Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين "السيد الرئيس" و"رجال الذرة" أستورياس يخترع الواقعية السحرية

الأساطير والكتابات المقدسة لمجابهة المستغلين وناهبي ثروات الشعوب

ميغيل آنخل أستورياس (غيتي)

في نهاية الأمر لا شك أن الغواتيمالي ميغيل آنخل أستورياس هو الذي يمكن أن يقال عنه إنه الكاتب الذي "اخترع" أدب أميركا اللاتينية بتوجهه نحو "الواقعية السحرية"، وكان من أوائل الكتاب الذين كرسوا إبداعهم- الغني في فنيته على أي حال- من أجل إعادة الاعتبار لأساطير القارة وأنماط حياتها وتاريخ سكانها الأصليين المنسي. من هنا اعتبر فوزه بجائزة نوبل في 1967 انتصاراً كبيراً للقارة، كما اعتبرت وفاته في عام 1974 خسارة كبيرة حتى لو كانت تلك المرحلة قد شهدت ازدهار كتابات أميركية لاتينية بعضها يفوق في أهميته كتابات أستورياس.

رائد في قارة غنية

كان أستورياس، واحداً من أوائل الكتّاب الذين كشفوا للعالم أجمع عن ثراء آداب أميركا الجنوبية والوسطى، وصراعاتها وإمكاناتها التجديدية على الصعد كافة. والحال أن أستورياس حين نال جائزة نوبل الأدبية في 1967 لم يكن هو نفسه يعرف، على أي حال، أن نيله تلك الجائزة سيكون نقطة الانطلاق لتيار وفورة واهتمام سيكون من عناوينها غابريال غارسيا ماركيز واليخو كاربانتييه وبابلو نيرودا ثم كارلوس فوينتس وخوان رولفو وأوغستو روا باستوس وغيرهم. صحيح أن العالم كان قبل ذلك يعرف بعض الأسماء، لا سيما اسمي نيرودا والبرازيلي خورخي آمادو، غير أن تلك الأسماء كانت لا تزال معبرة عن ذاتها من دون أن تنطلق شهرتها والاهتمام بها لتشمل القارة اللاتينية بأسرها. مع أستورياس اختلفت الأمور لأن الرجل، في كتابته كـما في تقلبات حياته، اعتبر من فوره رمزاً لأميركا اللاتينية كلها واعتبر أدبه نقطة انطلاق لإبداع القارة بأسرها.

علاقة راسخة منذ البداية

ولم يكن هذا من قبيل الصدفة بالطبع. أي أن علاقة أستورياس بتاريخ القارة اللاتينية لم يكن أمراً عارضاً تم اكتشافه مع قراءة نص روائي مناسب. بل على العكس، كانت هذه العلاقة قائمة منذ البداية، وكانت علاقة عضوية في حياة أستورياس وذهنيته. ولئن انتظر العالم حتى عام 1992، تاريخ الاحتفال بالمئوية الخامسة لـ"اكتشاف أميركا" حتى يهتم بعض الشيء بمصير سكانها الأصليين، فإن هذا الاهتمام كان الجزء الأساسي من نشاط أستورياس، والقاسم المشترك بين رواياته. والطريف في الأمر أن أستورياس لم يكتشف حقيقة القارة "الهندية" إلا في لندن حين زارها وكان في الرابعة والعشرين من عمره. إذ هناك، في 1923 وخلال زيارة كان يقوم بها للمتحف البريطاني اكتشف نتاجات إبداع حضارة "المايا". وكان اندهاشه بهذا الاكتشاف هو الذي قاده بعد ذلك إلى باريس حيث درس مع الأستاذ جورج رينو كتاب "بوبول فوه"، كتاب قدامى المايا المقدس. وهو الكتاب نفسه الذي قام بترجمته إلى الإسبانية للمرة الأولى محدثاً به صدمة في طول أميركا اللاتينية وعرضها. وليبني هو انطلاقاً منه كتاباً تالياً هو "أساطير من غواتيمالا" الذي حقق له شهرة ما.

من أدب الديكتاتوريين إلى الواقعية السحرية

صحيح أن كتاب "أساطير من غواتيمالا" قد حقق لأستورياس، بعض الشهرة، غير أن الشهرة الكبيرة لن تأتيه إلا مع نشر روايته الكبيرة الأولى "السيد الرئيس" (1946)، التي تصف الجو الذي يخلقه في البلد حكم ديكتاتور لا نراه في الكتاب إلا لماماً. لكن ظله مسيطر وحاضر في كل مكان. والحال أن هذه الرواية كانت هي التي افتتحت سلسلة الروايات المتحدثة عن حكام ديكتاتوريين، وكانت من أروع وأقسى ما عرف به أدب أميركا اللاتينية بدءاً من "أنا الأعلى" إلى "خريف البطريرك" وما بعدها. وإذا كان أستورياس قد افتتح بهذه الرواية، سلسلة جديدة من الروايات الديكتاتورية، فإنه هو أيضاً الذي افتتح بروايته الكبرى "رجال الذرة" (1949) سلسلة الروايات التي تحاول أن تعيد الاعتبار لنمط الحياة الذي كان الهنود الحمر يعيشونه، بالتناقض مع نمط الحياة الذي فرض عليهم من الخارج، عن طريق الغزاة البيض، ثم عن طريق الشركات الاحتكارية.

تهجين بين العقل واللاعقل

ومن المؤكد أن رواية "رجال الذرة" تعتبر نموذجية في وصفها هذا التناقض، حيث ترسم لنا كيف أن الهنود يزرعون الذرة لكي تشكل غذاءهم، بينما يزرع البيض والخلاسيون الذرة لمجرد أن يبيعوا منتوجها إلى الشركات الاحتكارية. ولكن سيكون من الظام الاكتفاء بوصف هذه الرواية انطلاقاً من نضاليّتها. فهي بعد كل شيء تنتمي إلى حداثة القرن العشرين بشكل مدهش. ومن هنا لم يكن غريباً أن يقول عنها ماريو بارغاس يوسا إنها أشد روايات أستورياس غموضاً فهي التي "تحيّر" القارئ الديكارتي العقلاني لأن الفوضى التي تهيمن عليها مستقاة مباشرة من العقليات البدائية التي تعكسها "أساطير غواتيمالا" مبرزة بصورة مستمرة نوعاً من التهجين بين العقل واللاعقل، التاريخ والأسطورة، المنطق والحنون واليقظة والحلم، أي كل تلك العناصر التي تتشكل منها الواقعية السحرية في أقوى تجلياتها. فعن أي شيء تتحدث هذه الرواية "التأسيسية"؟ عن كل شيء بالتأكيد.

تحولات الهوية

وعلى الأقل عن كل شيء يتعلق بتاريخ أميركا اللاتينية وحكاية الهيمنة التي تعرض لها أبناؤها الأصليون. ولكن للوصول إلى فهم ما لهذه الرواية المكثفة والمعقدة يستحسن بالقارئ أن يكون قد اطلع أولاً على كتاب المايا المقدس وقرأ "أساطير غواتيمالا" تماماً كما فعل أستورياس قبل كتابة هذا النص الذي هو رواية بعد كل شيء. ولكن رواية من نوع شديد الخصوصية. فالنص يتألف من ستة أقسام سيبدو للوهلة الأولى أنه لا رابط بينها باستثناء عودة شخصيات قسم ما إلى قسم آخر بعد غياب بل بعد الموت، حتى وإن كانت تبدّل من هويتها. لكن الأقسام ستبدو في النهاية مترابطة متضافرة لمن يتمكن من التوغل في أساليب هنود المنطقة في الحكي. الحكي الروائي المرتبط بالشعائر الدينية. بالأساطير. بحكايات السمر الشعبي. بالمساعي المتلاحقة منذ مئات السنين للإفلات من مخالب المستغلين... فهذا كله يترابط حتى وإن بدا أن أحداث النصف الأول من الأقسام، لا يؤدي بالضرورة إلى ما سوف يحدث لاحقاً. ففي البداية لدينا الزعيم المحلي غاسبار هوم الذي يثور ضد استغلال التجار البيض للذرة التي تعني بالنسبة إلى السكان الأصليين شيئاً آخر غير بضاعة تجمع لتباع. ولكن ثورته تخفق ويقتل الجنود عائلته ثم يتمكنون منه فإذا به يتحول إلى كينونة أخرى تقود الشعب من وراء القبر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

النساء يختفين والشياطين تظهر

وفي الأقسام التالية قد يكون غاسبار اختفى تماماً لكن السحرة كانوا قد أعلنوا زوال العرق الذي افترى على السكان الأصليين. وبالتالي بعد ما استعانت الأقسام الأولى بكتاب بوبول فوه، وأحياناً باستعارات حرفية، ها نحن هنا في الأقسام الأخيرة نجدنا أمام جملة من أساطير وحكايات شعبية غواتيمالية متداخلة وكأنها أدب سوريالي حقيقي. وهذا كله يتحلق هنا من حول توماس ماشوان الساعي للعثور على امرأته! ولسوف يكون علينا أن نمعن في القراءة بصبر حتى ندرك العلاقة بين الثائر على الاستغلال، غاسبار، والباحث عن امرأته توماس.... لكننا في النهاية سندهش إزاء توماس الذي يختفي تماماً بعد أن يلتقي الشيطان ومن ثم امرأته... ليحل محله كائن جديد يتحول إلى كلب بري بعد أن تختفي امرأته بدورها وهكذا... في نص يكشف عمق ارتبط أستورياس بماضي تلك المنطقة.

بداوة محورها الصحافة واللغة

غير أن أستورياس لن يحصر اهتمامه بالماضي فقـط، بل سيوسّع دائرته حتى تشمل الحاضر، لنراه مناضلاً ضد الديكتاتورية وضد حماتها من شركات ومؤسسات أميركا الشمـالية. ونضـاله هذا هو الذي اضطره للهرب من غواتيمالا التي كان قد عاد إليها من أوروبا في 1933. كان هروبه الأول في عام 1945 بعد أن وصل إلى السلطة، بمساعدة شركات أميركا الشمالية الاحتكارية، الديكتاتور أوبيكو. وهو توجه عند ذلك إلى المكسيك غير أن لجوءه لم يطل، إذ ما إن أطل عام 1947 حتى وجدناه مستشاراً لسفارة بلاده في الأرجنتين. ولكن في 1954، بعد سقوط حكومة آرينز التقدمية، عاد ليهرب مرة أخرى حيث نزعت عنه جنسيته. فراح يتنقل بين الأرجنتين وإيطاليا واليونان، فيما راحت أعماله تترجم في الوقت الذي راح هو فيه يعتاش من العمل في الصحافة. ومن أعمال أستورياس الشهيرة الأخرى ثلاثية "الإعصار" (1950) و"البابا الأخضر" (1954) و"عيون المدفونين" (1960)، وهي روايات تكاد تكون متكاملة، تصف نضال الفلاحين ضد الشركات الاحتكارية الكبرى.

المزيد من ثقافة