Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خالد المعالي: صور الأرض الأولى لا تفارقني حيثما حللت

قدم عيون الأدب الألماني بالعربية شعراً ورواية واستشراقاً وحاز جائزة فردريش غوندولف الأكاديمية

الشاعر والناشر العراقي خالد المعالي (اندبندنت عربية)

في 8 أيار (مايو) المقبل يتسلم الشاعر والناشر العراقي خالد المعالي جائزة فريدريش غوندولف الألمانية والبالغة قيمتها 15 ألف يورو، والتي تمنحها الأكاديمية الألمانية للغة والشعر.

وجاء في بيان الجائزة بأن المعالي ساهم في نشر أكثر من 100 عنوان لكاتبات وكتاب يكتبون بالألمانية إلى اللغة العربية وترجم لكل من غوتفريد بن "قصائد مختارة" (1997)؛ وباول تسيلان "سمعت من يقول- أعمال شعرية ونثرية" (1999)؛ وهانس ماغنوس انتسنسبرغر "روبرت الطائر" قصائد مختارة – بالاشتراك مع فاضل العزاوي" (2003)؛ بينما نشر في "منشورات الجمل" التي أنشأها في مدينة كولونيا الألمانية في عام 1983، ترجمات للكثير من الكتاب الألمان، مثل غونتر غراس وحنة آرندت وكريستا فولف وبيتر هاندكه وفريدريش نيتشه وتيودور أدورنو وماكس هوركهايمر وفريدريش شيللر وآخرين. وأوضحت الأكاديمية في بيانها بأن المعالي "ليس فحسب ناشراً، بل أيضاً محرر ومترجم وشاعر يتوسط هذين العالمين" وتقصد بذلك العالمين الألماني والعربي.

النوستالجيا والحقيقة

غادر المعالي العراق لأسباب سياسية وهو في 23 من عمره. كانت لديه مجموعة شعرية واحدة عندما وصل إلى بيروت. وبعد ربع قرن زار مجدداً بلده العراق. هناك صور حملها معه، صارت مع مرور الزمن مسودات صور، لأنه وقع في فخ النوستالجيا. وعندما عاد بعد ربع قرن لاستظهار تلك الصور وقع في فخ الحقيقة. يقول المعالي: "حين تغادر بلادك مجبراً، ستبقى طيلة فترة غيابك يطحنك الحنين وتلاحقك الصور من تلك الأماكن والأزمان الأولى. الروائح والمشاهد التي لا يمكن أن تختفي. تبقى تعيش ممزقاً في عالمين، وتستعيد، قدر ما أمكنك، تفاصيل الماضي من خلال اللغة، الفنون، الأطعمة. ورويداً رويداً يتحول المكان الأول، كأي شيء جميل، ويصير مثل جنة معلقة تنتظرك. وتنسى بالطبع تلك القساوة وذلك النكران؛ فأنت تعيش على الصورة المختزلة التي تحملها في خيالك. إلى أن تعود بحثاً عنها، بأن العراق تحول إلى بلاد لجميع أبنائه. حق المواطنة للجميع. حين عدتُ وجدتُ نفسي مجرد خيال يطوف بين خرائب البيوت وصحراء البشر. ورويداً رويداً تهدّمت تلك الجنة المفترضة والمخزنة لربع قرن في خيالي. فأخذت، كلما عدت، أمضي أيامي في الصحراء، أو أزور المقابر. فالاحتكاك بالمدينة أو المؤسسات تحطم ما تبقى لدي من أوهام أعيش من خلالها".

بعد كل هذه السنوات منذ مغادرته العراق، ومجموعاته الشعرية، وبعد تأسيسه مجلتين أدبيتين "فراديس" و"عيون" اللتين صدرتا وتوقفتا، وعلاقاته الواسعة ومجايلته أصواتاً شعرية متفردة، كان علينا أن نسأله عن الذي بقي من الشعر الآن.

الوطن منفى

"حاولنا التعبير عن أنفسنا"، يقول المعالي. ثم يستطرد: "أصدرنا مجلات وأسسنا داراً أو دور نشر. كتبنا وترجمنا وخلقنا إطاراً لنا كأدباء وفنانين أحرار، على الرغم من الفقر المدقع وحصار نظام البعث حياتنا. عبّرنا عن أنفسنا وتجاوزنا العوائق. وهذا لم يكن ممكناً لولا تلك القصائد التي كنا نكتبها بصمت في مختلف بقاع الأرض".

يتحدث خالد عن نفسه وعن رفقائه الذين غادروا العراق مجبرين: "خلقنا ثقافة عربية وعالمية" يقول. ويوضح أنهم شعروا في لحظة ما بأن الوطن أو الأوطان التي هربوا منها مجبرين قد أضحت هي المنفى. لا ذلك المأوى الذي آواهم لسنوات هنا وهناك. "ففي الوقت الذي تتعرض بيوت الكتّاب والفنانين إلى النهب والتدمير في بلدانهم، استطعنا أن نقوم بترتيب أرشيف أولئك الكتّاب، ونشرنا وننشر أعمال من رحل، عن عالمنا، في الداخل والخارج".

يقول المعالي إنه في السنوات الأخيرة لم يعد يولي عملية نشر أعماله الشعرية وترجماته أهمية: "صرتُ أميل إلى تركها جانباً، كأني قد صرت أشعر باللاجدوى من نشر كتاب لا يقرأه أحد. ولا أخفيك أنني صرت أشعر بالقرف من الشعر الشائع اليوم، ومن كتابه وكاتباته". فالمعالي يراها مجرد خيالات مشهدية وأضغاث أحلام شعرية. "لا، ليس هذا الشعر الذي ننتظره"، يقول صاحب "خيال من قصب". ثم يُكمل ساخطاً: "لقد قرأت عشرات آلاف الصفحات وترجمت مئات منها إلى الألمانية. وكم كانت مهمتي عسيرة حين لم أجد قصيدة واحدة تستحق لشاعر نشر ألف صفحة ربما، وهو حاضر في هذه الجنازة ينعق كالغراب ليل نهار، وتراه أمامك في كل معرض كتاب، وكأنه قد شُحن مع كراتين الكتب التي يكنّ لها العداء".

الشعر تجربة فردية

تدل عناوين مجموعات خالد المعالي على الغياب والانعزال الشديد، أو إيقاع الحياة المتراوح بين البطء والسرعة. كما أن نصوصه عادة قصيرة وخافتة النبرة، مثل أنفاس قصيرة. وبعد سخطه على الشعر الذي ينشر اليوم، كان علينا أن نسأله عن معنى الشعر بالنسبة له. "الشعر هو نشاط فردي"، يقول المعالي. "كتبتُ فحسب عن معايشاتي وبالتأكيد لا يمكنني افتعال تجارب لم أعشها، أو أن أعلّق على أحداث لا تدخل في مجال اهتمامي. طفولتي ومراهقتي مرّتا في طرق العوز والجوع وأيضاً العزلة. رعي الحيوانات والعمل في الحقول أحياناً. ليس لدي ما أضاهي به الآخرين سوى الملابس الممزقة والمرقعة. أما الأحلام والأوهام فهي شيء خفي كنت أتشبث به. وهي التي بواسطتها ربما استطعت أن أقطع الطرق والحواجز في كل مكان، وأن أنصت لنفسي هامساً بتلك القصيدة. الشعر هو صلاة. همسُ الناعي الخارج من البلدان التي تجتاحها الكوارث وهو يسرد بايجاز ما رآه".

عايش المعالي حياة الشاعر العراقي سركون بولص وبخاصة سنواته الأخيرة، وعاش رحيله البطيء. كذلك كان الأمر مع المترجم حسين الموزاني وآخرين. يقول المعالي: "لقد جمعتنا الصدف الجبّارة وقسوة الحياة. سركون بولص سبقنا إلى معرفة البئر المرة وعرف الخسارة، فترك البلاد مشياً على القدمين. فيما الموزاني وأنا مجرد تلميذين لتلك المجموعة من مدينة كركوك بطريقة ما.  وعلى عكس رحيل سركون بولص الذي سبقته حالات مرض ومعاناة لسنوات، وكنت معه في برلين حينما رحل، وكنا حينها نرتب ديوانه الأخير "عظمة لكلب القبيلة"، كان رحيل الموزاني بشكل مفاجئ، كما حدث قبل رحيله بسنوات مع الرسام أحمد أمير في برلين، أو الكاتب حميد العقابي في ما بعد في الدنمارك، أو الكاتب اليهودي العراقي سمير نقاش عقب سكتة قلبية".

ويضيف: "كل رحيل ترك أثره الثقيل. كنت أسير وكأني أحمل الجنازات وحدي. وكنتُ معها أفقد جزءاً مني في كل مرة، حتى أضحت حياتي أكثر ضيقاً. كأن أصدقائي هم تلك المواطن التي اضطررت إلى تركها في الصغر، وها أنا أعيش التجربة ثانية في الكبر. لا أستطيع الافتراق عنهم وقد اشتغلت على نشر ما لم ينشر لسركون بولص، والآن أرتب أوراق حسين الموزاني، وأيضاً مراسلاتي مع سمير نقّاش، عسى أودع هذه الأوراق وغيرها في إحدى الجامعات الألمانية".

المكان الأول

يرى خالد المعالي بأن الشاعر ابن تجاربه جميعاً. لكن الفترة الأولى هي التي تؤسس لكل إمكانيات التفاعل والتقبل مع الشعريات أو الأماكن الأخرى. وعن أهم المحطات التي عاش فيها يقول: "ربما الألمانية هي الأساسية، حالها كالعراق".

سألنا المعالي إذا كان يقرأ التجارب الشعرية الجديدة من الشعر العراقي، وعن تميز أصوات معينة. فقال إنه يتابع بحكم العادة أغلب ما ينشر في البلدان العربية، وليس في العراق وحده. فهو يقرأ، بحكم سفره للمشاركة في البلدان العربية سنوياً، أغلب ما يُنشر من شعر أو نثر. "ليس بحكم الفضول، إنما بحكم أن جائزة سركون بولص للشعر وترجمته السنوية التي تمنحها منشورات الجمل تتطلب أن نقرأ ونتابع الأصوات الشعرية بشكل مستمر، من أجل اختيار اسماء المرشحين الذين تتغيّر قائمتهم سنوياً وتتجدد بفعل المتابعة المستمرة. في العراق ثمة أصوات حاضرة، لكن من المبكر الحكم على مدى اختلافها وفعاليتها".

هل استقرت أعماق خالد المعالي، أو لنقل ركدت او هدأت، بعد العيش في مناطق مختلفة؟ يقول: "ربما نعم بطريقة ما، بحكم العمر. لكنني مازلت في حل وترحال. الآن ليس ثمة ما يغري في أي مكان. في لبنان اختار دائماً العزلة في جبل صنين. ولا أشاهد لأيام إلا بعض الرعاة عن بعد. مرات أشاهد الأفلام. لكن تأمل الطبيعة هي الشيء المغري، وكذلك البقاء ساهراً حيث تتلامظ النجوم وتسقط الشهب في السماء الصافية. استبدلتُ الصحراء بالجبل بحكم الحاجة لا غير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خالد المعالي ترجم من الألمانية إلى العربية وكذلك العكس، وهذه الحالة قليلة الحدوث، إذ عادة ما تتم الترجمة إلى اللغة الأم. يرى المعالي بأن التبادل الثقافي هو أخذ وعطاء، وهو ما دفعه إلى ذلك: "كيف أبيّن للآخرين طبيعة القصيدة التي أكتبها؟ هكذا بدأت اللعبة. لعبة الأخذ والعطاء. مرة قصيدتي ومرة أخرى قصيدة غيري. وبالطبع كنت أشتغل بشكل مشترك مع أصدقاء ألمان، بعضهم يعرف العربية والآخر لا".

"حين وصلتُ إلى ألمانيا، يستطرد المعالي، كانوا قد نشروا مجموعة تضم مختارات شعرية عربية أنجزتها المستشرقة الراحلة آن ماري شيمل، في ألمانيا الغربية. أما في ألمانيا الشرقية فلم تنشر إلا بحكم القرابة الأيديولوجية مختارات من شعر محمد الفيتوري ومعين بسيسو. كان هذا عام 1980. عليك الآن أن تتصور التغيّرات في الصورة. وهذه الصورة ستتغيّر تماماً بعد الهجرات الجديدة".

هل الكتابة في العالم العربي تغري وتلفت فعلاً الناشر والقارئ الألمانيين؟ سألت المعالي، فأجاب: "بصدق؟ لا. أغلب الناشرين في ألمانيا ينتظرون الترجمة الإنجليزية أو الفرنسية أولاً. وحتى بعدها فالتجارب غير مشجعة حتى الآن".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة