Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يوجين يونسكو فاجعة الإنسان في مسرح ساخر وثرثار

19 ألف عرض متتالٍ لـ"المغنية الصلعاء" باكورة العروض العابثة

يوجين يونسكو (1912 – 1994) (غيتي)

كان الترابط بين اسميهما محكماً، ولا يزال كذلك حتى اليوم، على الرغم من مرور ما يقرب من ثلثي قرن من ظهورهما على التوالي في الحياة المسرحية العالمية حاملين معهما ما سيسمى لاحقاً "مسرح العبث"، أو "اللامعقول". خلال تلك العقود أضيف إليهما كثيرون، وتبدل مرافقوهما في مسيرة مسرحية اعتبرت حيناً الصورة الأكثر صدقية للوضع الإنساني خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وحيناً بشكل أكثر تخصصاً "المسرح النقيض لمسرح بريخت". كتب كل منهما، منذ بداياته بالفرنسية مع أن أولهما من رومانيا، والثاني من إيرلندا، ويملكان في لغتهما الأم كفاءة مدهشة. هما اثنان غالباً ما كانا يصبحان ثلاثة، مع إضافة الروسي الأصل آرثر آداموف إليهما كاتباً بدوره بالفرنسية. ظهروا معاً، لكن ثمة من يعود بمسرحهما "العابث" إلى بدايات القرن العشرين، إذ يرى أن الفرنسي ألفريد غاري بمسرحيته المدهشة "أوبو ملكا" كان الإرهاص الأول بظهوره، لكن الميل يبقى غالباً إلى النظر إليهما معاً: يوجين يونسكو وصامويل بيكيت، رفيقين رغماً عنهما، ولكنهما رفيقان يتناقضان في كل شيء، ولا سيما في السمة الأساسية التي تطبع لغة المسرح، اللغة نفسها لديهما. لغة الحكي. فبقدر ما كان بيكيت صموتاً متأملاً، كان يونسكو ثرثاراً استفزازياً، كما أنه بقدر ما كان الاثنان يعبران عن "فاجعة الإنسان المعاصر"، كان يونسكو يعبر عنها بحس ساخر يستخدم اللغة ليتحول أحياناً إلى هزل مدهش وفاحش، في حين كان بيكيت يعبر بسخرية يطغى عليها طابع فلسفي تأملي يعتمد كوميديا الموقف بشكل عام.

البداية المتواصلة

ولكن كيف وأين بدأ ذلك كله؟ المسرح الذي بقدر ما ظلل بريخت النصف الأول من القرن العشرين بمسرحه، أتى هذا المسرح الذي نتحدث عنه ليظلل النصف الثاني من القرن نفسه، تحديداً في ربيع عام 1950 يوم بدأ العرض الأول لمسرحية قدمت نفسها بخجل في باريس، وقد غامر مقدموها بأن تنطوي مع النسيان ما إن تستنفد المئات المعتادة من رواد المسرح الأقل شعبية، والأكثر نخبوية، ولكن معجزة ما قد يكون من الصعب فهم سرها، حدثت حين حققت العروض الأولى نجاحاً معتدلاً أدى نقل العرض بعد أقل من سنتين من مسرح "نوكتامبول" إلى مسرح "لا هوشيت". كان النقل في العام 1952 بإخراج من نيقولا باتاي ليتواصل على نفس الخشبة من دون انقطاع محققاً رقماً قياسياً عالمياً وتاريخياً: قدمت المسرحية على الخشبة نفسها قرابة تسع عشرة ألف مرة متتالية، حيث شاهدها في آخر إحصاء جرى عام 2019 أكثر من مليوني متفرج بنفس الإخراج، وعلى نفس الكراسي، وتقريباً بممثلين بالكاد يتغيرون. ومن المؤكد أن قراءنا الأكثر نباهة عرفوا عما نتحدث: عن "المغنية الصلعاء" ليوجين يونسكو.

المزاح الذي خلق تياراً

حين كتب يونسكو هذه المسرحية العابثة ظهرت وكأنها أقرب إلى المزاح. ولم يكن يتوخى ابتكار تيار مسرحي، ولم يكن يقصد التصدي لبريخت. فبريخت كان آنذاك سيد المسرح دون منازع. ففي عام 1948 حين راح قلمه يتحرك ليكتب سطوراً يسخر فيها من نفسه ومن اللغة كان يوجين يونسكو في السادسة والثلاثين من عمره، وكانت حكايته تنحصر في أنه كان قد شاء أن يتلقى دروساً في اللغة الإنجليزية ليضيف تلك اللغة إلى جعبته اللغوية، هو الروماني الأصل والذي يتقن الفرنسية كواحد من أبنائها. يومها تبدى تعلم الإنجليزية له من السخف والبلادة بشكل جعله، ليس فقط ينصرف عن تعلمها، بل ينطلق من ذلك الموقف، أيضاً، ليخترع أسلوباً جديداً في مسرح القرن العشرين، إذ من تلك اللحظات الغامضة والمربكة التي راح يتلقى فيها العبارات والجمل الإنجليزية ليحفظها، ولدت مسرحيته "المغنية الصلعاء" التي أسست، لما سمي عد ذلك "مسرح العبث".

في السرير نفسه

تدور المسرحية المؤلفة من 11 مشهداً من حول السيد والسيدة سميث اللذين يمضيان وقتهما وهما لا يفعلان أكثر من الثرثرة المعتادة في أوساط طبقتهما الوسطى حول مصاعب الحياة اليومية وكليشيهات تبادل الحديث عن الطقس والعيش في بيئة يصران على أن كل فرد فيها من حولهما، سواء أكان قريباً أو صديقاً أو مجرد مار مرور الكرام يسمى بوبي واتسون، ولكن يحدث ذات لحظة أن يدخل إلى المكان ثنائي آخر، هما السيد والسيدة مارتن. في البداية، يتحدث الثنائيان إلى بعضهما البعض كأغراب، ولكن بالتدريج يتبين لهم أنهم جميعاً من مانشستر وصلوا إلى لندن في الوقت نفسه ويقيمون الآن معاً في البيت ذاته وينامون في نفس السرير، وكل منهم أبوان وأمان لطفل واحد. وخلال تبادل عبارات جوفاء تدق الساعة بقوة بين الحين والآخر، ثم يقرع جرس الباب فيفتحون ليجدوا أن لا أحد عند الباب. بعد حين يدخل رئيس الإطفائيين معلناً أنه هنا ليطفئ حرائق اندلعت في البلد، ولكن أين الحريق، بل أين المغنية الصلعاء؟ لا جواب. الإطفائي مع إعلانه أنه مستعجل لأن الحرائق تتكاثر يتوقف ليروي حكايات لا معنى لها. وحين يغادر ببطء معلناً أنه على عجلة من أمره، يتابع آل سميث وآل مارتن تبادلهما العابث لجمل الحوار المبتذلة، ثم ذات لحظة، وفي حين يدورون في الغرفة يجلس السيد والسيدة مارتن على كرسيي السيد والسيدة سميث ليبدآ فيما بينهما نفس العبارات التي كان الثنائي الأول قد افتتح بها المسرحية فيما يقفل الستار!

الحقيقة أن أموراً مشابهة تماماً "تدور" في أبرز مسرحيات يوجين يونسكو - التي كتبها على ضوء النجاح المتواضع ثم المدهش الذي حققته تلك المسرحية الأولى - ومن أبرزها بالطبع "الدرس" و"الكراسي"، اللتان كتبهما وقدمتا في العامين التاليين، وحتى قبل أن يظهر المصطلح الذي جمع بين مسرح يونيسكو وبيكيت وآداموف تباعاً.

الثرثرة في كل مكان

يوجين يونسكو، الذي ولد في رومانيا في 1912، وتوفي في فرنسا عام 1994، كان الأكثر طرافة وفوضوية بين كتاب المسرح في القرن العشرين كله، وهو يرى على أي حال أنه، بفوضويته العابثة واستهانته بكل شيء، عرف كيف يساير عصراً بدا كل ما فيه مجنوناً وغير ذي معنى، ما جعله يعتبر مسرحه "خير معبر عما آل إليه حال رجل القرن العشرين". وفي هذا الإطار لا يفوت يونسكو أن يلفت النظر إلى أنه إذا كانت الثرثرة التي لا طائل تحتها تشكل العمود الفقري لبعض أهم مسرحياته، فإن نظرة إلى ما تقدمه لنا تلفزات هذه الأيام تكفي لتضعنا حقاً في قلب الثرثرة. والثرثرة التي يعنيها يونسكو هنا، هي اللغة التي تشكل عماد خطاب البشر، حيث يتحدث كل واحد كأنه يتحدث بمفرده ويتحول كل حوار (ديالوغ) إلى نوع من المناجاة (مونولوغ) المتوازية. ويقول يونسكو: "إنني اكتشفت حقيقة مبادلاتنا اللغوية فيما كنت أتابع درس اللغة الإنجليزية، حيث بدا لي من الواضح أن ما من جملة وضعت لكي تلتقي حقاً مع جملة أخرى".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الجانب الفوضوي للفاجعة

من صمت بيكيت إلى "ثرثرة" يونسكو ثمة مسافة طويلة، لكنها اختفت في ذلك الزمن الخارج من عبثية الحرب العالمية الثانية مع "جمهور كان مستعداً لاستقبال من يحدثه عن فجائعية العالم أكثر مما كان مستعداً لاستقبال من يحدثه عن عبثية العالم المضحكة"، حسب تعبير أحد الباحثين. ومع هذا سرعان ما بدأ يونسكو يحقق النجاح، بعد أن بدأ ينكشف الجانب الفجائعي الكامن خلف فوضوية مسرحه وثرثرته. ويونسكو لم يكف عن الكتابة منذ ذلك الحين على الأقل، خالطاً في مسرحه بين ثرثرة اللغة والدلالة الواهية للأشياء: البيض، مثلاً، في مسرحيتين له على الأقل، الكراسي في مسرحية "الكراسي"، أقداح القهوة في "ضحايا الواجب" والأثاث بشكل عام في "المستأجر الجديد"، والفطر في "أميدي، أو كيف تتخلص منها". كل هذه المسرحيات كتبت خلال النصف الأول من الخمسينيات، وأسست للمكانة الأساسية التي احتلها يونسكو في تاريخ المسرح الحديث، ولكن اعتباراً من نهاية سنوات الخمسين راح مسرح يونسكو يتخذ أبعاداً أقل فكاهة في أعمال مثل "القتلة" و"الخرتيت" اللتين كتبتا في الأصل على شكل قصص قصيرة.

قرصنة عربية

مهما يكن لا بد من القول إن يونسكو بفضل تلك الأعمال، وبفضل ما عاد وكتبه بعد ذلك، ثم خاصة بفضل تصريحاته الصحافية وحضوره الأساسي والفاعل في الحياة الثقافية الفرنسية، تمكن من أن يصبح خلال النصف الثاني من القرن العشرين واحداً من كبار رجال المسرح، وهو حين رحل، رحل عن أكثر من ثلاثين مسرحية لا تكف مسارح العالم عن تقديمها وإعادة تقديمها. ولقد كان من حظه أن عاش حتى شهد بأم عينيه سقوط نظام الحكم الروماني الذي حاربه طويلاً، على الرغم من أن السلطات الرومانية في عهد تشاوشسكو اهتمت به، ودعته غير مرة لزيارة بلده، حيث كان معظم أعماله يقدم دون انقطاع. ونذكر هنا أن معظم مسرحيات يونسكو مترجم إلى العربية، وقدم مرات عديدة على كثير من خشبات العواصم العربية. وفي مرات كثيرة في نصوص "مقرصنة" لم يكلف قراصنتها أنفسهم عبء الإشارة إلى اسم مؤلفها الحقيقي!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة