Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيرة نيلي بلاي أول مراسلة صحافية أميركية في رواية إيطالية

نيكولا أتاديو يسترجع أجواء القرن الـ 19 في "حيث تولد الريح"

عندما احتفلت غوغل بأول مراسلة صحافية أميركية نيلي بلاي (غوغل)

"ماذا سنفعل بفتياتنا؟ لا أتحدث عن الجميلات ولا الوريثات، لا أتحدث عن هؤلاء، ولكنني أتحدث عمن هن بلا موهبة، بلا جمال، بلا نقود. ماذا سنفعل بهن؟" هذه المقولة مستلة من تحقيق صحافي كانت قد أعدته أكثر النساء الأميركيات شهرة في بلادها، أواخر القرن الـ 19، وتدعى إليزابيت جاين كوكران، والمعروفة باسم نيلي بلاي، عام 1885.

إذاً في الرواية التي أعدها الكاتب الإيطالي نيكولا أتاديو عن تلك الشخصية الأميركية الظاهرة، في زمنها، والمترجمة من الإيطالية إلى العربية (ترجمتها أماني فوزي حبيش) والصادرة عن دار المتوسط (2021) سيرة نابضة بالحياة والتحديات والإنجازات لامرأة يتيمة، وفقيرة، ولكن ذات إرادة وذكاء وإقدام جعلتها قدوة لسائر النساء الأميركيات اللواتي كن يناضلن في سبيل استعادة حقوقهن المستلبة، من مجتمع أميركي كان لا يزال ذكورياً، وصحافة لا ترتضي للمرأة فيها عملاً أو مقاماً، واقتصاد كان لا يزال رأسمالياً متوحشاً لا مكان فيه لحقوق العمال، ولا لرفاهيتهم أو لعافيتهم.

يعرض الكاتب الإيطالي نيكولا أتاديو لحياة أشهر صحافية أميركية في القرن الـ 19، نيلي بلاي، بصيغة المخاطبة، خالطاً بين لحظات السيرة المتدافعة خطياً، من الصغر ووفاة الأب القاضي، إلى زمن الفتوة والعمل الشاق، فإلى التحديات المتتالية في عملها الصحافي، محررة ومحققة أعمالاً صحافية باهرة وزوجة صناعي ثري ومديرة لأعماله، بعد موته، وبين مشاعرها وردود أفعالها، وفقا لكتابات ومذكرات كانت نيلي بلاي قد تركتها خلفها وترجم بعضها إلى الإيطالية ولغات أخرى.

الشخصية المحورية

 تحكي الرواية بدء سيرة البطلة، بل الشخصية المحورية، نيلي بلاي، من ولادتها العام (1864) لأب قاض وأم مرهقة بأعباء عائلة كثيرة الأبناء، وكسيرة القلب من موت الزوج الأول، وطلاق الثاني. وكيف أن هذه الفتاة، أعني إليزابيت كوكران، ذات الـ 16عاماً بدأت مسيرتها برفض فكرة الزواج، لرغبة عارمة في إثبات نفسها والاعتبار من محنة أمها، وتقدمت من تلقاء نفسها من جريدة المحلة " أنباء بيتسبرغ"، وهي قارئة القصص الاجتماعية والواقعية المنشورة على صفحاتها، والمتأثرة أيما تأثر بأوصاف المدن الشبيهة بتلك التي تقيم بين جنباتها الرمادية القاتمة كأن "بين الورَش"، مثلما راحت تتأثر بالشخصيات التي قهرها الفقر، والظلم الاجتماعي، والسلطة، والتمييز العنصري بين السود والبيض، وبين الرجل والمرأة، ولا تزال تستحثها المقالات القليلة ذات النزعة النسوية، والتي كانت تنشرها رائدات لتحرير المرأة في حينه، من مثل بيسي برامبل وغيرها، على تمكين عزمها على تقرير مصيرها بنفسها، وترسيخ إيمانها بأن "المرأة وحدها، بإمكانياتها الشخصية، يمكنها أن تنجح" (ص:35).

وكان صودف، في الجريدة، كاتب مقالات محافظ، لم يألُ جهداً في الرد على طروحات بيسي التحررية، بأن كتب مقالة بعنوان "ما فائدة الفتيات؟" يعرض فيه وجهة نظره المحافظة والمتشددة في أن "محيط المرأة الصحيح، هو المنزل" (ص:37). ما استفز إليزابيت، فعزمت على الرد بمقالة ضافية أرسلتها إلى الجريدة نفسها، وذيلتها باسم مستعار هو "الفتاة اليتيمة الوحيدة". ولكن الأقدار شاءت ألا يمزق المقالة، ويرتئي إرسالها إلى مدير الجريدة الشاب جورج مادين، فيتلقفها الأخير، ويتنبه للموهبة الشابة والصوت المتمرد الكامن فيها، فيستدعيها للتعرف إليها، طالباً منها أن تعد مقالة يجرب فيها خامتها، في مقابل مادي، فكانت مقالتها الأولى بعنوان "معضلة الفتيات". وما إن نشرت المقالة حتى تدافعت الردود على الجريدة، تأييداً ورفضاً، وازداد الإقبال عليها أضعافاً مضاعفة، فتأكد للمدير مادين صدق حدسه.

وإن صح أن نيلي بلاي، لقب الشابة الأميركية الحرة (إليزابيت جاين كوكران) كانت قد أثبتت جدارتها في الصحافة دفاعاً عن المرأة وعن مكانتها وكرامتها في المجتمع الأميركي، فهي لم تهنْ لدى رفض إدارة الجريدة السماح لها بالسفر "وحدها" إلى المكسيك من أجل التحقق من عادات المكسيكيين وأنماط تفكيرهم وتقاليدهم. إذ اصطحبت معها والدتها في رحلة تاريخية كاشفة عن كثير من المغالطات والأفكار المسبقة التي كانت لدى الأميركيين عن مواطني المكسيك. وكانت، قبل تلك الرحلة التاريخية التي دونت تفاصيلها في كتاب دعته "ستة أشهر في المكسيك" وأهدته إلى مدير تحرير جريدة "أنباء بيتسبرغ" جورج مادين. وكانت، قبل ذلك، باشرت نوعاً جديداً في الصحافة المكتوبة، لم تسبق اليه، عنيتُ به التحقيقات السرية، إذ افتتحتها نيلي بتحقيق حول مصحة للأمراض العقلية والنفسية، في جزيرة بلاكويل، حتى لو تطلب ذلك منها أن تتصنع الخبل والجنون، لكي يتسنى لها الدخول مخفورة في سيارة الإسعاف، إلى ما قد تصفه لاحقاً بالجحيم، لهول ما رأت من امتهان لكرامة الإنسان، ومن إهمال للظروف الصحية والغذائية للمبتلين الداخلين إلى متاهة الفقدان: "إن بلاكويل أيضاً مكان عنف وتعذيب. الممرضات والحراس يطبقون معاملة غير إنسانية على المريضات: تخويف، عقاب جسدي، ثم هناك أيضاً جحيم داخل الجحيم، اللودج، ذلك المبنى الانتحار، ذو الرائحة المثيرة للغثيان، حيث الطعام أسوأ من الموجود في كل الأقسام، والعقاب الجسدي أكثر قسوة (الاغتسال بمياه مثلجة، كدمات بعصا المقشة، تعذيب من كل نوع)" (ص:89-90)

فضيحة المصحات

وبالطبع، حالما خرجت من المصحة، بنوع من التواطؤ مع الإدارات الرسمية، ونشرت خلاصة ما دونته وشاهدته في تحقيقها، انتابت المسؤولين الصدمة وجرّت الفضيحة المعنيين بالمصحة إلى النيابات، وأجريت إصلاحات فورية على صعيد النظافة والصحة ونوعية الغذاء وحسن التعامل مع المرضى. وكل ذلك تم بفضل تدخل نيلي بلاي وإحدى مغامراتها الصحافية البناءة. ولكن طموح نيلي بلاي ومراميها الأبعد في إثبات أن للمرأة في العالم الجديد مكانة ودوراً تؤديهما، نظير ما للرجل، جعلاها تطلب خوض مغامرة كبرى، وبمفردها هذه المرة، وهي السفر حول العالم بأقل من 80 يوماً، وهو الرقم القياسي المنسوب إلى جول فيرن الفرنسي، والمدون في كتابه "80 يوماً حول العالم".

وتنطلق رحلة بلاي، على نفقتها الخاصة، يوم 14 تشرين الثاني، عام 1889، لتعود يوم 25 يناير (كانون الثاني) عام 1890 إلى النقطة نفسها، أي في 72 يوماً، و6 ساعات، و11 دقيقة، و14 ثانية، متخطية الرقم القياسي لمواطنها جورج فرانسيس تراين. وكانت بلاي التقت في ختام رحلتها لدى مرورها بفرنسا بكاتب الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن، صاحب الإنجاز السالف، ليعود ويهنئها بإنجازها غير المسبوق، لحظة وصولها، في برقية مستعجلة.

ولما بات لنيلي مكانة معترف بها في الصحافة، وفي طول البلاد وعرضها، ولا سيما في الاستقبال الجماهيري الذي جرى لها لحظة وصولها إلى نيويورك، وعينت كاتبة في جريدة بوليتزر، رأت أن تتزوج من أحد الأثرياء الصناعيين، روبرت سيمان، عام 1895، ولكنه لم يلبث أن توفي، ووجدت نفسها للمرة الأولى مديرة لأحد مصانع مستوعبات الحليب الحديدية. ولم تتوانَ هذه المرة عن استلهام إبداعيتها بغية تحسين الإنتاج في المصنع، فابتدعت 21 اختراعاً مسجلاً باسمها، وابتكرت أشكالاً أخرى من خزانات النفط الحديدية، أسهمت في رواج إنتاج المصنع، إلا أن سوء إدارتها المالية، أودى بشركتها إلى الإفلاس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولكن المرأة الحرة هذه لم تنهزم، إذ عادت إلى مضمارها الأول، الصحافة، مراسلة حربية في النمسا وأوروبا إبان الحرب العالمية الأولى، وأسهمت بنقل صورها المأساوية العميمة، وعادت إلى بلادها عام (1918) مثقلة بآلام الجرحى والمبعدين، وأرواح ملايين القتلى في حروب لا طائل منها. وقد أسلمت الروح عام 1922، في نيويورك بمرض ذات الرئة، بينما كانت تعد مقالات عن الطفولة المعذبة وحقوق المرأة في الاقتراع.

رواية سيرة مصوغة من وجهة نظر ذكية، أخذ فيها الكاتب الإيطالي بالظروف الاجتماعية والاقتصادية المحيطة بالشخصية المعنية (نيلي بلاي) أخذه بالانفعالات الملازمة للتحولات الكبرى أواخر القرن الـ 19 في الولايات المتحدة الأميركية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة