Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سارتر يخوض السينما رغم جحودها تجاهه في "توقفت الألعاب"

حتمية انتصار الأقدار حين لا يجدي الوعي المتأخر نفعاً

جان بول سارتر (أ.ف.ب)

يكفينا أن نراجع السيناريو الذي كتبه جان بول سارتر خلال النصف الأول من ستينيات القرن العشرين عن حياة "فرويد" ولم ينفذ أبداً مع أنه كتب أصلاً للمخرج الأميركي جون هستون وقبض سارتر حقوقه عليه، حتى نتذكر كم أن الفيلسوف والكاتب الفرنسي الكبير لم يكن محظوظاً مع السينما. بالنسبة إليه كان الفن السابع جاحداً ولم يبادله حباً له كان غمر فؤاده وعقله حتى قبل أن يقرر التوجه إلى الأدب والمسرح والفلسفة. ونعرف أن سارتر قد كتب مقالات عدة عن أفلام أحبها ومنها مقاله البديع عن أول فيلم للروسي تاركوفسكي شوهد في أوروبا، "طفولة إيفان". غير أن هذا كله لم يشفع له وبقيت السينما تناصبه العداء فاكتفى بكتابة سيناريوهات معظمها لم يتحول أفلاماً ما جعله ينشرها كتباً على غرار ما فعل مع سيناريو فرويد. بل إنه أحياناً أمام عدم رضاه عن سيناريوهات قليلة من كتابته تحولت أفلاماً، لم يتردد في تحويلها كتباً أشار على أغلفتها إلى أنها سيناريوهات لكنه لم يبدُ متحمساً لذكر الأفلام التي اقتبست عنها بالفعل. وينطبق هذا بصورة خاصة على السيناريو الذي كتبه عام 1943 وحوّله جان ديلانوي إلى فيلم سينمائي في عام 1947 أي في العام نفسه الذي نشر فيه سارتر النص في كتاب مستقل، وكان بعنوان "توقفت الألعاب".

سكوت سارتري فصيح

لم يتحدث سارتر كثيراً عن الفيلم مع أنه كان من تلك الأفلام النادرة التي حملت اسمه ونالت قسطاً لا بأس به من النجاح. ولعل حاله في هذا حال نجيب محفوظ الذي كان يبيع قصصه، من دون أن يكتب سيناريوهات لها، ثم يستنكف عن أية إشارة إليها معتبراً أن علاقته بالأمر توقفت عند السطور الأخيرة من النص الأدبي. ومع ذلك إذ نشاهد فيلم ديلانوي ونقرأ سيناريو سارتر سنجدنا حقاً أمام نص يحمل الكثير من الأجواء والأفكار السارترية التي يمكننا العثور عليها في ثنايا رواياته وقصصه ومسرحياته، بل حتى وكما سنرى بعد سطور، في ثنايا فلسفته الوجودية التي كانت شغله الشاغل يوم كتب السيناريو. ولنشر هنا إلى أنه كتبه في باريس يوم كانت هذه تحت الاحتلال الألماني النازي وتعبق برائحة الخيانة والغدر والاعتقال والموت. ولعل في وسعنا أن نشم تلك الرائحة في ثنايا السيناريو ما يفسر أن سارتر لم يجرؤ على طباعته، وكذلك لم يجرؤ ديلانوي على أفلمته إلا بعد انقضاء الحرب والاحتلال وهزيمة النازيين والخونة الفرنسيين في ركابهم.

جريمتان لا واحدة

تبدأ "أحداث" السيناريو، والفيلم بالتالي، في العالم الآخر حيث يلتقي الراحل بيار دومين بالراحلة إيف شارلييه بعد موتهما غدراً هما اللذان لم يكونا يعرفان بعضهما البعض في هذه الحياة الدنيا. غدراً لأنهما ماتا ضحيتين لجريمة ارتكبت في حق كل منهما: هي، إيف تسممت على يد زوجها أندريه الذي يرأس الميليشيات المناصرة للمحتلين. وأندريه كان تزوجها من دون أن يحبها، طمعاً في دوطتها الوفيرة، فالسيدة امرأة ثرية. أندريه في الواقع مغرم بأختها لوسيت ومن هنا يعمد إلى قتلها بالسم كي يرثها ويتزوج أختها. وهو يفعل ذلك تماماً في خطة جهنمية تجعلنا نلتقي بها أول ما نلتقي في الفيلم وهي تحتضر. وفي الوقت نفسه يكون بيار قد وقع بدوره ضحية لخيانة صديقه لوسيان العضو مثله في مجموعة سرية تسمى "الرابطة" وتخطط لاغتيال من نتعرف إليه في السيناريو باسم "الوصيّ". وإذ تنفق "الرابطة" وقتاً وجهداً حتى يقوم بيار باغتيال "الوصيّ" تأتي خيانة لوسيان لحساب "الميليشيات" حيث يشي به إلى "الوصيّ" ما يؤدي إلى اعتقاله وقتله. وهكذا يلتقي بيار وإيف بعد موتهما.

معرفة متأخرة

يلتقي بيار وإيف أولاً في "مكتب تسجيل الموتى" حيث يكون كل منهما في طريقه للتوقيع على إفادة يقر فيها بأنه ميت بالفعل ما يسمح بنقلهما إلى العالم الآخر. لكنهما هنا ومن خلال المقارنة بين موتيهما يدركان أن الموت كان بفعل القتل المتعمد والخيانة وليس نتيجة لموت طبيعي كما كان يخيّل إليهما أول الأمر. هنا وإذ كان عليهما أن يمضيا فترة انتقالية يتمكنان فيها من التجوال بين الأحياء إنما من دون أن يتمكن أي منهما من التواصل مع هؤلاء، يكتشفان إضافة إلى هذا أن صورتهما لا يمكن أن تنعكس الآن في المرآة ناهيك عن أن ليس في إمكان الأحياء رؤيتهما ولا رؤية أية ظلال لجسديهما. لقد باتا غير مرئيين على الإطلاق. أما مع أنهما يعيشان كل ما يعيشه الأحياء ويتابعان كل ما يطرأ على هؤلاء من غراميات وشؤون حياتية وضروب غدر. يطلعان على كل الأكاذيب والعواطف المزيفة ويحزنان لما يصيب معارفهما وأحبائهما منها، لكنهما غير قادرين على إخبارهم بضرورة الابتعاد عنها. فالتواصل بين العالمين مفقود تماماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عودة مشروطة من العالم الآخر

فماذا يفعلان؟ إن قوانين تسيير الحياة بعد الموت تعطيهما فرصة العيش أحياء طوال أربعة وعشرين ساعة إن هما أُغرما حقاً ببعضهما البعض ما يتيح لهما معاً أن يعودا إلى الحياة الدنيا طوال تلك الساعات. وهكذا حتى وإن كان بيار وإيف قد وقعا في حب أحدهما الآخر بالفعل، فإن الوقت المتاح لهما لا يعطيهما ما يكفي من الفسحة لكي يعيشا غرامهما حقاً، فكل واحد منهما كان قد ترك وراءه حين مات قدراً لا بأس به من مشكلات وقضايا يتعين عليه الآن حلها لكي لا تكون حياته قد ضاعت سدى. وهكذا تسرع إيف إلى أختها لوسيت محاولة إقناعها بأن أندريه الذي تزمع على الاقتران به الآن كان هو الذي قتلها بالسم وعليها أن تبتعد عنه. بيد أن لوسيت لا تقتنع بهذا قائلة لإيف: "هذا مستحيل فأنا أعرف أندريه بأكثر مما تعرفينه". وهكذا يغمر اليأس إيف. وفي المقابل تماماً كما يحدث مع إيف، يخفق بيار في إقناع رفاقه بخيانة لوسيان بل إنهم يتهمون بيار نفسه بالخيانة وبأنه من خلال لقاءاته بـ"العميد" كان قد باع الثورة وفضح "الرابطة"... ومن هنا لا يترددون دون طرده منها متخذين قراراً حاسماً بمواصلة الثورة بعد أن تخلصوا من ذلك "الخائن".

الثورة في الطريق الخطأ

ويتلو ذلك مجموعة أحداث منها إنقاذ صبية هي ابنة رفيق لهما في مكتب الأموات كانا وعداه بتسهيل شؤون حياتها. لكنهما بعدما ينجزان هذه المهمة معاً يعود مصيرهما إلى نقطة البداية حين يقرر بيار مساندة رفاقه في "الرابطة" ضد "الوصيّ" وقواته على الضد من نصائح إيف له بعدم التورط في الأمر وتكون النتيجة أن بيار "يُقتل" من جديد على يد لوسيان نفسه، بينما يقدم أندريه مرة أخرى على قتل إيف، إذ اكتشف رغبتها في التصدي لمخططه الإجرامي.

بالنسبة إلى سارتر، من الواضح هنا أننا أمام مصائر لا يمكن تغييرها بعد أن يكون الأوان قد فات. فالوعي إذ يأتي متأخراً لا يكون مفيداً إلا على الصعيد المعرفي الذي قد لا يكون من شأنه أن يبدل من مسار أي وضع حقيقي. ولعل العبرة الفلسفية السارترية التي يمكننا استخلاصها من هذه الحبكة تتعلق بتلك "الحتمية" التي كانت ترتبط بوجودية سارتر في ذلك الحين. الحتمية التي تأتي نتيجة للاختيار الذي يقوم به المرء في حياته، لا سيما في اللحظات الحاسمة من تلك الحياة، سواء كان اختياراً جيداً أو سيئاً... وبصرف النظر عن حسن أو سوء الدوافع التي تسيّر المرء على درب تلك المصائر. ففي نهاية الأمر، ليس ثمة في ذلك الاختيار ما يتعلق بالأخلاق أو بالنوايا، أو حتى بالحقيقة. بل إن كاتبنا الوجودي الكبير يقول لنا في هذا السيناريو وبكل وضوح إن المصير سوف يكون هو المنتصر في نهاية الأمر على قوة الحياة مهما كانت جبارة تلك القوة. وهو ما لا يتوقف جان بول سارتر (1905–1980) عن قوله في مجمل أعماله، كما نعرف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة