"أجزخانة ستيفنسون"، هي صيدلية قديمة في القاهرة أنشأها البريطاني جورج ستيفنسون عام 1889. تحتل الصيدلية جانباً من واجهة أحد المباني الأنيقة، ويجاورها عديد من المعالم والشوارع الرئيسة التي تشكل ملامح وسط القاهرة. تم تأميم الصيدلية في خمسينيات القرن الماضي، ثم اشتراها صيدلي مصري، وتديرها عائلته إلى اليوم. عند مرورك هناك ربما تسترعي انتباهك تلك الواجهة العتيقة للمكان، الذي ظل محتفظاً باسم مؤسسه "جورج ستيفنسون" مع التعبير الشائع في مصر للصيدلية (أجزخانة)، ولا تزال الصيدلية تحافظ على طابعها القديم، غير أن آثار الزمن تركت بصماتها على تفاصيلها.
"إحياء فترة مألوفة" هو عمل فني للمصرية ياسمين المليجي يتخذ من هذه المساحة التي تحتلها الصيدلية في وسط القاهرة مسوغاً لطرح عديد من الأسئلة؛ أسئلة متعلقة بتاريخ المكان وعلاقته بما حوله من إنشاءات معمارية يعود أغلبها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كما يحيلك كذلك إلى الدور الذي كانت تضطلع به الصيدلية، وانعكاس التغيرات التي رافقت ثقافة الاستهلاك على هذا الدور وطبيعته.
سعت ياسمين المليجي من خلال هذا العمل إلى إحياء هذه المساحة الصغيرة عبر تداخلات فنية من صوت وأعمال ترميم وتجديد وإعادة صوغ للمعروضات والواجهة، لتتحول الصيدلية إلى ما يشبه المتحف، محتفظة في الوقت نفسه بطبيعتها الوظيفية. أعدت هذه التجهيزات جميعها لمساعدة الزائر في التعرف على طبيعة هذا المكان. لن تكتفي هنا بتأمل الواجهة من الخارج، إذ يمنحك هذا العرض فرصة الدخول والتجول بين الممرات الضيقة التي تشكلها فاترينات العرض الخشبية. ويربط العمل بين الأجزخانة وتاريخ المبنى الذي توجد فيه. وربما تتسع رقعة بحثك عن هذا التاريخ لتشمل الشارع وتقاطعاته مع غيره من الشوارع القريبة. يتكشف عبر هذه التفاصيل عديد من الأسماء والإشارات، هي أشبه بمفاتيح لقراءة التاريخ، ليس تاريخ الصيدلية وحدها، بل تاريخ المدينة وما مر عليها من أحداث ووقائع لا تزال علاماتها باقية إلى اليوم، وربما يعيد هذا المشروع الفني لياسمين المليجي إحياءها، أو التذكير بها.
بين عالمين
عند دخولك إلى "الأجزخانة" عليك أن تربط بين هاتفك وأحد الكودات المطبوعة على الورق، كي تستمع إلى النص الصوتي للعمل، فهو دليلك للدخول إلى هذه المساحة. حينها تجد نفسك بين عالمين: أجواء العمل داخل الصيدلية، وفضاء افتراضي تتحرك خلاله أشباح لتواريخ وذكريات تسعى إلى تتبعها مسترشداً بالتسجيل الصوتي. ثمة قوارير زجاجية وخزفية مخصصة لخلط المحاليل والمواد الطبية. ستستمع إلى أسماء أشهر العقاقير التي كانت مستخدمة. تواريخ تتقاطع مع بعضها، كل ركن داخل المكان له قصة وحكاية عليك أن تتفحصها جيداً. في نهاية الصيدلية ثمة فتارين خشبية تضم عديداً من الأدوات: موازين صغيرة، وعلب مساحيق. يأخذك الدليل الصوتي في جولة كذلك بين التفاصيل المتعلقة بتصميم المكان. ثمة مقعد خشبي في الأعلى، وساعة حائط عتيقة، ونقوش محفورة على الأخشاب. يعطيك الدليل نبذة مختصرة عن تاريخ هذه النقوش والعلامات وما تدل عليه من رموز لها علاقة بالأساطير القديمة.
طبقات عدة تتداخل زمنياً وبصرياً عبر مساحة العرض هنا، ما يلقي بظلاله على تفاعلك مع المكان، كمساحة تحمل وظيفة مزدوجة، يتقاطع خلالها الواقع الفعلي لها كمان لبيع الدواء يتردد عليه زبائنه، ومساحة لعرض آدائي زاخر بالحنين والتواريخ. هي تجربة استثنائية يحيطها عديد من علامات الاستفهام، بداية من طبيعة المساحات الفنية، ومغزى العروض المتحفية، إلى الهدف من الترميم وإعادة إحياء القديم وتأثيره وحضوره الغائم والمتقطع في الحاضر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبينما تهم بمغادرة المكان ربما تتردد في أذنيك التفاصيل المتعلقة بحياة مؤسس الصيدلية (جورج ستيفنسون) وعائلته المشتتة اليوم في أنحاء العالم. تواريخ قد تربط الأحداث أمامك على نحو مربك. توفي ستيفنسون عام 1919 بسبب الإنفلونزا الإسبانية التي اجتاحت العالم وقتها، في حين تقف أنت على عتبة المكان الذي أسسه مرتدياً قناعاً طبياً احترازاً من وباء آخر مشابه.
تخرجت ياسمين المليجي في كلية الفنون الجميلة بالقاهرة عام 2013، وأكملت دراستها في المدرسة العليا للفنون الجميلة في فرنسا قبل أن تنضم إلى برنامج الدراسات المستقلة للفنون المعاصرة (ماس) في مدينة الإسكندرية. تراوح أعمال المليجي بين عدد من الوسائط المختلفة كالنحت والفيديو والتجهيز. ويستمر معرض "إحياء فترة مألوفة" حتى 18 مارس، ويقام بدعم من مؤسسة المورد الثقافي.