Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أهالي البصرة يستوردون التمور بعد ان كانوا يصدرونها... لهذه الأسباب

"زراعة النخيل وصناعة التمور بدأتا بالتدهور مع بداية اكتشاف النفط في البصرة خلال الأربعينات والخمسينات"

نخيل على وشك الهلاك من العطش في أحد بساتين أبي الخصيب في البصرة (اندبندنت عربية)

قبل اكتشاف النفط، كانت تجارة التمور بمثابة عصب الاقتصاد المحلي في مدينة البصرة الواقعة جنوب العراق، وكانت نسبة كبيرة من سكانها تعمل في زراعة النخيل، ولغاية خمسينيات القرن الماضي كانت كميات كبيرة من التمور ذات الأصناف الممتازة تُصدر سنوياً إلى أوروبا وأميركا، ولم يكن أحد يتوقع أن البصرة سوف تضطر في يوم ما إلى استيراد التمور من دول مجاورة لتغطية استهلاكها المحلي، لكن هذا ما حصل بعد انهيار زراعة النخيل تحت تأثير الأزمات التي عصفت بالواقع الزراعي.

فصول من مأساة النخيل

نكبات كثيرة حلّت بقطاع زراعة النخيل في البصرة خلال القرون الماضية، وأفدحها كانت الفيضانات الربيعية الناجمة عن ارتفاع نسب المياه في شط العرب، ومنها فيضانا العامين 1946 و1896 اللذان تسببا بهلاك أكثر من ثلاثة ملايين نخلة، علماً أن قطاع زراعة النخيل كان يستعيد حيويته وعافيته بسرعة بعد كل فيضان، لكن هذه القدرة على المقاومة والتجدد تبددتا بمرور الزمن مع ظهور أزمات وتحديات أشد فتكاً بالنخيل.

ملوحة مياه شط العرب

تتركز بساتين النخيل في أقضية أبي الخصيب وشط العرب والفاو، وفي هذه المناطق دارت رحى بعض أعنف المعارك التي تخللت حرب الخليج الأولى (1980-1988)، والتي تمخضت عن هلاك مئات الآلاف من أشجار النخيل، وبعد انتهاء الحرب بأعوام قليلة نشأت أزمة السكن التي أدى تفاقمها بعد العام 2003 إلى تجريف المئات من بساتين النخيل وإنشاء أحياء سكنية في محلها، ثم تعرض هذا القطاع إلى هزة عنيفة بسبب ملوحة مياه شط العرب ابتداء من العام 2007، والمشكلة ناجمة عن تغلغل مياه الخليج الشديدة الملوحة في مجرى الشط الذي تروى من مياهه معظم البساتين.

 أما أحدث تهديد للنخيل فتجسده حشرة السوسة الحمراء التي تسمى (سرطان النخيل) لخطورتها وسرعة انتشارها وصعوبة مكافحتها، وكان العراق يخلو من هذه الآفة الزراعية، لكن خلال العام 2015 ظهرت بشكل مفاجئ في مزارع تقع في ناحية سفوان الحدودية المتاخمة للأراضي الكويتية، والمخاوف مستمرة لدى المزارعين من إمكان انتقالها إلى مناطق أخرى من البصرة.

التمور... إلى تدهور؟

وقال مدير قسم زراعة النخيل في مديرية زراعة البصرة عبد العظيم كاظم لـ "اندبندنت عربية"، إن "زراعة النخيل وصناعة التمور بدأتا بالتقلّص مع بداية اكتشاف النفط في البصرة خلال الأربعينيات والخمسينيات، فالحكومات المتعاقبة صبت اهتمامها على الصناعة النفطية لما تحققه من مكاسب مالية كبيرة، وأهملت الزراعة، مصدّرة النفط بدل التمور"، مبيناً أن "القطاع النفطي استقطب الكثير من أبناء الفلاحين للعمل في حقول ومنشآت نفطية، فتخلوا عن مهنة الآباء والأجداد، ثم فرضت وزارة النفط هيمنتها على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعيةـ واعتبرتها أراضي نفطية لا يجوز استغلالها زراعياً".

البرحي... أيقونة تمور البصرة

وأشار كاظم إلى أن "البصرة كانت تحوي 13 مليون نخلة خلال الخمسينيات، تراجعت إلى ستة ملايين خلال السبعينيات، وحالياً تضم المحافظة نحو مليونين و400 نخلة، وهي في تناقص مستمر، فأشجار النخيل القديمة التي تهلك أكثر عدداً من الفسائل الجديدة التي تزرع"، مضيفاً أن "البصرة لا تتميز فقط بكثرة النخيل، وإنما بتنوع أصنافه، حيث كانت تضم مئات الأصناف، ما تبقى منها 70 صنفاً، وهي جيدة نسبياً منها (الساير) و(البريم) و (الحلاوي) و(الخستاوي) و(الخضراوي)".

من بين مئات أصناف التمور يعد (البرحي) أطيبها مذاقاً وأغلاها ثمناً، ولحسن حظ البصريين أن هذا الصنف ظهر للمرة الأولى في مدينتهم. وعن كيفية اكتشافه يروي الخبير الزراعي د. عبد الجبار البكر في كتابه (نخلة التمر ماضيها وحاضرها)، أن "أول ظهور لصنف البرحي كان قبل مئة عام عند أسرة آل زيدان من بيوتات أبي الخصيب، حيث أجروا إعماراً وإصلاحاً لأرض اقتطعوها من تل بعد أن أزيح ترابه فصارت أرضاً براحاً، ومن المصادفة أن بذرة أو نواة من نوى التمر قد نبتت في تلك الأرض، ونمت بشكل جيد، وامتازت بنشاطها وحيويتها وجمال منظرها فاعتنوا بها حتى حان وقت إثمارها فأعطت ثمراً لم يسبق أن شاهدوا له مثيلاً في الجودة، ولذلك أطلقوا على النخلة وصنفها الجديد (برحي) لنموها في أرضٍ براح".

يؤكد ذلك بصيغة مختلفة قليلاً المؤرخ صالح العبود في كتابه (أبو الخصيب في ماضيها القريب)، إذ قال إن "نخلة البرحي لم تكن موجودة في المنطقة سابقاً، والدليل على ذلك عندما كانوا قديماً يذكرون أنواع التمور إذ لم يذكروا من ضمنها (البرحي)، ويقال إن الذين جاءوا بنخلة (البرحي) هم عائلة الزيدان التي تسكن في قرية باب طويل، حيث جلبوها من منطقة تقع مقابل الفاو، وهم لا يعرفون اسم هذا النوع، وغرسوه قرب بيوتهم في ساحة مستديرة يسمونها البراحة، ولما أثمر وجدوا له طعماً لذيذاً جداً"، ومنذ ذلك الحين صار (البرحي) أيقونة جودة التمور العراقية.

 استثمارات لإحياء النخيل

المحاولات الحكومية للحفاظ على ثروة البصرة من النخيل تفتقر إلى الجدية، ولا تؤطرها إستراتيجية واضحة المعالم، فالمختبر الحكومي الذي جرى إنشاؤه في العام 2013 لإكثار النخيل نسيجياً متوقف عن العمل منذ أشهر بسبب عدم تخصيص أموال لتجهيزه بمستلزماتٍ ضرورية، والقانون الذي شرّعه مجلس محافظة البصرة في العام 2014 لم يزل حبراً على ورق، والطائرات المروحية التي ترش مبيدات الآفات الزراعية من الجو لم تعد تحلق في سماء البصرة.

في ظل تذبذب الدعم الحكومي وتلكّئه، تحركت شركات من القطاع الخاص في غضون الأعوام الماضية باتجاه تنفيذ مشاريع استثمارية لزراعة النخيل وإنتاج التمور وتسويقها، وأكبر مشروع من هذا النوع يجري تنفيذه في منطقة صحراوية ضمن قضاء الزبير، وجرى زرع 1000 فسيلة من صنف (البرحي) كمرحلة أولى، والمشروع يتبناه رجل الأعمال الكويتي البارز عبد العزيز سعود البابطين.

وأكد المهندس الزراعي الاستشاري علاء البدران أن "في الوقت الذي تواصل زراعة النخيل تدهورها في أقضية أبي الخصيب وشط العرب والفاو، فإنها تحرز تقدماً واضحاً في أقضية القرنة والدير والمدينة الواقعة شمال المحافظة، لأن المياه قليلة الملوحة في هذه المناطق"، لكنه أوضح أن "أصناف النخيل الموجودة شمال البصرة أقل جودة من تلك الموجودة في جنوبها".

من التصدير إلى الاستيراد

عن أهمية زراعة النخيل وإنتاج التمور على مستوى الاقتصاد المحلي في الماضي القريب، لفت السياسي والصحافي سليمان فيضي الذي كان نائباً عن البصرة في مجلس "المبعوثان العثماني" في كتابه (البصرة العظمى) إلى أن "البصرة تضم ثلث نخيل العالم أجمع لغاية أواخر الأربعينيات، وكانت تنتج 130 ألف طن من التمور سنوياً، يصدّر منها حوالي 100 ألف طن، وتستهلك البقية في العراق"، بينما أشار قنصل روسيا القيصرية ألكسندر أداموف في كتابه (ولاية البصرة في ماضيها وحاضرها) الصادر في سانت بطرسبرغ في العام 1912 إلى أن "ثلث محاصيل التمور في البصرة كان ينقل بواسطة البواخر إلى أوروبا وأميركا، وثلثه الآخر ينقل على سفن شراعية إلى موانئ الهند والخليج العربي والبحر الأحمر".

أما خلال العصر العباسي فقد تساءل تاجر بغدادي فاحش الثراء لم يذق طعم الخسارة خلال تعاملاته التجارية يدعى ابن الجصاص الجوهري: كيف لي أن أخسر؟ فقالوا له: اشترِ تمراً بالكوفة وبِعه في البصرة، وفي هذه الرواية التي تناقلها المؤرخون تأكيد وفرة التمور في البصرة إلى الحد الذي جعل ثمنها زهيداً، لكن ابن الجصاص لو كان حياً في الحاضر لعزز من مكاسبه بهذه الصفقة، ففي غفلة من الزمن أخذت البصرة تستورد التمور بكميات كبيرة من دول مجاورة من أجل إشباع الاستهلاك المحلي.

مفارقة لم تكن في الحسبان أن تتحوّل المدينة من أكبر مصدر للتمور إلى مستورد لها، وكثيراً ما يتحدث البصريون عن هذه المفارقة للدلالة على تبدل الأحوال وتغير الأوضاع، لكنهم لم يفقدوا الأمل في إمكان استعانة مدينتهم مكانتها العالمية ودورها الريادي في زراعة النخيل وإنتاج التمور، ولو (بعد خراب البصرة).

المزيد من تحقيقات ومطولات