Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ازدهار "سوق الكندرجية" بطرابلس اللبنانية في ظل الأزمة الاقتصادية

يسعى الأهل أيضاً إلى إصلاح حقائب أولادهم المدرسية القديمة

أعادت الأزمة الاقتصادية النشاط إلى "سوق الكندرجية" في طرابلس اللبنانية، بفعل ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي، وعجز المواطن عن شراء الأحذية الجديدة المستوردة.

ويبحث المواطن في هذه المرحلة الصعبة عن بدائل لتأمين حاجاته من المأكل والملبس، وبات "الكندرجي" أو صانع الأحذية، الملجأ الأخير للمواطن المكتوي بنار الغلاء والفقر، بعد أن أرخى ارتفاع سعر الدولار بظلاله على الزبون والتاجر، وأصبحت البضاعة المستوردة بعيدة المنال، لتصبح حكراً على فئة قليلة من الناس، ممن يمتلكون دخلاً مالياً مرتفعاً.

الكندرجي الفنان

في آخر "سوق الكندرجية"، يستمر مروان معرباني بالعمل وصناعة الأحذية الجلدية وفق تقنيات حرفية اكتسبها منذ حوالى نصف قرن. يصنع مروان خلال اليوم الواحد 25 زوجاً من الأحذية من أجل توريدها إلى محال السوق التجاري، ويستمر أحياناً حتى ساعات متأخرة من أجل إنجاز عمله.
ترعرع معرباني في مهنة صناعة الأحذية، ونشأت بينه وبينها رابطة شديدة عبّر عنها بقوله، "الحذاء عزيز على قلبي، وحبه يسري في عروق جسدي، لأن لدي 10 أولاد، وأسهمت هذه المهنة في تأمين حاجاتهم الأساسية".

وتُعتبر "صناعة الأحذية" مصدر فخر بالنسبة إلى ممتهنها، إذ ورث معرباني الحرفة عن عائلته، ويستمر بحماية هذا الإرث، مصّراً على متابعة المسيرة التي تمنحه الأمل بتحسين ظروف معيشته. وبحسبه، فإن لصانع الأحذية صفات عدة أولها الصبر، كما تندمج في شخصيته مجموعة مهن، فهو فنان وخياط ومعلم ومهندس، بحيث يتفنن في تصميم الأحذية وخياطتها وطلائها وصولاً إلى منحها الشكل الهندسي المتناسق والأنيق.

وأسهم مروان معرباني في تعليم هذه الحرفة اليدوية إلى عشرات الشبان، إلا أن كثيرين منهم أقصتهم الحياة وملماتها عن السوق، ولم يسعفهم الحظ بالاستمرار في العمل بسبب تغير الأزمنة، وكان يتمنى أن يعلّم أبناءه تلك المهنة، إلا أنهم اتجهوا نحو اختصاصات وأعمال أخرى مختلفة.

ويعود مروان بالذكرى إلى مرحلة الطفولة حين بدأ بتعلم المهنة، وكان يسمع من العاملين فيها أن "الحرفة التي لا تُغني... تَستر"، وهذا ما تحقق فعلياً معه عندما شبّ وأصبح رب أُسرة، فأبعدت منه الحاجة وحقق من خلالها استقلاله المادي.

هذا الأمر "زاد من فيمتها" لديه بسبب النجاحات المتكررة والتطور المهني المستمر، ويستذكر أنه كان يضع على خصره "سلاحه" (أي العدة التي يعمل بها) ويتنقل بين الورش، حيث كان يعمل في أربعة محال من كثرة الطلب.

واليوم يستمر مروان معرباني بهذه الحرفة التقليدية على الرغم من هجرها من قبل أكثرية "رفاق الكار" الذين اشتهر في أوساطهم بـ "أسرع صانع أحذية في طرابلس".

ويخشى الحرفي الطرابلسي انقراض تلك المهنة بسبب وفاة ممتهنيها، متسائلاً، "أليس مؤسفاً ألا يبقى صانع أحذية غيري في هذه المدينة؟"، ولذلك ينصح زملاءه من أولاد البلد بالعودة إلى إحيائها من أجل إطلاق عجلة صناعة الأحذية.

ويقرن معرباني بين "ازدهار الصناعة وبقاء لبنان واستمراره"، لأن هذا القطاع حافظ على استقرار البلاد لفترات طويلة، وأمّن حياة كريمة لمواطنيه ردحاً من الزمن، ناصحاً الدولة بدعم هذه الحرف والصناعات، وتعليمها للناشئة في مراكز التدريب المهني.

وعبّر معرباني عن اعتقاده بأن "الغلاء الفاحش منع اللبناني من التخطيط لتوسيع أعماله، لذلك لا بد من الصمود في المهنة والاستمرار"، وأن "يشعر الناس ببعضهم بعضاً بسبب الحال الاقتصادية الصعبة"، وخدمة الآخرين كل بحسب موقعه ومكانته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


السلعة الشعبية صامدة

ورأى معرباني أن "الأزمة أسهمت في تنشيط سوق الكندرجية، لأن الناس تعاني الفقر والقلة، ولا يمكن للمواطن شراء حذاء أجنبي جديد"، كما أن التاجر توقف عن الاستيراد، لأن "سعر صرف الدولار وصل إلى مستويات قياسية، وتجاوز الـ 14 ألف ليرة". ويبلغ سعر الكلفة للقطعة الأجنبية الواحدة خمسة دولارات على الأقل، وهو سعر مرتفع نسبياً.

ويحاول الحرفي تكييف صنعته مع الأزمة، ويعمد إلى تأمين المواد الأولية من طريق "الشروات واللقطات"، أي أنه يقصد المعامل والمحترفات التي أقفلت قسراً من أجل شراء الجلود والأقمشة، ويعمل مروان معرباني وفق قوالب "كلاسيكية" ثابتة، موضحاً أن بإمكانه تنفيذ التصاميم التركية، "إلا أن ذلك سيرفع الكلفة على الزبون الفقير أصلاً بسبب الحاجة إلى تأمين خط إنتاج خاص بهذا التصميم".

من جهة أخرى، يسهم الحصول على مواد أولية رخيصة في إنتاج "حذاء شعبي من الجلد الصناعي" بكلفة تتراوح بين 45 ألف و  50ألف ليرة لبنانية، لافتاً إلى أنه سيتابع بث الحياة في هذه الحرفة، لأنه يعمل بها "منذ 43 سنة" من دون توقف، ولن يقبل في آخر حياته بالجلوس على كرسي أمام محله من دون عمل وإنتاج، لذلك يواصل عمله اليومي الدؤوب لصناعة "حذاء العيد المتين".

وينتمي زبائن معرباني إلى مختلف الفئات الاجتماعية، إذ يقصده العامة الذين يطلبون حذاء متيناً ومتواضعاً، فيما يطلب الغني والمتمكن مادياً إصلاح "حذاء جلدي فاخر بـ 300 ألف ليرة"، كما يشتري كثيرون الأحذية التي يصنعها معرباني من محال السوق معتقدين أنها أجنبية.

التصليح حاضر

وتنتشر إلى جانب صناعة الأحذية على حافتي سوق الكندرجية في طرابلس محال عدة لـ "تصليح الأحذية"، والطابور أمام وداخل هذه الأماكن شاهد على الوضع الاقتصادي المتردي، كما يُحضر بعض الشباب الأحذية الجديدة "الرخيصة الثمن" إلى هذه المحال من أجل تحصينها ضد العطب السريع.

وقال أحمد أبو خروب صاحب أحد محال تصليح الأحذية، إن "عدد الزبائن ازداد بصورة كبيرة وملحوظة"، ويعود السبب في ذلك إلى ارتفاع أسعار الأحذية حتى في محال البضاعة البالية، حيث يبلغ ثمن الحذاء الجيّد 150 ألف ليرة، أما في المحال الجديدة فيتراوح بين 300 و 700 ألف ليرة.

ويقارن أبو خروب الواقع الحاضر مع الماضي فيقول، "في السابق كان الناس يرمون الحذاء القديم أو الممزق، أما حالياً فيتم ترميمه مرات عدة".

لا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى تحصين الحقائب والشنط المدرسية، ولاحظ أبو خروب ذلك في بداية العام الدراسي، إذ حُرم الطفال من الحقائب الجديدة، واستعاض الأهل عنها بإصلاح القديمة.

وفي المحصلة، دخل لبنان "عصر الترقيع" على كل المستويات، واللبناني غير القادر عن شراء حذاء جديد لن يتأخر في إصلاح مقتنياته القديمة، لأن "السلع المستوردة غابت مع غياب الدولار من السوق".

المزيد من العالم العربي