Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصطفى ماهر شيخ المترجمين نقل بين الألمانية والعربية 100 كتاب

عميد الدراسات الجرمانية في العالم العربي مارس الرقابة الأخلاقية في الترجمة حرصاً على ذائقة القارئ

بين الأنا والآخر: لوحة للرسام هيثم شكور (صفحة الرسام على فيسبوك)

ينتمي الأكاديمي والمترجم المصري مصطفى ماهر الذي غيبه الموت أول من أمس، إلى جيل المؤسسين، فهو الذي أسس أول قسم للدراسات الألمانية في العالم العربي، وترأس هذا القسم في كلية الألسن ما يربو عن العشرين عاماً. وهو أيضا شيخ مترجمي الألمانية، وأول من نقل عيون الأدب الألماني إلى العربية مباشرة، وأغزر من ترجم عن لغة غوته، وأكثر المترجمين حضوراً على الساحة الثقافية العربية منذ الستينيات. ولم تقتصر جهود الدكتور ماهر على التأسيس والتعليم والترجمة من الألمانية إلى العربية (نحو ستين عملاً)، بل نقل إلى الألمانية نحو أربعين عملاً من الأدب والفكر العربي. كان الفقيد صاحب معرفة موسوعية، وعطاء علمي هائل، وإنجاز ضخم لا يباريه فيه أحد، وكأنه كان فريقاً من المترجمين والباحثين، يكتب، ويترجم، وينشر المقالات عن الأدب الألماني، وكذلك دراسات تنظيرية في علم الترجمة والتواصل الثقافي، ويشرف على المئات من رسائل الماجستير والدكتوراه. والمرء يتساءل حقاً: من أين كان يأتي بالوقت اللازم لإنجاز هذا كله؟

ولد مصطفى ماهر في حي شبرا القاهري عام 1936. تعلم في المدرسة اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ثم التحق بكلية التربية، وعمل بعد تخرجه معلماً للغة الفرنسية في إحدى المدارس الثانوية في القاهرة. في عمر التاسعة عشرة بدأ في تعلم الألمانية، وسافر في عام 1958 إلى مدينة ميونيخ والتحق بدورة تدريبية في معهد غوته وجامعة المدينة. بعد حصوله على دبلوم معلمي اللغة الألمانية واصل دراسته في كولونيا ونال درجة الدكتوراه في عام 1962، وفي العام نفسه عاد مع زوجته السيدة إلزا إلى القاهرة، ليكون أول دارس مصري حاصل على الدكتوراه في اللغة الألمانية وآدابها. وعلى الفور شرع في تأسيس قسم اللغة الألمانية في مدرسة الألسن (التي تحولت لاحقاً إلى كلية)، وترأس هذا القسم من عام 1965 حتى عام 1987.

في مقالات منشورة بالألمانية اعتبر ماهر اتصاله بطه حسين أول حافز له لكي ينشط في مجال الترجمة. وفي مقالة له بالألمانية بعنوان "25 عاماً من الترجمة" كتب أن طه حسين تحدث أمام معلمي اللغة الفرنسية الشبان في عام 1953 (كان ماهر في السابعة عشرة من عمره)، وحثهم على عدم الاكتفاء بتدريس اللغة، بل السعي إلى تعريف القارئ العربي بثمار الفكر الأوروبي. شرع ماهر عندئذ في الترجمة من الفرنسية، وكان مما ترجمه مسرحية "إيفيجينيا" لراسين. لكنه سرعان ما توجه إلى الترجمة من الألمانية بدءاً من عام 1961، وقدم عدة ترجمات من عيون الأدب الألماني القديم، ومنها أعمال لغوته ولِسينغ وكلايست، ثم انتقل إلى الأدب الحديث والمعاصر، فقدم للقارئ العربي ترجمات، منها على سبيل المثال رواية "القضية" لفرانتس كافكا، والرواية الضخمة "لعبة الكريات الزجاجية" لهِرمن هسه (نوبل 1946)، ومسرحية "زيارة السيدة العجوز" لفريدريش دورنمات، ومسرحية "بيدرمان ومشعلو الحرائق" لماكس فريش، ورواية "العاشقات" لإلفريده يلينك (نوبل 2004)، ومسرحية "كاسبر" لبيتر هاندكه (نوبل 2019). وكان في المعتاد يزود ترجماته بمقدمات تمهيدية وهوامش عدة تشرح السياق التاريخي والثقافي للنص المترجم.

أنطولوجيا الأدب المصري

ولم تقتصر جهود مصطفى ماهر على نقل الثقافة العربية إلى الألمانية، إذ انتقل إلى الترجمة إلى اللغة الألمانية، فنقل كتاباً عن القاهرة بمناسبة احتفالات عيد تأسيسها الألفي، ثم انتقى وترجم وشارك الألماني هِرمن تسيوك في إصدار أول أنطولوجيا للأدب المصري الحديث (370 صفحة)، وترجم ماهر في الأنطولوجيا قصصاً ليوسف إدريس وإحسان عبد القدوس وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف السباعي وغيرهم. ومما ترجمه إلى الألمانية لاحقاً: مسرحية "يا طالع الشجرة" لتوفيق الحكيم، والجزء الثاني والثالث من سيرة طه حسين "الأيام"، كما ترجم مع النمساوي أولريش مولر سيرة بني هلال اعتماداً على ما جمعه الشاعر عبد الرحمن الأبنودي من هذه السيرة الشفهية.

وفي سنوات التسعينيات تفرغ ماهر لترجمة معاني القرآن الكريم إلى الألمانية بتكليف من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر، معتمداً على "المنتخب في التفسير" الذي أصدره المجلس. وفي مقال له نُشر بالألمانية عام 2006 تحدث ماهر عن إشكاليات ترجمة القرآن الكريم، وشرح منهجه في الترجمة الذي يبتعد عن الترجمة الحرفية التي أدت إلى أخطاء جسيمة في الترجمات السابقة بحسب رأيه. ومن الأمثلة التي تبين فلسفته في الترجمة، نذكر ترجمته للآية رقم 54 من سورة البقرة: "وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". ففي حين التزم مترجمون سابقون الترجمة الحرفية، ومنهم ماكس هينينغ على سبيل المثال، نقل ماهر المعنى، فبدلاً من ترجمة "باتخاذكم العجل" حرفياً، قال ما معناه: عبدتم العجل، وكذلك: "اقتلوا أنفسكم" ترجمها اعتماداً على تفسير "المنتخب" بمعنى قتل النفس في جهادها نحو التوبة. كما اعتمد ماهر ترجمة كلمة "الرب" Gott الشائعة في الألمانية بدلاً من كلمة "الله"، للتأكيد أن رب المسلمين والمسيحيين واليهود واحد.

وكانت ترجمة ماهر لرواية يلينك "العاشقات" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2006) قد أثارت ضجة كبيرة عند نشرها، إذ جاءت "أخلاقية" ومحافظة جداً في مجملها، تحفل بحذف ما اعتبره المترجم "مبتذلاً" أو "مثيراً للقرف". وكنت قد أجريت معه حواراً حول هذه الترجمة، سألته فيه لماذا اختار هذا الأسلوب في تقديم "العاشقات" بالعربية، فكانت إجابته إنه فعل ذلك "لكي تصبح مناسبة للمجتمع الذي ستقدمها فيه". كان رأيه: "هناك أشياء وجدت أنها لا تخدم هدف الترجمة الأساسي، وهو أن يفهم الناس من هي يلينك، إذا قرأ الناس النص كما هو، سيتصورون أن الكاتبة عاهرة وقوادة وقليلة الأدب! ليست هذه صورة صحيحة. أنا اعتقدت أن القيمة الفنية ليلينك ستكون محفوظة، بل ستكون أقوى إذا استبعدت الكلمات التي لن تفيد القارئ العربي، بل ستعطيه انطباعاً معكوساً عن الثقافة الغربية". هذا المنهج الإشكالي قد لا يوافقه عليه كثيرون، إلا أنه ينبثق من فهم ماهر لعملية الترجمة، ورأيه بشأن حق المترجم في التأويل والشرح، و"الوساطة" بين ثقافتين، وهو كان يؤكد دائما أنه لا يقدم "الترجمة الوحيدة الممكنة"، وأن هناك دائماً بدائل مطروحة أمام المترجم، مثلما أوضح في مقال له بالألمانية بعنوان "حدود ما يُسمى بالترجمة الأمينة" (1997).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا الإنجاز الضخم الذي يقارب المئة عمل من وإلى الألمانية كان بالطبع موضوعاً لدراسات نقدية عدة، من أبرزها الدراسة التي أنجزها الباحث السوري عبده عبود في الثمانينيات، ونال عنها درجة الدكتوراه من جامعة فرانكفورت، وكان موضوعها "الرواية الألمانية واستقبالها في المنطقة العربية". وبحسب عبده عبود فإن العديد من ترجمات ماهر تفتقد "التناظر الأسلوبي والجمالي مع الأصل الألماني". وفي رأيي أن هذا النقد، القابل للمناقشة، لا يقلل أبداً من إنجاز مصطفى ماهر الضخم والرائد والمؤسس الذي استحق عنه بجدارة عدة جوائز من مصر وألمانيا والنمسا.

ذكريات الدراسة

ومن ذكرياتي عن الدكتور مصطفى ماهر، أنني عندما درستُ في كلية الألسن - جامعة عين شمس في مطلع الثمانينيات، كان لمحاضراته مذاق يختلف تماماً عن أي محاضرات أخرى. على الرغم من سمعته الأسطورية كأهم أساتذة الأدب الألماني في العالم العربي، كان يأتي إلى الكلية بسيارة "فولكسفاغن" قديمة، كنا نتعجب أنها لا تزال تسير، ويدخل إلى المحاضرة– متأخراً بعض الشيء- بشوشاً متواضعاً، ليس فيه أي سمة من سمات السلطوية التي اتصف بها كثير من الأساتذة الأقل منه علماً بدرجات كثيرة. لم يكن يتحدث كثيراً في "المنهج"، بل كانت محاضراته أشبه بحديث مفتوح مع أبنائه الطلبة، في موضوعات تبدو بعيدة من موضوع الدراسة، لكنه كان بلمسة سحرية في نهاية كلامه، يربطها بموضوع محاضرته.

أتذكر أنه مرة أطال في الحديث عن فيلم السهرة في اليوم السابق، وكان فيلم "الغيرة القاتلة"، أول أعمال المخرج عاطف الطيب. راح يحلل الفيلم، ويقارن بينه وبين "عطيل" شكسبير، ليدفعنا إلى التفكير في مفهوم اقتباس العمل الأدبي وتمصيره، ودور الترجمة في ذلك، وإلى اختلاف العمل السينمائي عن العمل الأدبي. كان يحاول الابتعاد بطلابه عن أسلوب "الحفظ" السائد في التعليم المصري، ويدفعنا إلى التفكير الحر، وإلى تبني مفهوم شامل للثقافة. منه سمع عديد من الطلاب اسم بيتهوفن وشوبرت وموتسارت ربما للمرة الأولى في حياتهم. كان يدفعنا إلى الذهاب إلى الحفلات الموسيقية الكلاسيكية، ويلفت انتباهنا إلى مواعيدها، لا سيما الحفلات المجانية التي كان يقيمها معهد غوته بالقاهرة. واعتاد أن يقول ساخراً: سائق الأتوبيس الذي لا يتوقف عن استخدام آلة التنبيه – لو كان سمع بيتهوفن، لما استخدمها قط! هكذا كان معلم الأجيال الدكتور مصطفى ماهر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة