Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إيزابيل الليندي تنتفض روائيا ضد المجتمع البطريركي

"صورة عتيقة" تروي حكاية أورورا الممزقة بين أميركا والتشيلي

الروائية التشيلية إيزابيل ألليندي (دار الآداب)

بين موت أمّها بعد الولادة، وتخلّي أبيها عنها، ونشأتها في بيت جدّها لأمّها في الحي الصيني من مدينة سان فرانسيسكو الأميركية، من جهة، وبين تخلّيها عن زوجها بعد خيانته لها، وإقامتها مع العم فريدريك في بيت ريفي خارج مدينة سانتياغو التشيلية، واستقبالها جدّتها لأمّها بعد سبعة عشر عاماً من مغادرتها، من جهة ثانية، تمتد حكاية أورورا دل بايي، بطلة رواية "صورة عتيقة" للروائية التشيلية إيزبيل الليندي، الصادرة عن "دار الآداب" بترجمة صالح علماني. وهي تزخر بوقائع كثيرة، يشكّل بعضها نقاط تحوّل في مجرى حياتها. وتتمخّض عن امرأة يقع عليها الظلم، منذ إبصارها النور. ويكون عليها أن تشهد على قسوة الحياة وعدالتها، وأن تواجه قدرها وتسهم في صنعه. ونتعرّف، من خلال حكايتها والحكايات الأخرى التي تحفّ بها، إلى قدرة المرأة على الاختيار والقرار والتصرّف، في مجتمعات غارقة في ذكوريّاتها وثقافاتها البطريركية. على أنّ هذه الثيمة الروائية ليست جديدة على الليندي، فقد سبق أن تعرّفنا إليها في روايتيها: "ابنة الحظ"، و"بيت الأرواح".

تدور أحداث الرواية، خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن التاسع عشر، والعقد الأوّل من القرن العشرين. وتجري في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية وبعض أحيائها، ومدينة سانتياغو التشيلية والضواحي المحيطة بها، أي أنّها تغطي نصف قرن وثلاثة أجيال، على المستوى الزماني، وتنسحب إلى غير دولة على المستوى المكاني. وينخرط فيها مجموعة من الشخوص المتحدّرين من قوميات مختلفة. وتشكّل حرب الباسفيك بين التشيلي والبيرو، والحرب الأهلية التشيلية، الخلفية التاريخية لها، ما يجعلنا إزاء رواية كوسموبوليتية، إلى حدٍّ كبير.

مقاربة مختلفة

في روايتها، تتناول الليندي موقع المرأة في المجتمع البطريركي، جرياً على بعض رواياتها السابقة. غير أنّ مقاربة هذه الثيمة تختلف، هذه المرّة، عنها في سواها، فنتعرّف إلى مجموعة من النساء القويات، النازعات نحو الاستقلالية والتمرّد على المواضعات التقليدية. تقوم المرأة باتخاذ القرار، وإبداء الرأي، والمشاركة في التنفيذ، والاعتراض على الواقع القائم، والمطالبة بإحقاق الحق. ويكون على الرجل أن يطيع، وينفّذ، ويساعد، في عملية انقلاب جذري في الأدوار بين الإثنين. ويحدث ذلك، من خلال السلك السردي المحوري الذي ينتظم الأحداث، والأسلاك الأخرى المحيطة به، التي تقصر أو تطول، بحسب مقتضى الحال الروائي.

تُشكّل العلاقة الجدلية بين الحفيدة أورورا دل بايي التي تعهد إليها الكاتبة بعملية الروي، والجدة بنسختيها، للأم والأب، السلك المحوري الذي ينتظم الأحداث في الرواية. الجدة للأم أليزا سوميرز تشغل بداية الرواية ونهايتها، والجدّة للأب باولينا دل بايي تشغل ما بين البداية والنهاية، وتستأثر بمعظم السرد، وتشارك الراوية بطولة الرواية. وفي وقائع هذا السلك؛ أورورا هي ابنة غير شرعية لعلاقة عابرة بين ماتياس دل بايي، البوهيمي، الخامل، المتهتّك، ابن الأسرة الغنية التشيلية الأصل، المقيمة في سان فرانسيسكو، ولين سوميرز، الفتاة الجميلة الفاضلة، المولودة في أسرة متواضعة مقيمة في الحي الصيني من المدينة، لأب صيني الأصل وأُمّ بريطانية تشيلية الأصل، ما يعني وجود فجوة طبقية بين الأب والأم. وإزاء تنكّر الأب لأبوّته، ورفض الأسرة الغنية الاعتراف بفعلة الابن المتهتّك، ينبري الشاب الشهم سيفيرو دل بايي، قريب الأسرة الغنية، الذي أحبّ لين بعقد قرانه عليها، ومنح الأبوّة الشرعية للطفلة.

غير أنّ موت لين المفاجيء بنزيف حاد، يشكّل نقطة تحوّل في مجرى الأحداث، فيلتحق الأب الشرعي بحرب الباسفيك،  ويكون على الأسرة المتواضعة أن تهتم بالصغيرة، وتعتبرها هبة سماوية، ويتعلّق بها الجد تاو تشين الذي يمارس الطب الصيني، ويحظى بالاحترام في محيطه، حتى إذا ما قُتل جرّاء عمله في تحرير الطفلات الصينيات المستخدمات في تجارة الجنس، وأرادت الجدة إلزا سوميرز الوفاء بعهدها له ودفنه في الصين، تقوم بتسليم الطفلة في الخامسة من عمرها إلى باولينا دل بايي، جدّتها لأبيها، التي حاولت الحصول عليها سابقاً، ولم توفّق.

الأسرة الغنية

في كنف الأسرة الغنية، يكون على أورورا، ابنة الخامسة، أن تنشأ في ظلّ جدّة قوية، تصنع أسطورتها الخاصة، وتمتلك حاسة شم قوية لعقد الصفقات، وتراكم مع زوجها ثروة طائلة، وتحظى بالشهرة والنفوذ، وتمتلك حساً طبقياً عالياً. غير أنّ عدم تحقّق حلمها في إنجاب البنات، يجعلها ترى في حفيدتها ابنتها التي لم تلدها، فتغدق عليها أمومتها المفقودة. ومع الزمن، تشعر الحفيدة بتلك الأمومة، ويكون تفاعل بين الاثنتين، وعلاقة عضوية لا يفصم عراها الموت. وفي إطار هذه العلاقة، تقوم الجدة بالسهر على حفيدتها، وتأمين جميع مستلزماتها، والحرص على تزويدها بالتربية المفيدة والتعليم المناسب، وإعدادها للمستقبل. غير أن نزوع الحفيدة نحو التمرّد والعناد والاستقلالية، يُعدّل في مخطّطات الجدة، فتحيطها بجوّ دافىء يحرّرها من كوابيس الماضي، ويسهم في تعزيز صحّتها النفسية، وتحكي لها الحكايات، وتأتيها بالهدايا. وفي المقابل،، تروح أورورا تجمع خيوط حكايتها، وتطرح الأسئلة عن أهلها، ويكون على الجدّة أن تجيبها عن أسئلتها، وتمحو الجزء الصيني من تلك الحكاية، وتخفي عنها هويّة أبيها البيولوجي، ما جعل الحكاية ناقصة، واستدعى أن تنتظر أورورا، سنوات أخرى، حتى تستكمل خيوط الحكاية.

حين تقرّر الجدّة العودة إلى التشيلي لتهرم بين أقرانها، تبدأ مرحلة جديدة من الاهتمام بأورورا، فتدخلها إلى ثلاث مدارس خاصة في سانتياغو تباعاً، غير أنّ نزوعها إلى التمرد، يحول دون انتظامها فيها، فتأتي لها بالمعلمة ماتيلدي بينيدا ذات الأفكار المتحرّرة التي تأنس إليها، وتتعلّم منها الكثير. ويأتي تعرّفها إلى سيفيرو وزوجته نيفيا دل بايي، ومشاركتها في أعمال جدّتها الخيرية، لتعزيز مداركها، وتوسيع آفاقها. وتستفيد من سيفيرو، أبيها الشرعي، في جمع خيوط أخرى من حكايتها، حتّى إذا ما عاد أبوها البيولوجي ماتياس مريضاً من السفر، يعترف بأبوّته لها، ويزوّدها بخيوط أخرى. وإذ تتعرّف أورورا إلى دييغو دومينغث، ابن الأسرة إلإقطاعية التشيلية، خلال رحلة علاج لجدّتها في أوروبا، يطلب يدها، ويعقدان قرانهما بعد العودة إلى الوطن، وتنتقل للإقامة معه في الريف الجنوبي.

صدمة الزواج

غير أنّ خيبة أملها في الزواج، وجوعها إلى الحب، يجعلانها تتجوّل في الإقطاعية الكبيرة التي تملكها الأسرة على ظهر جواد، وتتعرّف إلى معاناة العمال والفلاحين، وتمارس هوايتها في التصوير، للتعويض عن الخيبة والحاجة إلى الحب، حتى إذا ما اكتشفت، ذات ليلة، خيانة زوجها لها مع زوجة أخيه التي تربطه بها علاقة حب، تعيش صدمة الخيانة، وتعثر على تفسير البرودة التي تعتري علاقتهما الزوجية، وتغتنم فرصة دنوّ أجل جدّتها في سانتياغو لتغادر الريف الجنوبي من دون عودة، وتشارك في مأتم الجدّة، وتقيم مع العم فريدريك وليامز، زوج الجدة، في بيت ريفي يشتريانه معاً. وفي هذه الأثناء، تعود جدّتها لأمّها من الصين، بعد سبعة عشر عاماً، لتروي لها ما تبقّى من خيوط الحكاية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من خلال هذا السلك السردي المحوري والأسلاك الأخرى المحيطة به، نتعرّف إلى موقع مميّز للمرأة في المجتمع البطريركي، يتمظهر في سلوكيات مجموعة من الشخوص النسائية في الرواية؛ فالراوية تنزع إلى الاستقلالية والتمرّد والعناد، وتتّخذ القرارات التي تراها مناسبة. والجدّة باولينا شخصية قيادية تترك تأثيرها في من حولها، وتتّسم بحس المغامرة، وتُقدم على المشاريع التجارية بثقة بالنفس، وتخفي ضعفها عن أقرب الناس إليها. والجدّة الأخرى إلزا تتّخذ قرار السفر في عنبر سفينة كي تلحق بحبيبها المهاجر، وتقترن بالطاهي الصيني على الرغم من الفوارق الدينية والقومية، وتفي بتعهّداتها لزوجها بدفنه في مسقط رأسه، ولأبيها بالتبنّي بالاهتمام بأخته في سنواتها الأخيرة، ولباولينا بعدم رؤية الحفيدة المشتركة خلال حياتها. ونيفيا دل بايي تختار حبيبها، وتؤمن بحتمية عودته لها، وتنقذه من الموت بعد إصابته في الحرب، وتتزوّج منه وتنجب الكثير من الأولاد، وتشارك في التظاهر والمطالبة بحقوق المرأة. والمعلّمة ماتيلدي بينيدا تعبّر عمّا تفكّر به، وتطبع المنشورات الثورية، وتقوم بتوزيعها بمعزل عن المخاطر الي تحيق بها. وهكذا، تقدّم الليندي امرأة حرّة، مختلفة عن المرأة النمطية الصاغرة في المجتمعات البطريركية، وتؤمن بقدرة المرأة على التحرّر والتحرير. ولعل ما يمنح دعواها أهميتها صدورها في مرحلة مبكّرة من تاريخ الحركة النسوية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة