Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من هو المؤلف الحقيقي للرواية التي حوّلها فيسكونتي فيلما كبيرا؟

هل كتب دي لامبيدوزا في "الفهد" سيرة حياة جده أمير سالينا حقاً؟

مشهد من فيلم "الفهد" (موقع الفيلم)

نحن هنا أمام لغز أدبي لا يزال حتى اليوم من دون حل. لغز يتعلق بواحدة من أبرز الروايات الإيطالية التي كُتبت في القرن العشرين. وكان من روعتها أن المخرج لوكينو فيسكونتي حوّلها إلى ذلك الفيلم السينمائي العظيم، الذي ظل منذ عرضه عام 1965 يعتبر واحداً من أكبر الأفلام الإيطالية. ونتحدث هنا طبعا عن فيلم "الفهد" الذي جمع بيرت لانكاستر وآلان ديلون وكلوديا كاردينالي في عمل تدور أحداثه التاريخية خلال الثورة الإيطالية التوحيدية في القرن التاسع عشر. ومن المعروف عادة أن فيسكونتي اقتبس الفيلم من تلك الرواية التي تعتبر فريدة لكونها الرواية الوحيدة التي كتبها أديب كان من شأنه لو انصرف لكتابة غيرها أن يبدع أعمالاً يتضافر فيها التاريخ مع السيرة العائلية مع الحكاية الغرامية مع المغامرات البطولية. لكن الكاتب لم يفعل. لم يكتب غيرها ولا عُرف له أي نشاط أدبي يتجاوزها باستثناء بعض الكتابات المنثورة هنا وهناك والتي من الواضح أنها تقل عنها قيمة فكرية وأدبية بكثير. فهل ثمة لغز في هذه الحكاية الغريبة. حكاية كاتب اكتفى من المجد الأدبي بتدوين بضع مئات من الصفحات في متن وحيد، معتبراً أنه أدى قسطه إلى العلا، فسكت بعده؟

رواية عمر بأسره

صحيح أن الكاتب الإيطالي المعروف جورجيو باساني كان يقول عن "الفهد" إنها "عمل استثنائي، من تلك الأعمال التي يشتغل عليها المرء، عمراً بأكمله". فهل لهذا السبب عرفت رواية "الفهد" بأن مؤلفها اشتغل عليها عمراً بأكمله، أما الكتاب الآخر الذي يحمل اسمه، فهو مجموعة نصوص تحمل عنوان "الأستاذ والحورية"؟ في الحقيقة، لسنا نعتقد أن هذه الفرضية منطقية، حتى إن كنا لا نملك أي حلّ للّغز المطروح. فإذا أضفنا إلى قوة رواية "الفهد" أنها لم تنشر في حياة مؤلفها، بل بعد عام وأكثر من رحيله، يصبح في الإمكان اعتبار اللغز ألغازاً متعددة، هو الذي يتمحور من حول سؤال أساسي فحواه: هل يمكن حقاً للمؤلف الذي تحمل الرواية اسمه أن يكون هو كاتبها الحقيقي، أم أن اسمه وضع على الرواية لأسباب مجهولة؟

من الناحية الرسمية، مؤلف رواية "الفهد" هو جيوزيبي توماسي، المعروف بلقب مزدوج: "دوق بالما" و"أمير لامبيدوزا"، وهو عُرف في تاريخ الأدب الإيطالي، وعلى الأقل منذ ظهور الطبعة الأولى لرواية "الفهد" بعد عام من رحيله 1957، بأنه "الكاتب صاحب الرواية الواحدة". ولكن يا لها من رواية! فـ"الفهد" من القوة والجمال بحيث لم يستطِع مخرج متحدر بدوره مثل مؤلف "الفهد" من أسرة نبيلة، من أن يستخدمها مادة كمنت وراء فيلمه الذي يحمل العنوان ذاته.

في نهاية المطاف ومهما يكن من شأن المؤلف الحقيقي لرواية "الفهد"، فإن الأمير دي لامبيدوزا، كان شخصاً حقيقياً، ينتمي إلى الأسرة التي تتحدث عنها الرواية، وهو ولد في باليرمو في 1896 للأسرة التي كانت من أعرق الأسر الصقلية. خلال صباه، لم يبدِ جيوزيبي توماسي أي اهتمام بالأدب، بل انصرف إلى الجندية باكراً وخاض غمار الحرب العالمية الأولى ضابطاً في سلاح المدفعية وظل في الجيش حتى 1925 حين قدّم استقالته، وقد ساءه أن يرى المدّ الفاشي يتصاعد في أوساط ضباط الجيش.

حياة المتمرد تانكريدو

وهو منذ استقالته من الجيش، عاش حياة لهو وفراغ، تذكّر إلى حد كبير بالحياة التي يعيشها تانكريدو، ابن أخ الأمير سالينا، الشخصية الرئيسة في رواية "الفهد"، بحيث أن الكثيرين يرون أن الكاتب استقى تلك الشخصية الجذابة من ذاته. إذاً، خاض جيوزيبي حياة لهو، مكّنته من التجوال بين بلدان عدة. ولئن كان في تلك الآونة قد أبدى بعض الاهتمام بالأدب، فإن كتاباته كانت مجرد نصوص قصيرة بعضها ذكريات طفولة وصبا، وبعضها الآخر تعليقات على ما كان يقرأ من روائع الأدب الفرنسي، والبعض الثالث مجرد قصص قصيرة لا أهمية لها.

في كل تلك النصوص، لم يكن ثمة ما يوحي بأن هذا الفتى الماجن النزق سيصل يوماً إلى كتابة ذلك النص الذي يضعه البعض - مبالغين طبعاً - في مستوى "الحرب والسلام" لتولستوي.

لحظات التقدم الحتمية

كان بالأحرى ثرياً مثقفاً يرصد بغضب ومرارة أحوال بلاده، ويعتبر أن لحظات التقدم التي صنعت هذه البلاد، معبراً عنه بما يسمّى في إيطاليا "ريزورجيمنتو" (البعث)، وما رافقه من توحيد وتنحية للكنيسة - ولو جزئي -  وللأرستقراطية التي راحت تحل محلها بورجوازية "مركانتيلية مبتذلة" بحسب اعتقاده، كل هذا نسف روح بلاده وأعطاها طابعاً مبتذلاً لا يتلاءم مع عظمة تاريخها. هل يعني هذا أن دي لامبيدوزا كان رجعياً؟ إلى حد ما، أجل. ولكن ليس بمعنى أنه كان يودّ أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، بل بمعنى أنه كان يحنّ إلى عصور كانت الروح تطغى على المادة، وكان فيها للثقافة دور في حياة الشعب، وكان الإشعاع الفكري من صنع طبقات نبيلة. غير أن هذا كله لم يمنعه من أن يقرّ أن أحداً لا يمكنه أن يوقف التقدم. ومن أجل التعبير عن هذا، بالتحديد، كتب دي لامبيدوزا، في آخر أيامه وهو على شفا الموت، تلك الرواية الوحيدة في مساره. ومن الأمور ذات الدلالة أن تكون فكرة كتابة "الفهد" قد واتت هذا الرجل النبيل منذ عام 1943، حين أغضبه وأدهشه أن يرى الطائرات العسكرية الأميركية، تهاجم قصره وقصر أهله الأرستقراطيين وتدمّره بقذائفها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الثمن الباهظ

لقد وقف دي لامبيدوزا يومها يتساءل: هل تدمير مثل هذا القصر هو الثمن الذي يجب أن يُدفع من أجل الوصول إلى التقدم؟ طبعاً، مثل هذا السؤال قد يبدو لنا هنا تبسيطياً، لكن في إطاره يومذاك، بالنسبة إلى صاحب ذهنية حضارية مرهفة مثل ابن نبلاء آل لامبيدوزا، كان سؤالاً أساسياً، محيّراً. وهذه الحيرة هي بالتحديد، ما يجعل الرجل وروايته ينتميان إلى القرن التاسع عشر. لا إلى النصف الثاني من القرن العشرين. ففي القرن التاسع عشر، حين بدأ انتصار الحضارة الآتية بثورتها الصناعية والطبقة الوسطى الصانعة لها وأخلاقيات الشارع وتراجع الفكر الجمالي، وقف الكثير من المفكرين والفلاسفة والفنانين والأدباء حائرين: نعم، إنهم مع التقدم ومع عدالة في توزيع الإنتاج، ومع حصول الناس على فرص متكافئة، ولكن هل ينبغي حقاً أن ندمّر في سبيل ذلك كل ما هو جميل؟

حزن سيّد كبير
مهما يكن، فإن الذين يعتبرون جيوزيبي توماسي، أمير دي لامبيدوزا، هو المؤلف الحقيقي والوحيد للرواية، يرون أنه إنما كتبها خلال العشرية الأخيرة من حياته، بعد أن اكتسب خبرة أدبية وحياتية كبيرة، وراح يتأمل الطريقة التي بها انتهت أحلام العظمة لدى أسرته العريقة، إذ إن "الفهد" هي، بعد كل شيء، رواية عن التبدّل الاجتماعي وعن انهيار الإقطاعية والنبالة على مذبح صعود البورجوازية المدينية. فأحداث "الفهد" تجري خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن التاسع عشر، حين ألحقت صقلية بعد أن كان لها استقلالها، بمملكة إيطاليا. والأحداث الكبيرة التي تملأ الرواية وتؤرخ لذلك التبدّل الجذري في حياة الجزيرة، تقدم من خلال شخصية أمير مقتدر وسيّد كبير هو الأمير "سالينا" – الفهد -وهو اللقب الذي يلقّب به، لأن بيارق أسرته تحمل صورة ذلك الحيوان القوي والنبيل. والأمير يرى، وهو في قصره بين أسرته وخدمه وأصدقائه، العالم يتبدل من حوله، و"رعاع البورجوازية" يحتلون المكان شبراً شبراً، وينضم إليهم أقرباؤه، وفي مقدمتهم ابن أخيه تانكريدو. كل هذا يحزن الأمير، لكنه يرى فيه واقعاً لا يمكن التصدي له، لذلك يرضخ أمام الواقع، وينصرف إلى مرصد أقامه في إحدى غرف أعلى القصر ليتأمل حركة النجوم في الفلك ويعيش على إيقاع حياتها.

هذا المسار هو الذي تتّبعه رواية "الفهد" وتقدم من خلاله تاريخاً يتحرك، تاريخاً وصوراً بعينين واعيتين. صحيح أن جيوزيبي توماسي دي لامبيدوزا، كان الوحيد القادر على رصد ذلك الواقع الذي هو واقعه وواقع أسرته (فالأمير هو صورة لوالد جده الحقيقي)، غير أن ذلك لا يمنع من التساؤل حول ما إذا كان أسلوب الرواية ولغتها هما حقاً من بنات أفكار شاب لاهٍ ماجن عاش حياة فراغ وحين مات، لم يترك سوى نصوص ثانوية الأهمية ورواية هي من أبدع ما خطّه قلم إيطالي في زماننا هذا.

المزيد من ثقافة