سؤال: ما الذي يجمع بين مدن مثل كازابلانكا وطنجة وإسطنبول والجزائر والخرطوم وبكين وشانغهاي وحتى طبرق والعلَمَين والقاهرة؟ كلها مدن تنتمي إلى ذلك العالم الذي كان واقعاً تحت الاحتلال الفرنسي أو الإنجليزي وحتى الإيطالي وغير ذلك، خلال النصف الأول من القرن العشرين، أي الحقبة الزمنية التي راحت السينما تبحث فيها عن مواضيع وأماكن غريبة إن لم تكن غرائبية لتجعلها عناوين أفلام ترث الاستشراق الفني بشكل أو آخر. في ذلك الحين كانت السينما تعرف أن مجرد حمل فيلم سينمائي واحداً من تلك الأسماء ينعكس نجاحاً وإقبالاً جماهيرياً هائلا ًعليه. فالأسماء ليست هنا جغرافية بل أسطورية. كان الأدب والفن التشكيلي والشعر قد أسطرتها مبدلة وظيفتها ومعالمها ملصقة بها حكايات تضمن للمتفرجين مشاهد مدهشة وحكايات مثيرة.
صدمة سلبية
أحياناً كثيرة كان يمكن لحكايات تلك الأفلام أن تكون مستمدة من واقع تاريخي حقيقي غالباً ما يرتبط بالحروب والغزوات والمطاردات والتجسس وما إلى ذلك، على خلفية حكايات غرام لا بد منها، لكن السر كل السر كان يكمن في مهارة السينمائيين في لعبة الربط بين "التاريخ الحقيقي" و"الحكايات" الغرائبية المتخيَّلة ما يجعل تلك الحكايات تحل في الأذهان والمخيلات محل الواقع المعيوش بالفعل ما يزيد من حجم الصدمة "السلبية" غالباً التي تحدث حين يزور القادر من أولئك المتفرجين واحدة أو أكثر من المدن المعنية باحثاً عن أسطورة لن يمكنه العثور عليها على الإطلاق. في مثل تلك الحالات قد يحدث للزائر أن يُدهش لحجم التغيرات التي طرأت على المدن، لا أن يقتنع بأن خيال السينمائيين كان هو من لعب لعبته وخلق له عوالم جديرة بأن ترد حكاياتها في كتاب شبيه بكتاب الراحل أومبرتو إيكو عن الأماكن المتخيّلة.
الخرطوم على إيقاع راهنها
نقول هذا هنا وفي ذهننا أعداد لا تحصى لأفلام لعل أكثرها حضوراً اليوم الفيلم الإنجليزي "الخرطوم" للمخرج بازيل ديردن. فلكثرة حضور العاصمة السودانية في أيامنا هذه ومنذ بضع سنوات على شاشات التلفزة كساحة لثورة شعبية أطاحت حكم عمر البشير لتبني ما يراه كثر أول ديمقراطية صادقة هناك في زمننا الراهن، لا شك في أن كثراً من هواة السينما قد استعادوا في أذهانهم ذلك الفيلم الذي حمل اسم "الخرطوم" بقوة وبـ"السينما فيزيون" (الشاشة الأعرض) جاعلاً منها واحدة من تلك المدن التي نتحدث عنها هي التي لم تكن لها تلك السمات السحرية الغرائبية في الماضي لكنها باتت مدينة غرابة حقيقية منذ عرض الفيلم بنجاح كبير في العام 1966.
لكن الخرطوم شيء آخر
مهما يكن لا بد أن نشير هنا إلى أن الخرطوم التي صوّرها الفيلم كانت أقل غرائبية وأكثر تاريخية من معظم الأفلام المشابهة. فصناع هذا الفيلم، وكما حال أفلام تتسم بالبعد التاريخي مثل "لورانس العرب" و"55 يوماً إلى بكين"، كانوا يسعون منذ البداية إلى إنتاج فيلم تاريخي مبني على وقائع يعتبرونها حقيقية، لكن السينما كعهدها عرفت بعناصرها الجمالية و"تلفيقاتها" التاريخية، كيف تؤسطر فيها التاريخ عبر لعبة لا مفر منها انطلاقاً من أن الفيلم لا يمكنه أن يكون مجرد درس في التاريخ. وهكذا لئن كان محور الفيلم الصراع السياسي والشخصي بين الجنرال غوردون غازي السودان، وغالباً بقوات مصرية، مباشرة بعد الاحتلال الإنجليزي لمصر أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر، وبين الثائر محمد أحمد الذي انتفض ضد الإنجليز مع الثوار من أتباعه الذين كانوا يبجلونه تحت اسم "المهدي"، فلمجرد أن يلعب الدورين الرئيسيين في الفيلم النجمان الكبيران حينها، تشارلتون هستون (غوردون) ولورانس أوليفييه (المهدي) كان أمراً أغدق على الفيلم أسطوريته وانحرف به عن تاريخيته، بخاصة أن أي واحد من النجمين، وبالتالي أي دور من الدورين لم ينطبع بطابع الشر بحيث جاء الفيلم أقرب إلى صراع بين قامتين وهميّتين ومشروعين، لا صراعاً بين أبيض وأسود. ومن المؤكد أن هذا يسجل نقطة لصالح الفيلم كما من المؤكد أن إدراك السلطات المصرية لهذه الحقيقة هو الذي حدا بها للسماح بتصوير أجزاء من الفيلم فوق أراضيها.
إضفاء الدراما على التاريخ
من الناحية التاريخية، يحاول "الخرطوم" أن يرسم صورة درامية إنما تستند إلى واقع تاريخي ما، لأحداث عاشها السودان في الحقبة التي يتناولها الفيلم والتي أدت إلى احتلاله من قبل بريطانيا، ولكن، أكسسوارياً، في شراكة مع مصر التي كانت قد أضحت بدورها واقعة تحت الاحتلال البريطاني. وكما جرت العادة في مثل هذه الأفلام سيكون الصراع السياسي والإداري بين غوردون وحكومته، أشد وطأة من صراعه مع "المتمردين" السودانيين الذين ستكون الصراعات داخل صفوفهم أشد عنفاً. وهو ما يؤدي عادة إلى شخصنة الحروب والأحداث الكبرى. ولقد تجلت هذه الشخصنة هنا بدءاً من اللقاء، المفصلي في الفيلم، الذي يدور بين غوردون والإمام المهدي. وإذا كان الفيلم، في خطوطه العريضة، قد اتَبع الأحداث التاريخية بشكل أو آخر، فإنه في الوقت نفسه حرّف على هواه في التفاصيل إلى درجة أنه إذا كان الفيلم قد نال إعجاب النقاد السينمائيين، الإنجليز بخاصة، إذ صوّر الصراعات السياسية الإنجليزية في لندن لا سيما عند مفتتح الفيلم حيث يدور الأساسي من الأحداث داخل أروقة السلطة الاستعمارية قبل انتقالها إلى الخرطوم والقاهرة أحياناً، فإنه أثار العديد من الانتقادات لدى المؤرخين الذين أخذوا على الفيلم بصورة خاصة رسمه شخصية المهدي معفياً إياه من العديد من التفاصيل التي كانت تعتبر دامغة له. بل إن ثمة من بين المؤرخين من رأى أن اختيار نجم ذي كاريزما كلورانس أوليفييه للدور شكّل نقطة ضعيفة في الفيلم. وطبعاً سيردّ آخرون بأن السينما غير التاريخ ويمكن للكتابة الفيلمية التحرك على سجيتها في رسمها العديد من التفاصيل متسائلين: هل التاريخ الذي يقدمه لنا شكسبير، على سبيل المثال، هو صورة حقيقية لما حدث حقاً؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من داخل منطق الفيلم
لكن بصرف النظر عن تلك السجالات الأكاديمية وغير الأكاديمية، يبقى أن "الخرطوم" فيلم مميّز في المضمار التاريخي إذا ما نظرنا إليه من منطقه الخاص باعتباره عن التاريخ الإنجليزي بأكثر مما هو عن التاريخ السوداني. ونعرف أن هذا النوع من التفكير التاريخي الإنجليزي، الذي ينطلق وبشكل قاس من النظر بعين ناقدة بعنف ممارسات السلطات السياسية في لندن، كان قد بدأ يكثر منذ ركز فيلم "لورانس العرب" لدافيد لين من كتابة روبرت بولت على أخطاء وربما حتى خطايا السياسات الإنجليزية في تعاملها "المنافق والأحمق والكاذب" بحسب تعبير روبرت بولت، مع البلدان التي استعمرتها فجعل تصرفاتها السياسية تنطلق من رؤية لندنية بعيدة، ودائماً على الضد من نصائح بل مواقف المبعوثين ميدانيّاً سواء سياسيين أو عسكريين، فيؤدي الأمر إلى كوارث ومذابح وتوترات لا تنتهي.
تجاوز المطبات
يقيناً أن فيلم "الخرطوم" أراد قول هذا بقدر كبير من الصدق والغضب، لكن المشكلة الأساسية التي جابهها تكمن في أنه لم يتمكن من إرضاء السياسيين المحافظين في الوطن، ولا من إقناع المنتقدين من دون هوادة في البلد الآخر، السودان هنا. فهل هذا لأن المعضلة وضروب سوء التفاهم الناجمة عنها هي من الحدة بحيث لا يكون في مقدور السينما مجابهتها؟ ربما. ولكن السينما يمكنها أن تكسب من ناحية أخرى وربما في منأى من الحسابات الإيديولوجية: في مجال التعبير الفني لا سيما حين تُنسى السجالات الأسياسية. وهذه هي حال "الخرطوم" الذي يبدو اليوم فيلماً قوياً متماسكاً يثير من الأسئلة أكثر مما يحاول أن يجيب وبخاصة في سياق كونه نموذجاً لسينما تاريخية تحاول أن تقتحم مجالاً مغلقاً عليها وحافلاً بالمطبّات لكنها تقدر على تجاوزها... وفي رأينا أن هذا من شيم السينما التاريخية الإنجليزية بخاصة.