Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأزمة اللبنانية تُفاقم عبء التربية على الأهل

يولد الحرمان حالة من الاضطراب لدى بعض الأطفال

"الصراع من أجل البقاء" هو الوصف الأدق لما يعيشه اللبناني الآن. ففي الأيام القليلة الماضية، استأثر مشهدان بمخيلة اللبناني، تقاتل في سوبرماركت على كيس حليب، وتسابق في مركز تسوق آخر على "غالون زيت مدعوم".

هذه المشاهد التي وثقتها الكاميرا وحفلت بها مواقع التواصل الاجتماعي، تُعد عينة من مشاهد كثيرة من معاناة أكثر مأساوية، لم يألَف اللبناني عيشها. يقود هذا الخط الدرامي في مسلسل "يوميات العائلة اللبنانية"، إلى استشراف انتقال اللبناني من مرحلة البحبوحة والراحة، إلى المجاهدة لتأمين الحد الأدنى من الحياة الكريمة له ولأسرته، وصولاً إلى الاستغناء عن بعض السلع والمفاضلة بين المأكل، والملبس، والمسكن.

أطفال الحارة الحزينة

تقودنا رحلة داخل "الحارة البرانية" في طرابلس إلى جملة من المشاهد الواقعية لصعوبات يعيشها اللبناني وأطفاله. هناك التقينا بهيثم (28 عاماً)، وهو أب لطفلين. فقد الشاب عمله منذ نحو السنة، بعدما كان عاملاً في أحد الأفران، وانتقل إلى فئة العاطلين من العمل. في تلك المرحلة، بدأت معاناته مع الحليب والحفاضات والمتطلبات الأساسية للأطفال. في الأسابيع القليلة الماضية، غابت عن الأسواق المواد الأساسية لهذه الفئة، ويؤكد أنه يقوم بجولة طويلة على الصيدليات ليعثر على حليب الأطفال، إلا أنه لا يجده. و"لولا والدته كانت أسرته ماتت من الجوع، فهي تسعى لأحفادها بحاجياتهم الأساسية".

حظي هيثم ببعض المساعدات لتأمين الحليب والحفاظات، إلا أن المتبرع استشعر بعبء كبير. يصحبنا هيثم في زيارة إلى منزله، لنجد طفلين ينامان على الأرض، وغرفاً خالية من الأثاث. ويلفت إلى أنه "كلما احتاج إلى شراء كيس حليب أو حفاظات، يبيع جزءاً من فراش منزله". وبعد أن بلغ مرحلة المنزل الفارغ، بت في مرحلة العجز. ويشير إلى أنه لم يعد بإمكانه تأمين بعض الفيتامينات، والحليب المخصص للأطفال، وأن زوجته تستعيض أحياناً عن الحليب بماء الأرز.

واجهة السوبر ماركت الملونة

بالانتقال إلى داخل السوبرماركت، يدخل الأهالي بمفاوضات مكثفة مع الأطفال لإقناعهم بشراء سلع محددة، واستبدال بعض المأكولات والسكاكر بمنتجات أخرى. ويعود السبب في ذلك إلى أن "الأطعمة التي اقترنت بذاكرة الأطفال" جميعها مستورد، وأصبحت أسعارها مرتفعة بالنسبة إلى المواطن اللبناني. ولذلك، فإن ملء السلة بقليل منها بات مضنياً للجيب لأن ثمن السلعة الواحدة يُساوي الأجر اليومي لبعض العمال المياومين. ويقول أحمد، وهو أب لفتاة، "كنا في السابق نعطي الحرية للطفل من أجل شراء الشوكولا والعصائر والسكاكر والمكسرات. أما الآن، فنضطر إلى حصر السلة على سلع محددة".

وتشهد المتاجر في الأحياء الشعبية على بعض المشاهدات، من خلال بحث الأطفال عن منتجات ملائمة لما لديهم". تقول أم زكي "يأتي الأطفال إلى المحل، يخبرونني أنهم لا يملكون سوى 500 أو ألف ليرة"، وتسأل "ماذا أفعل؟". لذلك تبادر بالقول لهم، "خذوه الباقي صدقة لوجهه تعالى".

يولد هذا الحرمان حالة من الاضطراب لدى بعض الأطفال، بسبب اضطرارهم إلى التوقف عن شراء "ما لذّ وطاب" بصورة مفاجئة، وبفترة زمنية سريعة. ويؤدي هذا الأمر إلى صدامات بين رغبة الأطفال والقدرة المادية للأهل. وجاءت هذه الصعوبات في وقت بات الأطفال حبيسي المنازل بسبب جائحة كورونا، والتعلم عن بُعد.

التأقلم مع الواقع المستجد

لسنوات طويلة، عاش اللبناني حياة البذخ والرفاهية. ومنذ عام 2019، تراجعت القدرة الشرائية للأسرة اللبنانية، وفرضت عوائق أساسية في العملية التربوية. ذلك أن التربية تقوم على التوازن بين نمو الجسد وتهذيب النفس، وتشكل "حياة التقشف" تحدياً لقدرة الإنسان على تجاوز الصعوبات.

تدعو الدكتورة عايدة عبود، الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي، أرباب الأسر إلى "التأقلم مع الواقع المستجد"، لأن تقبُّل الأهل هذه الظروف هو المدخل لقبول الأطفال التغيرات ورفع القدرة على تحمل الصدمات والأزمات، لأن "فاقد الشيء لا يُعطيه". ويجب على الأهل بث المشاعر الإيجابية لدى الأطفال، ووضع قائمة للأولويات التي يجب تحقيقها.

تصف عبود الإنسان بـ"المحارب من أجل النجاة"، لذلك يجب نقل هذه القدرات الانفعالية إلى أطفاله لتمرير هذا الظرف. ولا بد من التركيز على أهمية العاطفة والوجود إلى جانب الطفل في جوهر العلاقة، وألا يغلب عليها الطابع المادي.

وتدعو عبود الأهل إلى البحث عن بدائل لتأمين مداخيل إضافية لتيسير حياة العائلة. ويفترض من الأهل الابتعاد عن التفكير السلبي المستمر، واللعب مع الأطفال لمساعدتهم في قضاء أوقات ممتعة.

إشراك الطفل في القرارات

تؤكد عبود على ضرورة إخبار الأطفال بطريقة مبسطة عن الأزمة والصعوبات المستجدة. وفي هذا السياق يمكن اللجوء إلى "وضع خطط ملموسة"، وتوزيع المهمات بين أركان الأسرة، كأن "نضع مجموعة نشاطات بديلة يمكن القيام بها". يدرك خبراء التربية أن "هناك سلعاً يرغب فيها الأطفال باستمرار، وباتت تشكل عبئاً على الأهل". لذلك، تدعو عبود الأهل إلى "طبخ الشوكولا برفقة الأطفال"، والاشتراك في اختراع مأكولات لذيذة، لأنه "لم يعُد بمقدرة العائلة شراؤها كما في السابق".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تعتقد عبود أن المصارحة بطرق مبسطة من أهم خطوات التربية، وكذلك "التربية على تحمل الحرمان، وأنه لا يمكننا تحقيق ما نرغب فيه بصورة سريعة ومباشرة". يفتح هذا الأمر الباب أمام تعليم الأطفال "سلوكيات الإدارة" من خلال تجميع النقود لفترة من الزمن لشراء الأغراض، بالإضافة إلى الحصول على بديل لعدم الشعور بالصدمة. في المقابل، يُمنع على الأهل إشعار الأطفال بالذنب، أو استخدام مصطلحات من قبيل "سنموت من الجوع". ويجب عدم إشعار الطفل بالذنب أو الخوف.

وتقترح عبود اللجوء إلى الوجود الفعلي للأهل واللعب مع الطفل، وقضاء أوقات "ذات نوعية عالية" Quality of time، لأنه لا يكفي أخذ الأطفال إلى أماكن ترفيه غالية، نترك أبناءنا يلعبون فيما يقضي الأهل أوقاتهم على الهاتف، مثلاً. ويمكن مرافقة الأطفال إلى الطبيعة واستغلال فصل الربيع في المشي واللعب في الأماكن الخضراء وشاطئ البحر.

التربية باللعب

يشكو الأهل من تأثيرات سلبية للتعليم عن بُعد على أطفالهم، فمن جهة عائلات فقيرة لا تمتلك أكثر من جهاز كومبيوتر واحد لأبنائها، وتشكو من أنه "لا يمكن إصلاح الجهاز، أو تأمين اشتراك في الكهرباء، والإنترنت القوي، ويبقى الأهم تأمين السلع الضرورية". من ناحية ثانية، لاحظت عائلات مواقف سلبية رافضة لدى الأطفال من العملية التربوية. فيما سعى البعض إلى تأمين "أستاذ خصوصي" للأطفال من أجل المواد العلمية. ما يزيد الأعباء على الأهل، فيما نشهد نوعاً جديداً من التسرب المدرسي من خلال "افتتاح الطلاب الصفوف دون حضور وتفاعل".

بين هذا وذاك، يبرز البُعد الاجتماعي المفقود. تؤكد الدكتورة رشا تدمري، وهي اختصاصية في علم النفس التربوي، أن التعليم الصفي يقوم على التفاعل الاجتماعي ودينامية من العلاقات الاجتماعية بين المتعلمين والمعلمين، وبين التلامذة أنفسهم. وهذا الأمر بات مفقوداً عبر التعلم عن بعد بسبب غياب التواصل المباشر، وانعدام لغة الجسد في توصيل مشاعرنا، وتأثير ضعف الشبكة وتقطع الإنترنت في التواصل الشفاف. وتقول تدمري إن "التعليم عن بُعد قتل تنمية المهارات الاجتماعية، والتواصل الاجتماعي، وكذلك حد من الذكاء العاطفي لدى الأفراد الذي يخدمنا في فهم انفاعلات الآخرين والسيطرة على انفعالاتنا من خلال الاحتكاك المباشر بالآخرين".

تعتقد تدمري أن صورة التعلم اهتزت مع التعلم عن بعد، لأنه يرتكز بصورة أساسية على التعلم الذاتي والبحث عن المعلومة. وهو أمر يُخالف التوجه التربوي العام القائم في لبنان على "التلقين" لأن الأساتذة والمتعلمين غير مدرَبين على الطرائق النشطة. وتلفت إلى أن التواصل عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي والواتساب، أفقد المدرس الخصوصية و"الهالة"، وانتقلنا إلى العلاقة الخالية من الحدود والقوانين، لذلك يلجأ التلميذ إلى الاتصال بمدرسه في أي وقت، وبآليات غير منضبطة، وهو أمر ينعكس على سلوكيات التلامذة.

وتشير تدمري إلى أن التعليم الحضوري كان يفتح باب مراعاة الفروق الفردية بين التلامذة، وتقييم اكتسابهم المعلومات، أما في الصيغة الحالية فتطغى عليها قاعدة "إعطاء الكمية وإنهاء المنهاج"، ويسهم ذلك في نفور الأطفال من التعليم، وتتضرر صورته لديهم.

لا تدعي تدمري وجود حل مثالي للمشكلة القائمة في ظل انتشار كورونا، لذلك تُدافع عن أهمية "التعليم المُدمَج" لأن الوجود الحضوري يؤمن التفاعل الاجتماعي، ولكن إلى ذلك الحين تدعو إلى اعتماد الأساتذة الأسلوب التفاعلي في التعليم، واللجوء إلى الألعاب الصفية، إلا أن ذلك يتطلب تدريب المعلمين على بعض المهارات والطرائق التفاعلية.

المزيد من تقارير