Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رؤوس حامية في واشنطن وموسكو فهل تدفع العالم نحو الحرب الباردة؟

الرئيس الأميركي يلوح بعقوبات جديدة وروسيا تتوقع كل السيناريوهات

تبدو بوصلة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن قد تحولت في الأيام الأخيرة بشكل واضح، ذلك أنه بعدما كان، وربما لا يزال، يعتبر الصين هي العدو الاستراتيجي الأول للولايات المتحدة، ها نحن نراه يوجه نيران مدافعه، وفي لحظة من سخونة الرؤوس إلى روسيا، ويصف رئيسها فلاديمير بوتين، في حواره مع شبكة "إيه بي سي نيوز"، بأنه قاتل... نعم قاتل.

لماذا ذهب بايدن إلى هذا المذهب، والذي ينافي ويجافي الأعراف الدبلوماسية، إذ لم يستخدم وصفاً كهذا أي من الرؤساء الأميركيين خلال الحرب الباردة؟

السبب كما هو ظاهر للعيان يتمثل في التقرير الذي نشره مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأميركي حول التهديدات التي طالت الانتخابات الرئاسية، التي جرت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والذي كشف دوراً لروسيا وإيران في محاولة للتأثير في الاقتراع.

التقرير المشار إليه، يقطع بأن بوتين وافق على إطلاق حملة تهدف إلى "تشويه سمعة بايدن والحزب الديمقراطي، ودعم الرئيس السابق، دونالد ترمب، وتقويض ثقة الجمهور في العملية الانتخابية، ناهيك عن تعزيز الانقسامات الاجتماعية والسياسية في الولايات المتحدة".

بايدن والانتقام للهجوم السيبراني

منذ صدور الوصف الشائه من قبل بايدن في حق بوتين، والمراقبون من كل حدب وصوب يتساءلون: "هل قصة تقرير الانتخابات هو السبب الرئيس وراء هذا الحنق الكبير الذي أظهره سيد البيت الأبيض في مواجهة صاحب الكرملين؟

هناك في واقع الأمر ما يثير الشكوك الماورائية، ويلفت الانتباه إلى أن بايدن يحاول الثأر لأمر آخر.

في تقييم الاستخبارات الوطنية نجد أنه "لا توجد مؤشرات إلى أن أي جهة أجنبية حاولت تغيير أي جانب تقني من عملية التصويت في الانتخابات الأميركية 2020، بما في ذلك تسجيل الناخبين أو الإدلاء بأصواتهم أو جدولة الأصوات أو الإبلاغ عن النتائج".

يمكن لبوتين هنا أن يحاجج بأن التقرير الأميركي يحمل تناقضاً بنيوياً في داخله، ويجعل من اتهام بايدن له، قضية أخرى، تستوجب المحاسبة ورد الفعل.

على أن ما يمكن أن يكون الدافع الرئيس وراء هذا المقت الكبير والاتهام الخطير لبوتين، موصول بقضية أخرى، تتعلق بالهجومات السيبرانية التي تعرضت لها الولايات المتحدة مرتين من قبل.

المرة الأولى في أواخر العام 2016، حين احتدم صراع الانتخابات الرئاسية بين المرشح الجمهوري وقتها دونالد ترمب، ومنافستة الديمقراطية هيلاري كلينتون، وما شاع من اختراق روسي برامج الحزب الديمقراطي، وإظهار التآمر على الرمز الديمقراطي اليساري، بيرني ساندرز، ودفعه خارج إطار الترشيحات، الأمر الذي أفقد هيلاري فرصة الفوز.

قبل الإعلان عن نتيجة الانتخابات الرئاسية 2016 كان بايدن يتوعد بمعاقبة الروس بشكل كبير، غير أن إخفاق الديمقراطيين، وخروج إدارة أوباما من البيت الأبيض، لم تمكنه من الانتقام.

مرة أخرى تتعرض الولايات المتحدة لهجوم سيبراني، في أواخر ولاية ترمب، وتحديداً في ديسمبر (كانون الأول)، هجوم كاسح استهدف وزارتي الطاقة والخزانة، ومن قياس ردود فعل وزير الخارجية السابق بومبيو، وعدد من قيادات الأجهزة الاستخبارية الأميركية، يخلص المرء إلى أن الخسائر التي منيت بها واشنطن كانت فادحة للغاية، وإن لم يعلن عنها جميعاً لأسباب حكماً تتعلق بالأمن القومي.

في ذلك التوقيت كانت نتائج الانتخابات الرئاسية قد تم الإعلان عنها، وعرف الجميع أن بايدن هو سيد البيت الأبيض القادم، مهما حاول الرئيس السابق ترمب الاعتراض على النتيجة، ووقتها أكد الرئيس المنتخب، على أن الجاني لن يفلت من العقاب، وبدا واضحاً أن أصابع الإتهام تشير إلى روسيا بكل قوة.

هنا تطفو على السطح علامة استفهام جذرية: هل المواجهة الساخنة الأخيرة، هي بداية لمواجهات أكثر تعقيداً، لا سيما أن الجانب الأميركي كان قد أعلن بشكل صريح، وغير مريح للروس بأن الانتقام السيبراني المضاد سيكون أشد هولاً مما تعرضت له المنشآت الأميركية الرئيسية قبل بضعة أشهر؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إدارة بايدن والعلاقة مع روسيا

في اليوم التالي لتصريحات بايدن المثيرة، خرجت المتحدثة باسم البيت الأبيض، لتؤكد أن الرئيس كان يعني بالتمام الوصف الذي أسبغه على بوتين، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً للتساؤل عمّا هو أبعد من مجرد تصريح عابر ولو تسبب في أزمة، والوصول إلى  رؤية الإدارة الأميركة الحالية لروسيا، وهل هي العدو الأول للولايات المتحدة أم أن الصين تسبقها؟

الثابت أنه على الرغم من أن أدارة بايدن لم تتراجع عن تصنيف روسيا باعتبارها خصماً لأميركا، إلا أنها بدت أقل حدة من المتوقع مع الدولة التي كان الديمقراطيون يلومون ترمب دوماً على اللين معها.

ولعله يمكن استنتاج ذلك من خلال الإجابات التي قدمها الجنرال "لويد أوستن"، خلال جلسات تثبيت تعيينه في مجلس الشيوخ أمام لجنة القوات المسلحة، فقد قال ما نصه: "في حال الموافقة على تعييني سأبحث عن السبل لتجنب التصعيد الخطير وحماية مصالحنا وقيمنا بحزم، وسأترك الباب مفتوحاً للتعاون مع روسيا في المجالات ذات الاهتمام المشترك".

الذين استمعوا إلى أوستن في تلك الجلسة، تفاءلوا بأن أوجه التعاون بين موسكو وواشنطن ستضحى رحبة فسيحة، وفي المقدمة منها الرقابة على الأسلحة ومحاربة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، وتسوية النزاعات العسكرية في المناطق التي تعمل فيها القوات الأميركية والروسية على مقربة من بعضها بعضاً، كما اعتبر أن تمديد معاهدة الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية "ستارت -3"، مع موسكو سوف يصب في مصلحة واشنطن.

هل كانت إفادات أوستن تعني أن سنوات بايدن في البيت الأبيض ستكون سخاء رخاء لجهة التوجهات نحو روسيا، أم أن أصواتاً أخرى ذهبت إلى العكس من ذلك، الأمر الذي يفسّر ماورائيات وصف بايدن بوتين بالقاتل؟

واشنطن حائرة بين موسكو وبكين

في رده على الرئيس بايدن، تمنى بوتين الصحة للرئيس الأميركي، الأمر الذي فهم منه العالم بالتلميح، لا بالتصريح، تشكيكاً في مقدّرات الرئيس الأميركي الذهنية، وهو أمر لفت إليه الكثير من الأميركيين الانتباه من قبل، لا سيما وأن ساكن البيت الأبيض تتغير مواقفه جهة توصيف وتصنيف، بل ترتيب أعداء أميركا، من الأخطر إلى الخطير.

ولعل مراجعة محقّقة ومدققّة لتصريحات بايدن بشأن التحديات التي تواجه الإمبراطورية الأميركية المنفلتة، لا سيما على صعيد المنافسة القطبية، تصيب القارئ بالحيرة، ففي ساعات بعينها تضحى بكين هي المهدّد بالردع النقدي، وفي غيرها تطفو موسكو بوصفها صاحبة الردع النووي.

في خطاباته الانتخابية وفي برنامج الحزب الديمقراطي الأميركي، يؤكد بايدن أنه يعتبر روسيا العدو الرئيسي لأميركا، فيما يذهب إلى أن الصين ليست عدواً لكنها منافسة.

غير أنه وبعد أقل من مئة يوم على دخوله البيت الأبيض، يقوم بإرسال وزيري خارجيته ودفاعه، بلينكن وأوستن إلى اليابان، لترتيب الأوضاع للمواجهات القائمة والمقبلة مع الصين، وبخاصة في منطقة بحر الصين الجنوبي.

والمثير أنه قبل زيارة اليابان، تحدث بلينكن عن سعي واشنطن إلى تعزيز ما أطلق عليه الاستقرار الإستراتيجي مع روسيا على الرغم من الخلافات، وجاء في تصريحاته: "تمكّنا في الوقت نفسه وبسرعة كبيرة، من مواصلة العمل بمعاهدة "ستارت 3" لخمس سنوات، لأن هذا الأمر من مصلحتنا، وسنبحث عن طرق أخرى لتعزيز الاستقرار الإستراتيجي مع موسكو، على الرغم من أننا أوضحنا أن الإجراءات التي يتخذونها تتحدى مصالحنا وقيمنا".

أما الوحيد في إدارة بايدن والذي كان واضحاً وقاطعاً في رؤيته العلاقة مع روسيا، فهو مستشار الأمن القومي "جاك سوليفان"، ففي الشهر الأول لإدارة بايدن، خلص إلى أن علاقات واشنطن مع موسكو ستكون صعبة.

هل الولايات المتحدة والعالم على موعد مع تجلي تكافؤ الأضداد في الروح الأميركية الواحدة، أي ازدواجيتها المثيرة للقلق لحلفائها قبل أعدائها؟

تحدث عن السلام وامسك عصا غليظة

يصعب على المرء الاقتناع بأن تصريح الرئيس بايدن جاء عفوياً، على الرغم من محاولات بوتين التشكيك في قواه الذهنية، فيما تفيد القراءات المعمّقة للواقع الأميركي، والتصريحات التي لا تطفو كثيراً على  السطح، بأن المواجهات الساخنة قريبة جداً، ومن المحتمل حدوثها في أي وقت، سواء انسحب الأمر على موسكو، أو بكين، وكأن إدارة بايدن تسعى وراء تنفيذ مقولة الرئيس روزفلت عام 1905: "تحدث عن السلام وامسك عصا غليظة".

على سبيل المثال ما كتبه رئيس القيادة الإستراتيجية الأميركية الأميرال تشارلز ريتشارد في مقال لمجلة المعهد البحري العسكري، في أوائل فبراير (شباط) المنصرم، من أن: "هناك احتمالاً حقيقياً لتصاعد أزمة إقليمية مع روسيا أو الصين بسرعة إلى صراع نووي، إذا شعروا بأن خسارة صراع تستخدم فيه الأسلحة التقليدية، قد يهدد النظام أو الدولة". وفي رأيه، أدت الحرب الباردة  إلى ظهور أمل كاذب في واشنطن بأن استخدام الأسلحة النووية أصبح مستحيلاً عملياً". لكن على أميركا، الآن، أن تضع في اعتبارها أن استخدام الأسلحة النووية احتمال واقعي.

والثابت كذلك أن الروس لا يغيب عن أعينهم أن محاولات الغرب المستمرة والمستقرة في تهديدهم، لا تكتفي في واقع الحال بتوجيه الرؤوس النووية من الخارج، بل تعمد إلى تفجير الداخل، إلى جانب الاستعانة بمساعدة عملاء مموّلين من الغرب، واختلاق احتجاجات من خلال "فيسبوك" و"تويتر" و"يوتيوب"، فإن التركيز الثاني لواشنطن هو إثارة النزاعات على حدود روسيا.

لعل النتيجة المؤكدة لهذه الجزئية تتمحور حول انعدام الثقة الروسية في أي إدارة أميركية، بمقدار غياب أي توجهات إيجابية أميركية ناحية موسكو... هل الوضع مرشح للمزيد من الاحتقان؟

بايدن والمضي في تنفيذ تهديداته

في حديث بايدن الإشكالي الأخير لمحطة "إيه بي سي نيوز"، يقطع بأن الرئيس الروسي سوف يواجه عواقب، وسيدفع الثمن، ورداً على سؤال عن العواقب التي يقصدها قال: "سترون قريباً"، من دون ذكر تفاصيل.

الازدواجية المربكة التي تشوب إدارة بايدن، والتي أشرنا إليها سلفاً، تتبدّى أيضاً من خلال اعتباره إمكان التعاون مع روسيا بشأن المواضيع التي "من مصلحتنا المشتركة العمل معها"، على حد تعبيره، وقد أشار في هذا الصدد إلى قراره تمديد اتفاقية "ستارت الجديدة"، مع موسكو في يناير(كانون الثاني).

هل هي دبلوماسية انتقائية إن جاز القول، بمعنى معاقبة روسيا متى يحلو الأمر لأميركا، والتعاون معها حال صبّ التعاون في مصلحة العم سام؟

مهما يكن من أمر، يبدو أمام واشنطن مساران لا ثالث لهما:

الأول: العقوبات الأميركية التقليدية، وفي هذا الصدد قال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف: "لقد مررنا عبر ذلك أكثر من 90 مرة، تم خلالها فرض عقوبات مختلفة، اعتباراً من عام 2011، ويمكن القول إن الالتزام المهووس بهذه السياسة ازداد في العلاقات مع الولايات المتحدة، ولاشك في أن هذا الخط سيستمر لاحقاً، ونحن ننظر إلى ذلك بهدوء".

الثاني: أن تقوم واشنطن بتحضير هجومات سيبرانية مقابلة، تعرّض المصالح الروسية في الداخل والخارج إلى أخطار جسيمة، في محاولة للانتقام من هجومين تعرّضت لهما المؤسسات الأميركية في 2016 و2020، ولا يعرف أحد على وجه التحديد، الخسائر التي نجمت عنهما.

بوتين وتوقعات روسية مستقبلية

أين القيصر الروسي مما يجري على سطح الأحداث مع واشنطن؟

بعيداً من الرد الملغم الأخير على ما فاه به بايدن، يمكن القطع بأن سيد الكرملين كان يتوقع تلك السيناريوهات بالفعل، وهو ما كشف عنه في 17 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، خلال اجتماع مشترك لمجلس الدولة ومجلس شؤون التنمية الإستراتيجية والمشاريع الوطنية، فعن العلاقات مع إدارة بايدن قال: "في حقيقة أن قيادة الدولة هناك تتغير، وسيكون الأمر أكثر صعوبة بالنسبة لنا، لا أعتقد ذلك... سيكون كالمعتاد... لا ينبغي أن ننطلق من هذه الفكرة في ما يتعلق بسياستنا المتبعة".

 هل كان ذلك بمثابة جزء من ردود فعل تدخل في إطار الحرب النفسية بين موسكو وواشنطن، ومن أجل طمأنة شعبه؟

أغلب الظن أن ذلك كذلك، لا سيما أنه أشار في الجلسة عينها إلى ما سمّاه: "ضرورة إدراك الصعوبات أو التهديدات التي ستواجه البلاد"، مضيفاً "يجب توقع هذا مسبقاً وتنظيم عملنا في المجال الاقتصادي، وزيادة قدرتنا الدفاعية".

ردود بوتين كانت حاسمة وحازمة، وتبدي استعدادات موسكو لملاقاة السيناريوهات المتوقعة كافة، بدءاً من عقوبات أميركا الاقتصادية، وصولاً إلى المجابهات النووية، إن تطلّب الأمر.

بوتين أكد في ذلك اللقاء أن روسيا لا تنوي نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى في الجزء الأوروبي من البلاد، وفي مناطق أخرى من روسيا الاتحادية، لكنه في الوقت عينه يقطع بأن بلاده سترد بسرعة على نشر الدول الغربية الصواريخ بالقرب من حدودها.

في الخلاصة، ربما يتوجب علينا الانتظار قليلاً ورؤية ما سيفعله بايدن، غير أنه وفي حال السعي في طريق معاقبة بوتين وموسكو من ورائه، سيفتح الباب واسعاً لتحالف روسي- صيني، في مواجهة "الإمبريالية الأميركية "كما يراها هذا البلدان... فماذا عن ذلك؟

المزيد من تقارير