Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مخاطر انتاج النظام القديم لـ "شعب جديد" في الجزائر

ما عاد مقبولاً استخدام الثياب التاريخية للثورة في شفط الثروة الوطنية وترك الناس تعاني الفقر في بلد نفطي يجب أن يكون عصياً على أية أزمة اقتصادية

تظاهرة مناهضة للحكومة في العاصمة الجزائر (أ.ف.ب)

كان فرانز فانون وكتابه "معذبو الأرض" من ملهمي ثورة الاستقلال في الجزائر، وأول ما ينطبق على الثورة الشعبية الحالية هو حديثه عن "عظمة الانطلاق العفوي". فالجزائريون الذين بدأوا ما أسموه حراك 22 فبراير (شباط)، حققوا "عودة الروح"الى الجزائر. وهم من كل الفئات والمناطق كشفوا عن التحولات في المجتمع الذي فشلت آلة السلطة في قتل حيويته وصوتوا بأقدامهم لتغيير النظام، لا لمجرد تغيير رئيس. ولم يكن إجبار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة على الإستقالة بعدما ترشح لعهدة خامسة سوى فصل في كتاب كبير هو شرعية الثورة الشعبية. فما عاد ممكناً أن تغطي شرعية ثورة المليون شهيد استمرار السلطة في أيدي بقية رجال الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي. ولا بقي مقبولاً استخدام الثياب التاريخية للثورة في شفط الثروة الوطنية، وترك الناس تعاني البطالة والفقر وقلة الخدمات في بلد نفطي يجب أن يكون عصياً على أية أزمة اقتصادية. فكيف إذا تغوّل أهل بيت السلطة أصدقاؤهم من رجال الأعمال، وصار قدر الشباب العاطل عن العمل الاستناد الى الحيطان في الخانة المسماة "حيطيست"؟ وكيف إذا وجد نفسه رئيس أركان الجيش الجنرال أحمد قايد صالح المقرَّب من بوتفليقة، مضطراً لكشف ممارسات "العصابة" التي تحكم باسم الرئيس المريض؟

"كل جيل هو شعب جديد"، كما قال الكسيس دو توكفيل. ومعظم الذين نزلوا الى الشارع في الجزائر ولدوا في سبعينات القرن الماضي وما فوق، ولم يعرفوا الثورة. حتى "أيقونة" الثورة جميلة بوحيرد، فإنها شاركت في الحراك. والذين ولدوا في العام 2000 لم يعرفوا رئيساً غير بوتفليقة الحاكم على مدى 20 عاماً. فهم عملياً شعب جديد لديه هموم واهتمامات في عصر مختلف عن عصر ثورة الاستقلال وأبطالها. وأبسط ما فعلوه بشكل غير مباشر، هو إحداث "خلخلة" في صفوف أحزاب المعارضة والموالاة. أحزاب المعارضة العلمانية والإسلامية صارت ضعيفة بفعل قوة النظام. وأحزاب الموالاة مستضعفة من جانب النظام الذي يحكم رجاله باسمها. حتى حزب جبهة التحرير التاريخي، فإنه بدا كمن انتهت صلاحيته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا أحد يجهل دور الجيش من وراء الستار في النظام منذ انقلاب العقيد هواري بومدين على الرئيس أحمد بن بلة عام 1965، وكان بوتفليقة بين أنصاره. والجيش حمى الحراك الشعبي هذه المرة ورفض التدخل لقمعه، لكنه يبدو حالياً في دور من يعمل على "احتواء" الثورة. ففي مرحلة من اصطدامه بـ "العصابة" المتحكمة، تحدث الجنرال أحمد قايد صالح عن تفعيل المادتين 7 و 8 من الدستور، اللتين تنصان على أن السيادة الوطنية والسلطة التأسيسية ملك الشعب، الى جانب المادة 102 التي تجعل رئيس مجلس الأمة الرئيس الموقت حكماً بعد الفراغ الرئاسي. وحين دقت الساعة، فإنه وافق على الاكتفاء بتطبيق المادة 102 بحجة منع الفوضى والمجهول و"الفراغ السياسي" والحؤول دون "مؤامرات أوساط مشبوهة". لا بل طالب الثوار بانتظار الإصلاحات من الرئيس الجديد.

صحيح أن المعادلة معقدة، آليات النظام وأدواته المحددة تغلق الباب أمام التغيير، وليس للمادتين 7 و 8 من الدستور آليات وأدوات محددة للتغيير. لكن الصحيح أيضاً ان التطبيق الميكانيكي الكلاسيكي للدستور ليس حلاً جدياً، ولا يرقى الى التحولات التي صنعها الحراك الشعبي. فالدستور جزء من المشكلة لا من الحل، إذ هو، كما أكدت التجارب، يركّز السلطة الفعلية في يد رجل واحد هو رئيس الجمهورية، الذي تدار كل المؤسسات حسب أوامره، من الحكومة الى مجلسي الشعب والأمة، مروراً بالقضاء، وعلى رأسه المجلس الدستوري. وحين طالب المتظاهرون باستقالة "الباءات الثلاث" الرئيس الموقت عبد القادر بن صالح ورئيس الحكومة نور الدين بدوي ورئيس المجلس الدستوري الطيب بلعيز، فإن الأخير هو الوحيد الذي استقال. ومعنى ذلك أن إدارة الانتخاب الرئاسي ستكون عملياً في يد رئيس الحكومة، الذي كان وزيراً للداخلية، متمرساً بفن تزوير الانتخابات. وحتى لو جرت الانتخابات بشيء من الشفافية، فإن النتيجة هي إعادة انتاج النظام لنفسه. وهذه وصفة لتعميق الأزمة وتوسيعها ودفع المتظاهرين الى مزيد من التصعيد والمطالب الراديكالية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن الصعب على أي رئيس جديد يتم انتخابه في بداية الصيف، وحتى على الجيش، "احتواء" التحولات العميقة التي حدثت في المجتمع، ولو نجح سلاح القمع على المدى القريب. وليس هذا بالطبع هو الطريق الى نظام جديد وجمهورية، اضطر الى الوعد بتحقيقهما بوتفليقة نفسه، خلال سنة من العهدة الخامسة ثم الاستقالة. فالمراحل الانتقالية من أنظمة  توتاليتارية الى أنظمة ديموقراطية تعددية تتطلب فسحة زمنية تمتد الى عام أو عامين. لماذا؟ لكي يتم ترتيب مجلس حكم انتقالي وجمعية تأسيسية لصوغ دستور جديد يخضع لاستفتاء شعبي، قبل إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، وربما الانتقال الى نظام برلماني ديموقراطي.

قائد الجيش وقف بوضوح خلف الرئيس الموقت، وأصر على إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها. ورفض ضمناً المخارج المطروحة، وبينها تعيين رئيس مقبول شعبياً للمجلس الدستوري، ثم استقالة الرئيس الموقت عبد القادر بن صالح، ليخلفه رئيس المجلس الدستوري الذي يقبل استقالة رئيس الحكومة. وحتى هذا المخرج، على كونه أفضل من بقاء التركيبة الحالية، ليس الحل الذي يطلبه الثوار المصرّون على التظاهر بالملايين بعد استقالة بو تفليقة.

قيل أن بداية الحراك كانت في بعض أسبابها رداً على "الحقرة"، أي تعامل النظام باحتقار مع الشعب. وقمة الاحتقار هي التصرف كأن بو تفليقة استقال في ظروف عادية، والأخطر هو استمرار اللامبالاة حيال شرعية الثورة الشعبية بالاتكال على طقوس الشرعية الدستورية التي تجاوزتها "عامية الجزائر".

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي