Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكتالونية ميلينا بوسكيتس تروي خراب الزمن... والحبّ والجنون

ترجمة عربية اولى لرواية رائجة عالميا

مشهد كاتالوني (يوتيوب)

قليلة، نسبيًّا، هي الروايات الإسبانية التي يترجمها العرب، هم يحبّون الشِّعر الإسبانيّ أكثر، ويُقبلون على ترجمة الأدب الأوروبيّ، الفرنسيّ والألمانيّ والإنجليزي وغيرها، وكذلك الأميركيّ. أمّا المُترجِمون عن الإسبانية، فغالبيتهم يذهبون إلى أدب أميركا اللاتينيّة- الجنوبية، المشاهير منهم غالباً، أصحاب الواقعيّة السحرية. هذه قضية في حاجة إلى وقفة مطوّلة ومعمّقة ليس هذا مكانها، فنحن هنا مع ترجمة مدهشة لرواية مدهشة للروائيّة الكتالونيّة ميلينا بوسكيتس وتحمل عنوان "وهذا أيضًا سوف يمضي". هذه الرواية المُدهشة التي لم يتمّ الانتباه إليها كما ينبغي. وهنا ثمة إطلالة على أبرز مُفردات الرواية وعوالمها. (دار مسكيلياني، تونس).

المترجمة والكاتبة الفلسطينية الأردنية نهى أبو عرقوب، التي عرفنا لها ترجماتٍ عدة أبرزها "الكاتب والآخر" لكارلوس ليسكانو، و"الأعمال الكاملة وقصص أخرى" لأوغستو مونتيروسو، وعدد من قصص الأطفال... تقدّم هنا هذه الترجمة الراقية والنابضة حيويّة لرواية هي الأولى للكاتبة بوسكتس (وُلدت في برشلونة العام 1972)، وروايتها هذه لاقت نجاحًا كبيرًا، وتُرجمت إلى لغات عدّة، وتصدّرت قائمة الكتب الأكثر مبيعًا عند صدورها في العام(2015).

"كل شيء سيمضي، الألم والحزن يمضيان هُما أيضًا، كما تمضي البهجة والسعادة" تقول بطلة الرواية السيدة بلانكا. نحن حيالَ نصّ روائيّ تلتقي فيه الرومنسية والحسية

والسخرية المريرة والعبث بكل شيء. كاتبة جريئة في تعرية جوانب من عالم المرأة وعلاقاتها. وتأتي ترجمة نهى أبو عرقوب لها على قدر عالٍ من الجرأة في تطويع اللغة العربية لهذا العالم، وابتداع مفرداتها وعباراتها ذات الخصوصيّة والتميُّز البارزَين، ضمن أداءٍ لُغَويّ دقيقٍ، نحوًا وصَرفًا.

السيدة بلانكا، كاتبة في الأربعين من عُمرها، نتعرف عليها فيما هي تدفن أمّها، تلك المرأة التي لم تكتشف شدة تعلقها بها وتأثيرها في كل تفاصيل حياتها إلا بعد فقدانها، وكأن الموت منبه يدق ساعة الخروج عن الطور الأمومي، فتروح بلانكا تبحث عن ذاتها بين من بقي لها في الحياة، عُشّاقًا وصديقات وأبناء، فتعرض حياتها وحياة الأمّ، من خلال حوارات وتأملات في حياتهما، حياة موغلة في الغرابة، الحب والجنس والسفر.

تعبّر الكاتبة- المؤلّفة عن ذلك بطرق عدة، تقول "نقيض الحياة ليس الموت، بل الجنس". وفي تأمّل آخر نقرأ "نحن اليائسين نمارس الجنس بسبب يأسنا"، وتذهب إلى أنّ "قوّة الرجال الجسدية يجبُ ألا تُوظَّف إلا في منحنا اللذة، في اعتصارنا حتى آخر قطرة من ألم أو خوف فينا". وترى أنّ المهووس بالطعام يكون "قليلَ ممارسة الجنس"... و "الملابس والطعام والمال والبحر والسلطة... بدائل للجنس". والجنس هنا ليس سوى تعبير عن هشاشة السيدة بلانكا واغترابها.

المترجمة تقدّم هذه الرواية بعوالمها الغريبة، في لغة سائغة وجميلة، كأنّما هي المؤلّفة، فنقرأ ما يشبه سيرة ذاتية وجماعية لامرأة غريبة الطباع، امرأة تستهجن، منذ الفقرة الأولى، كيف أنّها قد بلغت سن الأربعين، وقد فقدت أمّها، وتتجسّد الرواية في فصول من مناجاتها لها بحبّ كبير حينًا، أو أنّها تلعنها حينًا آخر. وفي المُحصّلة

فهي تروي حياة كل منهما، حياتَين متداخلتين ممتلئتَين بالحبّ والجنس، والمغامرات الإروتيكية العابثة، وبالرعب أيضًا.

وتشتغل الكاتبة، عبر شخوص الرواية، في تأمّل مسائل وأسئلة كثيرة، أبرزها سؤال ماهيّة الحياة والموت، والحبّ والكراهية، لتقدّم تَصوّرها للزمن، تقدّم ذلك بالعمق والبساطة عن الحياة والموت في المستشفى حيث ترقد والدتها قبل رحيلها. وضمن تأمّلاتها تتحدّث إلى نفسها عن العلاقة الملتبسة بل غير الحميمة مع الأم، لكنّ هذه العلاقة لا تمنع كون الأمّ هي "الحب الوحيد"، وفي تأمّلاتها تتذكّر غياب الحبّ بين الأم وأمّها- جدة بلانكا.

كما تقدّم الروائية جوانب من الحياة الإسبانية، ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، فتُطلّ على حياة المستوطنين الأوائل، المهاجرين من المثقفين و"الهيبيّين"، فترسم صور "المثقفين والفنانين الذين وصلوا إلى "كاداكس" في الستينيات، فعَمَروها بأناس جذّابين موهوبين توّاقين إلى تغيير العالم، وإلى التمتّع بالحياة على وجه الخصوص"، فنحن حيال حركة تجديد أو تغيير، وعلى الأغلب هي حركة من حركات اليسار التي شاعت في الستّينيات والسبعينيات... إذ إنّها تتناول "الهيبيز وجيل الستينيات والحرية الجنسية وسلطة الشباب..."، وتفرد حيّزًا للجسد الذي تسمّيه باختصار "الجنة المفقودة"، معتبرة أن "الحب يجعلنا نمتلك الأشياء والمدن التي زرناها..."، وأنّ "الحب وحده هو المخلص". ومن بين خُلاصاتها في هذا الباب "الشيء الوحيدُ الذي لا يسبّب الخدَر والصداع، ويبدّد الموتَ بصفة موقتة- وكذا يبدّد الحياة- هو الجنس... أيضًا".

وفي نهايات الرواية، كما في بداياتها، مقدار كبير من الدهشة والمُفاجأة. إذ نحن حيال مشهد فانتازيّ، حيث تقودنا الراوية في رحلة مدهشة، صعودًا وسط طبيعة فائقة

الجمال، وارتقاءً إلى جدران صومعة بيضاء، محاولة فتح باب الصومعة بقوة، ثم تقف أمام قبر أمّها وتهمس لها "أمّي، أمّي"، وتعود إلى الباب الخشبيّ تطرقه بعنف. فتحدث مفاجأة كأنّها الحلم، إذ ترى ضَوءًا تعرفه، ونرى الأمّ في خروجها من قبرها وصعودها قاربًا على ميناء، وتلتفت إلى البطلة مخاطبة إياها بالعبارة التي هي عنوان الرواية "وهذا أيضًا سوف يمضي".

في "الخاتمة"، وفي مشهد هو بين الخيال والواقع، لكنه أقرب إلى الفانتازيا، نكتشف حجم الألم والحزن اللذين عاشتهما مع والدتها في المستشفى، ليلة موتها، حيث لم تشهد اللحظات الأخيرة معها، فتمضي في توبيخ نفسها، على الرغم من أنّ الطبيب أخبرها بأنّ أمّها قد تحسّنت، فراحت هي لتستريح من السهر الطويل، وفي غيابها وقع الموت. فتعود للتأمّل في كل ما مضى في حياة الأمّ، البهجة والسعادة، حب الفن والكتب والمتاحف والباليه، وروح التصوّف التي تحكم جوهر بلانكا ووالدتها، وجوهرَ الرواية أساسًا.

أخيرًا، وعن الشخصية الرئيسة "بلانكا"، تلخّص الكاتبة علاقتها معها بالقول "هي روحي. بنيتُ الشخصية بناء على صورتي عن نفسي. هكذا أرى نفسي من الداخل. يجب أن أعترف أنها لم تكن كتابة علاجية، لأنني لا زلت غاضبة وحزينة ومتألّمة لفقد أمي. لقد بكيت كثيرًا وأنا أكتب تلك الصفحات، لكنني أيضًا ضحكت بجنون. كأنها كانت بجواري".

المزيد من ثقافة