Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجزائري سمير قسيمي يواصل لعبة السرد الفانتازي في جو سوداوي

"الحماقة كما لم يروِها أحد" روايتان تتوزايان في الوقائع والشخصيات داخل رواية واحدة

لوحة للرسام وليد نظمي (صفحة الرسام على فيسبوك)

"الحماقة كما لم يروِها أحد"، رواية جديدة للكاتب الجزائري سمير قسيمي (منشورات ضفاف - منشورات الاختلاف، 2020)، وقد يبدو من الأصح القول: إن هذا العنوان يضم روايتين صدرتا معاً في كتاب واحد. فليس العنوان وحده مصدر صدمة للقارئ، بل العمل بمجمله صادم وغير متوقع، أراده الكاتب جمعاً لروايتين اثنتين متتابعتين، تأتي الواحدة منهما بعد الأخرى وليس داخلها.

ومَن يتابع كتابات قسيمي، يذكر أن روايته السابقة "سلالم ترولار" (منشورات المتوسط، 2019)، التي بلغت القائمة الطويلة في جائزة البوكر العربية، هي رواية سريالية تدور أحداثها حول شخصيات غريبة مغرِقة في الخنوع والفقر والجهل، والقبح إلى حدٍّ ما. فجاء هذا الكتاب "الحماقة كما لم يروِها أحد" ليكمل الرواية الأولى بروايتين اثنتين تتناولان الشخصيات نفسها في المكان الجغرافي ذاته والجو السريالي الفانتازي ذاته، فتسردان أحداثاً يجوز القول عنها إنها تفوق أضعافاً مضاعفة سريالية الجزء الأول من هذه الثلاثية.

وبين "سلالم ترولار" والرواية الثانية "حماقات دوق دي كار" والرواية الثالثة "الأحمق يقرأ دائماً" (هاتان الأخيرتان منصهرتان ضمن كتاب "الحماقة كما لم يروِها أحد")، يقدّم قسيمي ثلاثية مدينة محكومة بالضعف والمحدودية والجهل، والحماقة طبعاً. ويفسّر قسيمي خياره غير المعتاد هذا في مقابلة أُجريت معه، قائلاً: "ارتأيتُ ألا أصدر العملين اللاحقين ل"سلالم ترولار" منفصلين، وفضّلتُ جمعهما في كتاب واحد بعنوان الحماقة كما لم يروِها أحد، فهي رواية بروايتين". ويكمل قسيمي محدداً أن الثلاثية ستكون بعنوان "ثلاثية العبث".

وتشترك الروايات الثلاث في الشخصيات نفسها، وبتماسكِ الفضاء الروائي الكاريكاتيري الرمزي الغروتسكي، وفي الإطار الزماني والمكاني المشترك. حتى إنها تبدأ في 25 أغسطس (آب) من "عام لا يذكره أحد" في الساعة "الرابعة وأربع وثلاثين دقيقة" تحديداً. ولجعل الأمور أكثر تحدّياً للقارئ وأكثر تشابكاً على المستوى السردي، يجعل قسيمي لعبته مغرقة في الخيال، فيحوّل الرواية الأولى حلماً تستيقظ منه شخصية في الرواية الثانية، ثم يكتشف القارئ أن الرواية الثانية، إنما هي الأخرى حلم تستفيق منه شخصية في الرواية الثالثة. فتترابط الأحداث بحنكة ورمزية، وتتصاعد التطورات في وتيرة مقلقة ضمن فضاء سردي سريالي فانتازي سوداوي غير متوقع. فبينما تختفي الأبواب في الرواية الأولى، ويقوم الشعب بثورة من دون علمه في الرواية الثاني، يخسر الجميع القدرة على الكتابة والقراءة في الرواية الثالثة. أحداث أقلّ ما يُقال فيها إنها غريبة غرائبية فانتازية.

وقد تجوز المقاربة والمقارنة بين هذه الثلاثية الجزائرية المغرقة في التجريب، وأعمال الروائي السوري مازن عرفة الذي أغرق نصوصه الروائية هو الآخر بالفانتازيا والغروتسك والسريالية الصلبة. كتابات تنتمي إلى نوع من البورليسك الأدبي الذي يختار معالجة مواضيع سياسية واجتماعية دقيقة بحنكة سردية ونقد رمزي لافت، إضافة إلى تقديم أبطال وشخصيات بطريقة شعبية كاريكاتيرية فيها من الذمّ أكثر مما فيها من مديح. فهل نحن أمام موجة جديدة من الإبداع الأدبي السريالي الفانتازي؟ هل نحن أمام "موضة" جديدة ستعصف بالرواية العربية المعاصرة وتكسر القوالب الاجتماعية الصدئة؟

الحصرم والضرس

تدور أحداث قسيمي في "بلد يشبه الثكنة"، فتعيش الشخصيات في ظل دولة قائمة على حكم عسكري يبطش بالناس ويحرمهم أبسط حقوقهم لدرجة أن الحماقة تصبح خصلة ممجّدة ومطلوبة ومريحة، فتقول إحدى الشخصيات: "أفضّل وجه الأحمق، وحياة الحمقى، فهي أقل إيلاماً وأكثر سعادة". (ص: 108). إنّ الاستبداد السياسي الذي تصفه روايات قسيمي يتجسّد في صورة الرئيس الطاغية، الحاكم الواحد المسيطر السرمدي الأبديّ الوجود. "رئيس" هو على صواب دائماً، لا نقترب منه ولا نعارضه ولا نتحدث في وجوده.

وفي ظل ديكتاتورية هذا الرجل الواحد تقوم ثورة. إنما ليس الشعب هو من قام بها. تقوم ثورة تطيح بالرئيس ويتحمّل الشعب عواقبها من دون أن تكون له يد بها، من دون أن يكون له علم بها حتى. فالشعب القابع في الخنوع والخضوع والخوف والفقر والجهل، أنّى له التمرّد والخروج على الرئيس؟ الشعب الذي يؤدّي دور الدمية الصامتة الحمقاء، أنّى له أن يثور؟ وعلى ذلك، يدفع هو الثمن عندما يأمر الرئيس جيشه وحراسه عند تفاقم الأمور، قائلاً: "أضربوهم، اعتقلوهم، أقتلوهم إذا تطلّب الأمر" (ص: 179). ومَن يظنّ أن الرئيس سيكتفي عند هذا الحدّ فهو مخطئ، فيضاف إلى هذه المسألة سطر مغرق في البطش والاستبداد: "مهما يكُن، لن ينتهي شعب بالكامل مهما أعملت التقتيل فيه، كما أن ألفاً أو ألفين، لن يجعلا الشعب يختفي" (ص: 203).

لا يبالغ قسيمي عندما يكتب هذه الجمل. لا يبالغ عندما يُظهر لا مبالاة الطبقة الحاكمة بالشعب المقهور المضطهد الذي تحمّل عواقب ثورة، أزاحت نظاماً فاسداً وأقامت مكانه نظاماً أكثر فساداً. لا يبالغ عندما يصف كيف يتحكّم "الرجل الضئيل" بسعادة شعب بأكمله وحرّيته وحقوقه.

الحماقة مفتاح السعادة

ولا تنتهي مصائب هذا الشعب المسكين عند السياسة، فالواقع الاجتماعي مزرٍ ومتردٍّ بدوره. المرأة مظلومة والرجل مظلوم. فالقانون ظالم والدين ظالم والبيروقراطية ظالمة والقضاء ظالم. وإن كان المجتمع بأسره قائماً على أرضيّة فاسدة رديئة، فليس بالغريب أن تكون طباع أهله متأرجحة بين طمع وأنانية وتزلّف وتملّق وكذب ونفاق وفوضى. حتى وسائل التواصل الاجتماعي تنال حصتها من هذا الهجاء أو satire، فيكتب الراوي ما يعرفه الجميع إنما لا يقوله على العلن: "أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حقّ الكلام لفيالق من الحمقى" (ص: 57).

يقدّم قسيمي مقاربة حسّية موجعة للواقع العربي المؤسف، فالتعصب "يفرّق ما جمعه الحب" (ص: 61)، والتفكير بات "سلوكاً مملّاً" (ص: 119)، والعدالة والقانون والقضاء مغيّبة، والدولة "لم تعُد تبطش بالضعفاء دون سواهم، بل بكل مَن قادته الصدف أو الأقدار أو سوء الطالع ليدخل محكمة أيّاً كان نوعها" (ص: 270). في عالمنا اليوم، صار الجميع متساوياً بالبؤس والضعف والخنوع. في عالمنا اليوم، صار الإنسان عاجزاً مهمّشاً معاملاً ككائن لا يفكّر ولا قيمة له، ليتحوّل الأمل والطمع والحماقة إلى "توابل تتطلّبها وصفة السعادة الكاملة" (ص: 84). أصبح الإنسان العربي للأسف في حاجة للحماقة لينجو من قسوة هذا العالم، فـ"لا أحد فينا يرغب في الحقيقة، رغم ادّعائنا أننا نبحث عنها" (ص: 108).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عالم تحوّل فيه أي إنسان أحمق يشعر بالملل إلى كاتب، في عالم لا وجود لمن يقرأ أو يفكّر، من الطبيعي أن يُعاقب قسيمي الناس بسلبهم القدرة على القراءة والكتابة، فهم أصلاً لا يستعملون هذه القدرة. ولا يبالغ قسيمي للأسف عندما يجسّد بين يدَيْ قارئه عالماً لا يحترم الكلمة والفكر والحرّية. لا سخرية في هذه الثلاثية ولا كوميديا سوداء، شيء من الكاريكاتيرية، ربما، لكنها ترمي إلى نقل المرارة والبؤس والحرمان التي يعيشها الإنسان العربي. وضع قسيمي هجاءً للإنسان العربي الذي لا يقرأ ولا يكتب ولا يتحسّن ولا يحرّر نفسه بعقله.

 لم يستعمل قسيمي الإضحاك ولا الظُرف ولا حتى الكوميديا، قدّم على العكس، عالماً سوداويّاً غرضه نقد سياسي اجتماعي فكري لعالم عربي يحاول أن يثور، إنما لا يعرف من أين يمسك بالثورة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة