غاب برتران تافرنييه عن 79 عاماً. الخسارة لا تعوض. فالسينمائي الفرنسي الكبير كان شخصية بارزة عُرف مخرجاً لمجموعة من الأفلام بدأ بتنفيذها منذ منتصف السبعينيات، إلا أن أكثر ما اشتهر به هو شغفه الأسطوري بالفن السابع نقداً وتوثيقاً وتأريخاً وحديثاً عنه باطلاع ومعرفة قل نظيرهما. كان الراحل موسوعة متنقلة يبث حب الشاشة أينما حلّ.
من والده الذي كان يدير مجلة "غير شرعية" خلال الاحتلال النازي لفرنسا، تعلّم النضال وعدم الاستسلام. كانت عائلة تافرنييه في تلك الحقبة تؤوي مقاومين ومنهم لوي أراغون. فترة الاحتلال هذه التي جسدها في "إجازة مرور" (2002) ظلت في مخيلته وصنعت المخرج والرجل. كان في الثالثة عندما انتهت الحرب العالمية الثانية وله ذكريات وصور ذهنية عن المنزل والحي حيث ولد في مدينة ليون الفرنسية، المدينة التي اخترع فيها الأخوان لوميير السينما. أزمة الغذاء في تلك الحرب تركت فيه علامة خالدة. إذ ثقبت قرنية عينه اليسرى، وكان نصيبه أن يحمل معه هذه العاهة طوال العمر ليتمكن من ممارسة عمله. وربما هذه العاهة هي التي دفعته إلى اعتناق مهنة السينما.
المثقف الكبير
لم تشهد السينما خبيراً سينمائياً أهم منه منذ اختراعها. حتى المخرج مارتن سكورسيزي أو الناقد روجر إيبرت أو المؤرخ ميشال سيمان أقل منه اطلاعاً على السينما وحكاياتها وناسها وكواليسها وأفلامها ومحطاتها الأساسية. أجيال من المشاهدين اكتشفت في كتابيه المرجعيين، "أصدقاء أميركيون" و"50 عاماً من سينما أميركية"، مخرجين مهمشين ومنبوذين. هاتان المطبوعتان مثل الكتب المقدّسة عند كثيرين منا، تافرنييه هو الذي جعلنا نتعرف على هذا الجيل من الأميركيين الذين لم يرد لهم الاعتبار في بلدهم، من دلمر دايفز إلى وليم ويلمان مروراً بأبراهام بولونسكي…
خلال عملي صحافياً وناقداً سينمائياً، التقيته مرات عدة. وفي كل مرة كنت أتحدث معه عن فضله على السينمائيين، كان يخجل محاولاً أن يغير الموضوع من شدة الإحراج. لم يكن يقبل بالمديح بسهولة. والحق أن عمله ملحقاً صحافياً لـ"وارنر" في باريس لسنوات، سمح له بمرافقة السينمائيين الأميركيين خلال جولاتهم الترويجية. هكذا حاور هنري هاتاواي وإيليا كازان وخصوصاً عملاق السينما الأميركية جون فورد. وجوده معهم لأيام طويلة سمح له باستدراجهم إلى مواضيع لم يُستدرجوا إليها في أحاديث صحافية سريعة. أخبرني أن بعضهم كان يتفادى أن يبدو ذكياً في المقابلات، حرصاً على "سمعته" عند أرباب الاستوديوهات الهوليوودية الذين كانوا يحبون المنفذّين لا الفنانين. وكان تافرنييه ينظّم أيضاً عروض أفلام ستانلي كوبريك في باريس، والأخير كان يجعل حياته كابوساً مستمراً، مطارداً إياه بالاتصالات حتى في أوقات نومه، مستفسراً عن تفاصيل كنوع اللمبة المستخدمة في ردهة الصالة.
بعد سنوات من الصبر، طفح الكيل، فكتب له تافرنييه قائلاً، "كسينمائي أنت عظيم، كإنسان أنت أحمق!". يروي "كنت ملحقاً صحافياً لكثير من الناس. عملتُ مع أكبر السينمائيين. وأطلقت شكلاً جديداً لهذه المهنة. أستطيع أن أقول إننا تمردنا عليها، لم نعد نصب اهتمامنا على الأقاويل والشائعات والموازنة وعدد الكومبارس المستعان بهم في الأفلام، إنما صار اهتمامنا نيات صنّاع الفيلم. وكنا نستدعي المخرج بدلاً من الممثل. تعاملنا مع جون فورد، وهاورد هيوز، ومع أعظم المخرجين الأميركيين ومع كثير من الإنجليز. جئت بمايكل باول إلى باريس، وأيضاً بناس من أجيال مختلفة، إيطاليين مثل فرانتشيسكو روزي، وفرنسيين من المبتدئين، وأيضاً من "الموجة الجديدة". لم نكن "نأخذ" إلا الأفلام التي تثير اهتمامنا وكنا نتولى تفسيرها عبر تقديم ملفات صحافية مليئة بالمعلومات. ومن جملة مَن أوصوني بالعمل معه ستانلي كوبريك. كانت تجربة سيئة. قدمت استقالتي بتيليغرام رنان. العمل معه كان جحيماً".
إنسان كل يوم
تافرنييه من هذا الجيل الذي تعلم صناعة الأفلام في الصالات المظلمة. أفلامه في مجملها غاضبة ومتمردة على النظام القائم. أما بطل سينماه فهو "إنسان كل يوم" الذي يحاول المحافظة على شذرات أمل مصراً على تحريك الأشياء حتى لو كانت المعركة خاسرة. بطله قد يكون أستاذ مدرسة في فلسطين أو في المدارس المنكوبة جراء التسونامي، أو الأساتذة الذين يقتلهم المتطرفون الإسلاميون في تايلاند، هؤلاء هم أبطاله، وليسوا الجنرالات الذين يحاربون في العراق.
انطلق في الاخراج بـ"ساعاتي سان بول" (1974) مع فيليب نواريه الذي أضحى مع الوقت ممثله المفضل في عدد من الأفلام، منها "ليبدأ الحفل" و"القاضي والمجرم" وتحفته "الحياة ولا شيء آخر". كما أنه أدار رومي شنايدر في "الموت بشكل مباشر" وديريك بوغارد في "دادي نوستالجي" وجاك غامبلان في "إجازة مرور". آخر فيلم أنجزه كان وثائقياً من 200 دقيقة عن السينما الفرنسية الكلاسيكية، وكان يستعد لإنجاز تتمة له لولا رحيله المفاجئ.
جيل الخيال
لم يمثل تافرنييه النموذج التقليدي للمثقف الفرنسي. بعد أكثر من نصف قرن من العمل في السينما أنجز في غضونه حفنة من الأفلام التي تُعد من كلاسيكيات السينما الفرنسية ونال عنها 40 جائزة دولية، كان لا يزال يردد ينبغي ألا نعتبر أنفسنا متفوقين لمجرد أننا من ذوي الثقافة.
كان لتافرنييه كثير من الفضول لأشياء كثيرة. هو من جيل يقدر الخيال. هناك سينمائيون كبرغمان عاد مراراً إلى التيمات نفسها، هو كان يجد أنه من الجيد أن يذهب المرء في استكشاف أمكنة وأزمنة مختلفة. هناك جملة في سيرة مايكل باول كان يتمنى لو كتبها، مفادها أنه صنع كل أفلامه ليتعلم. يقول، "كنت أندهش في كل مرة أكتشف فيها موضوعاً سيقحمني في عالم أجهله. لي شغف بالاستكشاف وأعتقد أن الأفلام نوع من استكشاف، وما نتشاركه مع الجمهور هو متعة ما اكتشفناه. قد تكون لهذه المتعة أشكال مختلفة. قد تولد لديك الدهشة أو الضحك أو الغضب أو الإعجاب. لم أكن أعرف شيئاً عن معظم الأمكنة التي صورتها قبل أن أمسك الكاميرا وأذهب إليها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صعود التعصب السياسي والأصوليات الدينية كان يخيفه كثيراً، ويهدد وجوده. أولاً لأنه مرتبط بالجهل الذي يزيح حضارتنا العالية من مكانها. كان يؤمن بالإنسان. كل ما هو مرتبط بالجهل أثار فيه الخوف. يقول، "كان أحد الفلاسفة يتكلم عن ديكتاتورية الجهل. أجد هذا أيضاً في أشياء أخرى منها مثلاً عندما يضعونك تحت سلطة ديانة جديدة هي العولمة، حيث كل شيء يجب أن يتماشى مع تمنيات المساهمين ومصالحهم. أرى شركات تجني أرباحاً كبيرة وهي جاهزة لكل شيء لمضاعفة هذه الأرباح عشرات المرات. نحن مهددون بديكتاتوريات عنيفة جداً. سابقاً، كان يمكن التصدي لها. الآن، بات الأمر أشد صعوبة. الشيوعية كانت ستالين، الفاشية كانت موسوليني، الفرنكية كانت فرنكو... اليوم الأصولية المتطرفة هم عشرة آلاف رجل دين صغير يروجون لأفكارهم، والبعض منهم لا يملك أي ثقافة وأي ذكاء وأي معرفة. أما العولمة، فهي ملايين الخبراء الاقتصاديين، ويُقال عنهم خبراء. وفي كل مرة تلفظ كلمة "خبير" أقول إن باخرة التايتانيك أيضاً صنعها الخبراء. كانت هذه الباخرة خلاصة إنجاز الخبراء، باخرة لا تغرق، لكن باتت تحت المياه بوقت قليل. نعيش في زمن يخيفنا والسينما هي شكل فني يساعدنا على أن نرى عالماً أكثر تسامحاً".