Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

القوى السياسية تلعب مع اللبنانيين "من سيربح المليون؟"

يُطرح سؤال عن جدوى المنح في ظل انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار

أحد أحياء مدينة طرابلس اللبنانية (اندبندنت عربية)

صحيح أن المليون رقم مُغر، ولكنه أيضاً صورة عن حجم التضخم الاقتصادي، وضخامة الأعباء الملقاة على المواطن اللبناني. ويمكن اعتبار الأسبوع المنصرم في لبنان "أسبوع المليون" بامتياز، فبعدما انشغل المواطنون بورقة نقدية مزيفة من قيمة المليون ليرة لبنانية، جاء اقتراح أحد النواب بتقديم منحة استثنائية بقيمة مليون ليرة لعناصر المؤسسات العسكرية في لبنان بقيمة مليون ليرة لمدة ستة أشهر. وتبعه طرح وزير التربية في حكومة تصريف الأعمال طارق المجذوب تخصيص مليون ليرة دعماً لكل متعلم. وبين هذا وذاك، بدأ سباق "من سيربح المليون؟" لقطف ما تبقى من دولارات في احتياط المصرف المركزي اللبناني.

لم يصل اقتراح النائب علي حسن خليل بمنحة المليون للعسكر إلى خواتيمه، إلا أنه فتح شهية عناصر القطاع العام للمطالبة بتصحيح الأجور ورفعها. فمن ناحية، أعلنت رابطة موظفي الإدارة العامة الإضراب الشامل بعدما "أصبحت كرامة الموظف في الحضيض، ولم يعد راتبه يكفيه لمتطلبات المعيشة بحدها الأدنى". فيما هددت رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي في لبنان بالإضراب المفتوح إذا لم تُقر سلفة غلاء المعيشة لأساتذتها.

بين هذا وذاك،  يُطرح سؤال عن جدوى هذه الاقتراحات في ظل فشل السلطة في كبح ارتفاع انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، بفعل استمرار طبع العملة الوطنية بشكل كبير.

خطوات مرتجلة

منذ عقود يشكل التخبط عنواناً لكل ما يتعلق بأمور المالية العامة والسياسة الاقتصادية للدولة، حسب الدكتورة سابين الكك، التي تؤكد أنه "منذ سنوات لم يُصدق قطع الحساب عدا عن غياب إقرار الموازنة لفترة طويلة، ويبدو أننا عدنا إلى مبدأ الصرف على القاعدة الاثني عشرية".

وتعلق الكك على اقتراحات المنح والمساعدات من هنا وهناك، بأنه في ظل غياب حسابات المالية العامة، كل هذه الطروحات تحمل في عمقها حالة من المخالفات الدستورية المتراكمة مع وضعية الفساد المستفحل.

وتعلق الكك على طرح النائب خليل و"منحة العسكريين"، وتضعه في خانة "المخالفة الجديدة"، وذلك بصرف النظر عن المشروعية الاجتماعية لتصحيح الأجور بعد تآكلها بفعل الأزمة النقدية. وتحذر من عدم توافر موارد واضحة، إذ كان الاقتراح يقضي بإعطاء إجازة مسبقة لوزارة المالية وبصفة العجلة لتأمين الموارد الكافية. ويؤدي هذا الطرح من الناحية العملية، وفي ظل الظروف الراهنة، إلى "مزيد من الانزلاق في دوامة طبع العملة الوطنية خارج الشروط القانونية المحددة بموجب المادة 69 من قانون النقد والتسليف، أي من دون تغطية باحتياطات نقدية أجنبية، وواقعياً مزيد من الإفراط في حجم التضخم".

وتصف الكك توجهات السلطة السياسية لمواجهة الأزمة بأنها "تدور في فلك اللعبة التقليدية" و"لعبة الدفاع عن النفس" التي تمارسها بإتقان الطبقة الحاكمة لحماية مصالحها عبر تقديم جرعات السم إلى المواطن بأدواتهم الخبيثة المنكهة بطعم المساعدات الإنسانية".

وتضع الكك هذه الطروح ضمن "ثقافة زبائنية قبلية مسيطرة على نهج الطبقة السياسية في لبنان"، مؤكدةً أن هذا النهج "دفع لبنان إلى إهمال التوجه إلى الإنتاج أو مواكبة الحداثة الاقتصادية الرقمية". وتقترح التركيز على القطاع التربوي لأنه المهم للغاية، ليطور الشباب اللبناني ويحضره للنجاح في بناء نموذج إنتاج عصري، نظراً إلى ضيق الأفق الاقتصادي مع تدهور العملة الوطنية، ولكن، بدل إقرار برامج تدريب للشباب اللبناني بآفاق مدروسة ومنسقة قادرة على تهيئة هذا القطاع الحيوي للمرحلة المقبلة. وتخلص الكك إلى أن "السلطة تمعن في إغراق العائلات اللبنانية في حلقة مفرغة من برامج الاستدانة الغذائية والبطاقات التموينية ومراكمة الأعداد في دائرة الناس الأكثر فقراً".

لعبة الأرقام المشوهة

اعتاد اللبناني على تفاوت كبير "بين حساب البيدر وحساب الحقل". وقد ظهر ذلك بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب في يوليو (تموز) 2017، التي أُقرت عشية الانتخابات النيابية الماضية، إذ كانت الأعباء أضعاف الأرقام المقدرة. ففي وقت كانت تقديرات كلفة السلسلة تتراوح بين 1200 مليار و1600 مليار ليرة، كان العبء مضاعفاً.

يعتقد أمين صالح، مسؤول المحاسبة العمومية في وزارة المالية سابقاً، أن اقتراحات الزيادات والمنح الاستثنائية، لا يمكنها أن تسلك من دون أن تتصف بالشمولية للقطاعات العامة والخاصة. ويصف صالح اقتراح النائب خليل بـ"لحس المبرد"، لأنه سيزيد التضخم ويرفع الأسعار، ويزيد الطلب على السلع ويرتفع مؤشر الغلاء. ويؤدي ذلك إلى تآكل هذه الزيادة المقترحة، وإلى ارتفاع سعر صرف العملات الأجنبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وينتقد صالح سياسة تغطية نفقات الدولة من خلال "سياسة طبع العملة" التي تتبعها الدول التي تتعثر في دفع ديونها، ويؤدي ذلك إلى التضخم. ويعتقد صالح أن "سعر الصرف هو سياسة معتمدة من المصرف المركزي والطبقة السياسية". ولأننا "أمام تضخم مقصود من السلطة السياسية والنقدية الحاكمة في البلد بهدف خفض الدين العام الدفتري، لأن احتساب الدين العام على سعر صرف 1500 ليرة يعني أن الدين العام هو 95 مليار دولار، بينما ينخفض حجم الدين إلى 14 مليار دولار عند سعر صرف 10 آلاف ليرة". لذلك نحن أمام محاولة لخفض الدين العام من خلال ضريبة التضخم التي سيدفعها المواطنون من دون استثناء، خصوصاً الطبقات المتوسطة والفقيرة. وهناك خسائر تجاوزت 170 مليار دولار يريد النظام الحاكم طمسها، لأن "من وضع يده على المال العام وودائع المواطنين في البنوك عليه تحمل الخسائر".

ويؤكد صالح أن "أركان السلطة السياسية يدعمون سياسات المصرف المركزي في التضخم لأنه يخدم مصالحهم".

ويلفت صالح إلى أن أي وزير للمالية قادر على معرفة كلفة أي اقتراح، لأن جميع الأجور تدفع من جداول هذه الوزارة، بالتالي فإن عملية حسابية بسيطة تُظهر عبء أي خطوة مالية مقترحة، ولكن السلطة تُعلن أحياناً أرقاماً مخفضة لأعباء بعض الاقتراحات التي يمكن وصفها بـ"الرشى الانتخابية" على غرار ما جرى سابقاً في سلسلة الرتب والرواتب، وحالياً في منحة العسكر.

ويطالب صالح بإجراء عملية حسابية بسيطة من خلال ضرب 320 ألف عنصر بمليون ليرة، على ستة أشهر لمعرفة الكلفة الحقيقية المضاعفة وليست المعلنة.

من ناحية أخرى، يؤكد صالح أن "سلسلة الرتب والرواتب ضغطت على مالية الدولة، ولكن ما أدى إلى انهيار البلد وإفلاسه هو مسألة فوائد الدين العام". لذلك، يستبعد نجاح أي خطوة في غياب الإصلاح لأن "مزاريب الهدر ما زالت قائمة، وأي مساعدة دولية ستبقى محدودة، ولن تتمكن من انتشال البلاد".

مقاطعة الحلول المؤقتة

لم تلاق دعوات منح "المليون" ترحيباً لدى كثير من الكتل النيابية، وقاطعت كتلة القوات اللبنانية جلسة مجلس النواب، الجمعة 12 مارس (آذار)، التي شهدت إقرار الاتفاقية مع البنك الدولي في شأن مساعدة العائلات الأكثر فقراً وعددها 161257 عائلة، بمبلغ 247 مليون دولار.

ويؤكد النائب وهبة قاطيشا موقف تكتل "الجمهورية القوية" بأن "الجيش يهمنا كما يهمنا اللبنانيون كافة، ولكن البلد مريض وينازع، ولن ينفع إعطاء حبة مسكّن لعضو من أعضائه". ويدعو قاطيشا إلى النظر إلى المشكلة من الزاوية الكبرى لأنه "لا بد من حلول جذرية لوقع الانهيار"، بدءاً بحكومة من دون سياسيين لمنح البلد فرصة للتنفس، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وصولاً إلى انفتاح لبنان على العالم العربي والغربي الذي يمكن تمويل إعادة النهوض الاقتصادي، وليس "اتباع أسلوب الشحادة". ويجزم قاطيشا "لن يساعدنا أحد إن لم نساعد أنفسنا على الخروج من الحفرة".

في المحصلة، تستمر الشعبوية هي المسيطرة في السياسة اللبنانية، إذ يرتجل رجال السياسة الاقتراحات بعيداً من آثارها الاقتصادية والمالية على المواطنين. فما يمكن أن يتوهمه المواطن زيادة رقمية في المداخيل، هو بالفعل خطوة نحو خسارته القدرة الشرائية بفعل عملية التضخم.

المزيد من اقتصاد