Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التباعد الاجتماعي... مسافة الأمان التي تكسر القلوب

55 في المئة من التواصل غير المنطوق بين الناس يعتمد على تعبيرات الوجه لا سيما العينين والفم

التباعد الاجتماعي أحد تداعيات زمن الوباء  (أ ف ب)

في أحد محلات السوبر ماركت قال أحد الواقفين، "نصف كيلو جبن أبيض وربع كيلو جبن رومي لو سمحت"، نظر البائع إلى العملاء المتجمهرين أمام ثلاجة الجبن وسأل، "من الذي تحدث الآن؟" رفع العميل الذي تحدث يده، وقال، "أنا"، قال البائع وعلامات الضيق ظاهرة على عينيه، "يا جماعة لو سمحتم على من يتحدث أن يرفع يده منعاً للالتباس".

مما لا شك فيه أن هناك التباساً حادثاً في التواصل بين الناس وبعضهم البعض في الأماكن المزدحمة، حيث مصدر الصوت غير محدد من خلف عشرات ومئات الكمامات في عالم يخضع للوباء، والالتباس ليس مقصوداً به فقط عدم معرفة مصدر القدرة على تحديد الشخص الذي طلب الجبن، ولكنه يعني التباساً وضبابية وغمامة في التواصل بين الأفراد إذ ملامح الوجه التي هي جزء لا يتجزأ من عوامل التواصل غائبة خلف الكمامات.

من خلف الكمامات

ما جرى للتواصل بين الناس من خلف الكمامات لفت انتباه مجموعة من الباحثين في شؤون الإعلام والتواصل الإنساني، فأخضعوا الفكرة لدراسة خرجت بنتيجة مفادها أن الاتصال بين الناس في زمن كورونا تأثر كثيراً بسبب الكمامات.

الدراسة وعنوانها "أثر كمامات الوجه على الاتصال بين الأفراد أثناء جائحة كوفيد-19" أشارت إلى أن الكمامات باقية مع البشرية لحين إشعار آخر، وأنها ذات فائدة كبرى في المساهمة في تقليل نسب العدوى والإصابة بالوباء، ولكنها تضع العديد من العراقيل والتحديات أمام التواصل بين الأفراد وبعضهم البعض، وتعرّف الدراسة التواصل بين الأفراد بأنه التفاعل بين شخصين أو أكثر عبر إشارات شفهية أو جسدية، ولذلك، فإن ارتداء الكمامة يعني تغطية الأنف والفم الذي تخرج منه أصوات التواصل عبر الكلمات، وكثيراً ما يجد الأشخاص صعوبة في فهم الكلمات التي ينطق بها الآخرون من خلف الكمامات، هذه الكمامات تحجب كذلك تعبيرات منتصف وأسفل الوجه وهي التعبيرات التي تشكل مكوناً رئيساً في التواصل بين الأفراد.

تواصل تعبيرات الوجه

وتشير الدراسة إلى أن 55 في المئة من التواصل غير المنطوق بين الناس يعتمد على تعبيرات الوجه، لا سيما العينين والفم، وهو ما يعني أن الكمامة تجعل الأشخاص يركزون بشكل أساسي على العيون، إلا أن الإفراط في التواصل عبر العيون من شأنه أن يتسبب في الشعور بعدم الارتياح.

افتقاد المكون المهم في تيسير عملية التواصل بين الأشخاص بسبب اختفاء تعبيرات الوجه خلف الكمامة يضاف إليه عبء قواعد التباعد الجسدي (وفي أقوال أخرى التباعد الاجتماعي)، وتصب النتيجة في مرمى التواصل الإنساني.

ومرمى التواصل الإنساني يعاني تواتر تصويب الأهداف على مدار ما يزيد على عام، وتحديداً منذ أيقن العالم أنه سيعيش أو يتعايش مع وباء يستوجب اتباع إجراءات احترازية لحين إشعار آخر، والغالبية المطلقة من هذه الإجراءات تقوم على أساس التباعد الاجتماعي، حتى بين أقرب الأشخاص وأعزهم إلى القلوب.

قلوب فطرها الحزن

قلوب عديدة فطرها الحزن في زمن الوباء، لم يفتك بها الوباء فعلياً، لكن فتك بها حرفياً، أمهات وآباء رحلوا عن الدنيا خلال عام مضى من دون أن يتمكن أبناؤهم وبناتهم أن يحتضنوهم أو يمسكوا أياديهم للمرة الأخيرة. آخرون باعدت بينهم وبين إخوتهم وأبنائهم حدود دولية حيث أغلقت دول حدودها، ومنعت أخرى جنسيات بعينها، وفرضت ثالثة قواعد وقيود جعلت السفر للقاء الأحباب أمراً شبه مستحيل.

تغريد أحمد (45 عاماً) فقدت والدتها قبل أسبوعين بعد فترة مرض قصيرة، تقول بحسرة شديدة، "ظللت طيلة أشهر الوباء أزور والدتي يومياً في بيتها حيث كانت تقيم وحدها تماماً، أساعدها في أداء بعض الأعمال المنزلية، أشاهد معها فيلماً قديماً، نتحدث ونضحك، وربما نختلف، وكل ذلك وأنا حريصة كل الحرص ألا أقترب منها أو أحتضنها خوفاً عليها من أن أكون حاملة للفيروس اللعين، على الرغم من أنها أحياناً كانت تتوسل إليّ أن أقبلها أو أحتضنها".

وبحزن بالغ تقول، "قبل أيام توفيت والدتي بعد مرض قصير جداً ألمّ بها. رحلت حبيبتي عن الدنيا ولم أتمكن من احتضانها إلا وهي جثة هامدة، اليوم أيقنت أنه لم يكن تباعداً اجتماعياً فقط، بل كان تعايشاً منزوع الإنسانية".

توصيف التباعد الاجتماعي 

توصيف التباعد الاجتماعي بأنه منزوع الإنسانية بات في العام الثاني من عمر الوباء متداولاً بين كثيرين، إن لم يكن بالاسم فبالإحساس، التباعد الاجتماعي كما هو منصوص عليه من قبل منظمة الصحة العالمية يعني العمل من البيت أينما كان ذلك متاحاً، وتجنب أي تنقلات إلا للضرورة القصوى، والابتعاد عن الأماكن المزدحمة، وتجنب الاجتماع بالأسرة والأصدقاء قدر الإمكان لتقليص فرص انتقال الفيروس من شخص لآخر. ويمكن القول، إن التباعد الاجتماعي هو القاعدة التي أجمعت عليها دول العالم في التعامل مع الوباء، تارة بالقانون وأخرى بالمناشدة وثالثة بدوافع ذاتية إذ رفع البعض شعار "التباعد الاجتماعي من أجل أن نبقى معاً".

وأمام أولوية بقاء الأحباب معاً، لم يتنبه القائمون على أمر الصحة إلى الآثار النفسية والعقلية للتباعد الاجتماعي المستمر أشهراً وربما سنوات. وتشير ورقة بحثية عنوانها "آثار التباعد الاجتماعي على الصحة العقلية أثناء جائحة كوفيد-19" والمنشورة في "الدورية الدولية للصحة النفسية الاجتماعية" في مايو (أيار) 2020 إلى أن الجانب الآخر للتباعد الاجتماعي هو أنه يفاقم الشعور بالوحدة، ويحدث خللاً في الأنشطة العادية ويحد من حرية الأفراد في الحركة ويرفع نسب البطالة ويخفض الدخول.

التباعد باق

وتنوه الدراسة إلى حقيقة مؤلمة مفادها بأن كلاً من إنهاء التباعد الاجتماعي أو السيطرة على آثاره النفسية والعقلية العكسية أمر مستبعد تماماً، لكن ما يمكن عمله في هذا الوضع البشري غير المسبوق هو تقديم خدمات المشورة النفسية عبر الهاتف أو مواقع إلكترونية تساعد الأفراد على التعامل مع مشاعر الوحدة والغضب والتوتر وافتقاد التقارب الإنساني الجسدي.

خدمات المشورة النفسية والدعم النفسي المقدم عبر الهواتف والمنصات العنكبوتية ربما تكون متاحة في مجتمعات لديها هذه الثقافة، إضافة إلى توافر أدوات الاتصال بالإنترنت، ومعها توافر الجهات والخبرات القادرة على توفير مثل هذه الخدمة النفسية الحيوية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتظل المجتمعات "الأخرى" تعاني آثار التباعد في صمت أو ربما في صخب، محمد عادل (38 عاماً)، ويعمل محاسباً، يقول إنه ظل محافظاً على قاعدة التباعد الاجتماعي حماية لنفسه وزوجته وأبنائه الثلاثة ووالده من خطر العدوى، لكن فاض به الكيل، فنسي أو تناسى التباعد، لا سيما وأنه وزوجته وابناً من أبنائه أصيبوا بالفيروس على الرغم من كل الاحتياطات. يقول: "ما دام خطر الإصابة قائماً في كل الأحوال، فلنحيا كبشر نقابل الأهل والأصدقاء ونقبلهم ونحتضنهم، فإذا مرضنا أو حتى توفانا الله، نكون قد عشنا أيامنا الأخيرة ونحن نشعر بدفء الأهل والأصدقاء."

جلد وصبر و"زووم"

لكن هناك من الأهل والأصدقاء من يتميز بقدر أوفر من الجلد والصبر والتمسك بتلابيب التباعد الاجتماعي، رشا مصطفى ومنال حليم ونادية صادق ومعهن مجموعة من "صديقات العمر" كما يسمين أنفسهن كن يتقابلن مرة كل شهر في زمن ما قبل كورونا. تقول رشا مصطفى (40 عاماً)، إن صديقاتها من أيام المدرسة يعتبرن أنفسهن أسرة واحدة، "طيلة سنوات ما بعد تخرجنا ونحن نتقابل ونتزاور. كل منا تعرف أدق أسرار الأخرى. كبرنا وتزوجنا وأصبحنا أمهات وعاملات ومطلقات وناجحات وغير ناجحات ومجموعتنا كما هي. نتقابل ونتشاور ونضحك ونبكي، ونعتبر بعضنا البعض خير معالج نفسي"، لكنها تشير إلى أن الأشهر الأولى من عمر الوباء كانت الأقسى عليهن جميعاً، "فالصدمة والخوف والقلق دفعتنا جميعاً لالتزام البيوت والاكتفاء ببعض المكالمات الهاتفية والتواصل عبر منصات التواصل الاجتماعي باقتضاب. لكن بعد أشهر قررنا أن نعقد لقاءاتنا الدورية عبر تطبيق "زووم" إذ ترى كل منا الأخرى ونتحدث ونشكو همومنا ونتبادل النكات وحتى نشرب الشاي والقهوة التي أعدتها كل منا في بيتها وكأننا في مقهى فعلياً، صحيح أن شرب القهوة عبر "زووم" يختلف عن شربها في المقهى، ونحن متجاورات فعلياً وليس افتراضياً، لكن شيئاً أفضل من لا شيء إطلاقاً.

مجموعة الصديقات المتحديات التباعد الاجتماعي عبر "زووم" لم يسمعن عن نصائح متداولة في دول غربية عدة للتغلب على الآثار النفسية السلبية للتباعد الاجتماعي مثل "حفلة العشاء" إذ يتناول الأصدقاء والمعارف طعام العشاء كل على طاولته في الوقت نفسه، ويتبادل الجميع القصص والحكايات، أو الذهاب لحفل موسيقي افتراضي بالطريقة نفسها وبارتداء ملابس السهرة وغيرها من الحيل الافتراضية للتغلب على وحدة التباعد الاجتماعي، وافتقاد المشاعر الدافئة والأحضان والقبلات الاعتيادية، وعلى الرغم من ذلك، فقد ابتدعن طريقتهن الخاصة بهن.

متلازمة "الكوخ"

لكن يبدو أن قلق التباعد وتوتر الوباء يدركان الجميع وإن كان بدرجات متفاوتة، أستاذ الطب النفسي ومستشار الرئيس المصري للصحة النفسية والتوافق الاجتماعي أحمد عكاشة كتب على موقعه محذراً من "متلازمة الكوخ" أو كرب ما بعد الصدمة، هذه الصدمة تصيب البعض حين يمر بتجربة سيئة غير مسبوقة، وتنتج عنها أعراض عدة مثل القلق والعصبية والأرق والضيق والتوتر، ويوضح أن استجابة الجميع لصدمة الوباء ليست متطابقة، لكن هناك من يواجه صعوبة في تقبل والتعايش مع صدمة الوباء وضرورات التباعد والعزلة حيث التغيير الفجائي والسريع في الروتين اليومي يصيب البعض بهلع شديد، ويضيف عكاشة أن البقاء في البيت لفترات طويلة لا سيما أولئك الذين أصبحوا يعملون من البيت أو من فقدوا أعمالهم بسبب الوباء يجدون أنفسهم أحياناً وقد فقدوا الرغبة في مواصلة حياتهم بالشكل الطبيعي، فتتضاءل رغبتهم في الخروج للتنزه أو التريض حتى في حال أتيحت الفرصة الآمنة لذلك، ويدخلون في دائرة البيت المفرغة.

دائرة البيت المفرغة تتقاطع معها دوائر أخرى أبرزها الاعتناق التدريجي لأساليب حياة سلبية تقابلها دوائر افتقاد التواصل الفعلي مع الأفراد وفقدان الحافز من العمل والاجتهاد ما دام المصير المحتوم هو البقاء في البيت. استطلاعات عدة في دول غربية أجريت حول آثار البقاء في البيت والتباعد الاجتماعي أشارت إلى ميل البعض إلى اعتناق أسلوب حياة غير صحي مثل الإقبال على التدخين بشكل مبالغ فيه، كما يتم رصد إقبال غير مسبوق على أرقام هواتف المساعدة والمشورة النفسية في تلك الدول، وكثيرون من المتصلين يقولون إنهم لم يتحدثوا على مدار أيام إلا لمقدم المشورة النفسية.

دوائر الأسرة الواسعة

الأمر في المنطقة العربية مختلف بعض الشيء، فدوائر الأسرة أوسع وأكبر، ودوائر الأصدقاء والجيران أوفر وأكثر تنوعاً، كما أن هامش الحرص الشديد على اتباع القواعد والتعليمات أرحب وأكثر ليونة.

مشهد الصديقين اللذين يقابلان بعضهما في السوبر ماركت مصادفة بعد غياب أشهر، فإذا بكليهما يسارع إلى إنزال كمامته أسفل فمه حتى يقبل الصديق العزيز قبلات لا تعوقها كمامة أو يعرقلها احتراز يصنفها البعض تحت بند "تصرفات خطيرة"، ويعتبرها البعض الآخر ضمن منظومة "ربنا هو الحامي" إذ "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".

وضمن ما كتب الله للأفراد ملكات وأفكار تساعد في الوقاية من الآثار النفسية للتباعد الاجتماعي، صحيح أن بعضها يضرب عرض الحائط بالفكرة من التباعد الاجتماعي نفسه، إذ المضي قدماً في تنظيم حفلات زفاف وأعياد ميلاد و"سبوع مواليد جدد" وغيرها، وكأن الفيروس لا وجود له، لكن يبقى البعض الآخر محافظاً على الفكرة ألا وهي تحقيق التقارب الإنساني مع حماية الهدف ألا وهو الوقاية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات