Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مفاوضات أستانا… حلقة في مسلسل "باب الحارة"

المجتمعون ناقشوا عددا من القضايا التي يفترض أنها تخص السوريين لكن في جوهرها تتعلق بمصالح هذه الدول

يُتابع السوريون الجولات المُتتالية لمفاوضات أستانا بمزيج من السخرية السوداء واللامبالاة. إذ ثمة تطابق في وجوه عدة بين جولات هذه المفاوضات، وما يتابعه السوريون منذ سنوات من أجزاء من المسلسل الأكثر شعبية، "باب الحارة".

يطرح المجتمعون في أستانا ويتفاوضون على طيف من القضايا، تبدو ظاهراً كأنها قضايا السوريين، لكن في جوهرها تتعلق بمصالح وتوجهات وحساسيات ومخاوف الأطراف الخارجية، فيُظهرون توافقاً دائماً بشأن ما يتحادثون بشأنه، من دون أن يتغير شيء على أرض الواقع، وتحديداً في القضايا الجوهرية التي تخنق السوريين من كل حدب.

يخوض "باب الحارة" في أحوال السوريين بدايات القرن الماضي كالحرملك، والوحدة الوطنية الزائفة والعابرة للطوائف والجماعات، في مواجهة غول المستعمرين الفرنسيين، في حارة تغرق في مشكلات وإشكاليات تتوالد من بعضها البعض، في حين يسعى أعضاء الحارة إلى حلها في جلسات "مضافة الحارة"، حيث يتوافقون بسلاسة تامة، وبخضوع غير مبرر لنزعة "المرجلة" والشهامة والعظات، ويخرجون برضى تام في ما بينهم.

لكن المفاجئ أن تلك المشكلات والتفاصيل نفسها ما تلبث أن تتجدد وتتفاقم. كأن المطلوب هو أن تستمر حلقات وأجزاء هذا المسلسل الفلكلوري بأي ثمن، وأن تكون القضايا الثانوية وقود استمراره من دون نهاية، ليستمر القائمون على العمل في نشر دعايتهم عن الرجولة والمحافظة والرهافة الوطنية المتخيلة.

طروحات هامشية

في جولتها الـ 12، التي اختتمت الجمعة 26 أبريل (نيسان) المنصرم، خرج المجتمعون في مفاوضات أستانا بتوافق على قضايا مثل التزام وحدة الأراضي السورية، وإدانة الاعتراف الأميركي بسيادة إسرائيل على الجولان، وإجماع المتفاوضين على التصدي لـ "المخططات الانفصالية"، التي تهدف إلى تقويض سيادة سوريا والأمن القومي لدول الجوار. ثم تشعبت القضايا إلى دعوة العراق ولبنان كمشاركَين مراقبَين في الجولات المقبلة، والاستمرار في التفاوض بشأن منطقة إدلب وشرق الفرات، والخطاب الفلكلوري بشأن التعاون من أجل دحر تنظيمي "داعش" و"النصرة" وغيرهما من التنظيمات الإرهابية.

في المحصلة، هذه الجولة من المفاوضات، مثل غيرها من الجولات التي سبقتها، لم تتطرق إلى مستويين من القضايا، التي يفترض أن تتطرق إليها أي مفاوضات بشأن سوريا.

مستويان من القضايا الحقيقية

ثمة تجاهل تام للقضايا المُلحة والتفصيلية التي تشغل السوريين، وكانت الأساس المنطقي الذي قال الثلاثي الضامن لمفاوضات أستانا، روسيا وإيران وتركيا، بأنها يجب أن تُميز هذه المفاوضات عن نظيراتها في مدينة جنيف. إذ إن حلحلة تلك القضايا التفصيلية ستزيد الثقة بين القوى السورية المُتصارعة، وستفتح المجال لتمكِّن السوريين من حل قضاياهم الإستراتيجية.

كل جولات "استانا" إذ لم تُحدث أي اسهام في حل ملف عشرات الآلاف من المعتقلين والمخفيين السوريين. ولم يُلزم الضامنون النظام السوري حتى بمجرد إعلان ما عن مصائر هؤلاء. كذلك، لم تتمكن من تخفيض مستويات العنف الذي يمارسه النظام السوري وحلفائه بحق المدنيين في المناطق الخارجة عن سلطتهم. فجولات العنف استمرت بالتوازي مع جولات المفاوضات، في مناطق حلب وحوران والغوطة وإدلب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حتى اللجنة الدستورية المتوافق عليها بين النظام والمعارضة، التي روَّجتها الدبلوماسية الروسية طوال الشهور الماضية باعتبارها المُنجز الذي سيتحقق خلال هذه الجولة، لم تتحقق، ولم يتوضح أي أفق لما ستكون عليه مُستقبلاً. وتعثرت مسائل تحسين الوضع الاقتصادي للسوريين وإجبار النظام على تقديم تسهيلات للمعاملات الإدارية والبيروقراطية، في الداخل ودول النزوح، ولم يُتفق على تحسين أحوال مخيمات اللجوء وتيسير الأمور لعودتهم الطوعية.

وهناك مستوى آخر من القضايا السورية غاب كلياً، ويتعلق بإنهاء الحرب الأهلية والإقليمية التي تجري في سوريا، وتفكيك أسس الاستبداد السياسي والاحتكار الاقتصادي وإعادة تشكيل مؤسسات الدولة والسلطة والأمن والجيش، وتحديد هويتها الوظيفية وعقيدتها الذاتية، وصولاً إلى فتح الحياة العامة وتحديد هوية الكيان السوري وشكل العلاقة بين مكونات المجتمع السورية، عبر أسس من الحريات السياسية والعامة والمدنية والديمقراطية. وقبل كل شيء، مُحاسبة الغارقين في بحيرة الدم والتدمير السورية.

مصالح القوى

جرياً على عادة "باب الحارة"، يبدو أن المتوخى من قبل الدول الضامنة في هذه الجولات من المفاوضات هو استمرارها، وليس تفكيك القضايا الإشكالية التي تُحطم حياة السوريين. إذ تكشف "استانا" كتلة ضخمة من المصالح المتشابكة بين القوى الدولية المنخرطة في المسألة السورية، تحولها مجرد منصة لخلق توافقات تمنع الصدام في ما بينها. وتبقى المسائل السورية، في الصغيرة والكبيرة، واجهة فلكلورية وخطابية لتلك المفاوضات، بالضبط كما تظهر أنماط الشهامة وصور "المرجلة" وحكايات المودة في حلقات مسلسل "باب الحارة".

إذ تتدفق الأحداث إلى ما لا نهاية. يعود موتى وقتلى الأجزاء السابقة في أجزاء أخرى لاحقة. تدخل شخصيات جديدة إلى بعض الأجزاء ثم تختفي فجأة من دون أي سبب منطقي. تطرأ تحولات دراماتيكية على طبيعة شخصية ما أو أخرى، من دون أن يكون لهذا المسلسل أي أفق أو محور مركزي. من دون أن تتأثر هذه الحارة الدمشقية القديمة بما يجري حولها من تبدلات مفترضة طوال تلك السنوات الحيوية من عمر سوريا السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. فتبدو سوريا معزولة ومنفصلة عن كل ما يحوطها، وتشبه مدينة أستانا نفسها، التي صار اسمها نور سلطان، لكنها بقيت مرمية في تلك السهوب الآسيوية القصية، جغرافياً وسياسياً.

اقرأ المزيد

المزيد من الشرق الأوسط