست سنوات من النزوح القسري الذي خلفته الحرب الدائرة في اليمن على توسع مخيمات استقبال وإيواء نحو 4 ملايين شخص، قدموا مجبرين من مناطق الصراع بحثاً عن الأمان وفرص أفضل للعيش الكريم.

ولهذا لم يكن غريباً أن تخلق هذه المدة غير القصيرة من البقاء القسري في المخيمات الممتلئة بآلاف الأسر المكتظة، توسعاً ديموغرافياً انبثق عن محيط الخيام ودورات المياه المتنقلة، بعد أن ضاقت آلاف الأسر بها ذرعاً فحولتها شيئاً فشيئاً إلى شيء يشبه القرى الدائمة في مخيمات الجفينة والميل ولفج الفلج والزور والتواصل والخير وذات الراء بمحافظة مأرب (شرق البلاد) التي تضم أكثر من 90 مخيماً.

ويؤكد نائب مدير الوحدة التنفيذية لمخيمات النازحين في مأرب، خالد الشجني، أن حركة النزوح خلقت مدن جديدة وحياة شبه مستدامة كما هو الحال بمخيمي الجفينة (غرب مأرب) والميل (شمال)، الذي شهد ظهور منازل شعبية بناها النازحين، وتدبروا أمرهم بمدها بقنوات الصرف الصحي والكهرباء التي بدأت تمتد لها.

 

وأضاف، "المنازل البسيطة توضح أن النازحين تمكنوا من بناء بعض المرافق التي يحتاجونها كما هو الحال بمخيم الميل الذي شهد محيطه إنشاء أول مدرسة ومسجد في مدن النزوح الجديدة، إلا أن ارتفاع وتيرة الهجوم الحوثي على المدينة اضطرهم للنزوح مرة أخرى وترك مدينتهم".

ويقول النازح هارون بلال (34عاماً)، وهو أب لأربعة أطفال، إنه اضطر وأسرته إلى ترك قريتهم في منطقة أرحب (شمال صنعاء) وحمل ما تيسر من متاعهم والنزوح إلى مأرب.

ويؤكد أنه حصل قبل عام ونصف على عمل مناسب مع أحد مقاولي البناء، وهو ما ساعده في بناء منزله الخاص في محيط مخيم الميل للنازحين، إذ لا ينوي العودة بعد نهاية الحرب، "في حال توقف الحرب سأظل في مأرب التي وجدت فيها فرصة أفضل للحياة، ومنها تدريس بناتي اللواتي لم يكن ليتعلمن في حال بقائهم في أرحب".

وقد لا تبدو حركة النزوح التي نعايشها اليوم لافتة سوى في جانبها الإنساني، إلا أن التغييرات الكبيرة والمدن الجديدة التي ستطرأ على حدود المدن، والمجتمعات المستحدثة التي تخلق في قلب المجتمعات، هي أبرز مشهد يمكن أن يقود إلى تغيير الأماكن التي نعيش فيها اليوم كما يقول التاريخ، الذي أكد في أكثر من حالة أن المدن والدول التي نعيش فيها اليوم خلقت بسبب رحيل اضطراري قاد إلى أرض جديدة باتت وطناً مع مرور الوقت.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات