يندرج التصعيد الأخير بين إيران والولايات المتحدة وإسرائيل في سياق شد الحبال "النووي". وحملت الأيام الأخيرة منحى جديداً في المواجهة الأميركية – الإيرانية، آذن بها إعلان المتحدث باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس، بعد ساعات على إطلاق صواريخ باتجاه السفارة الأميركية في بغداد، تحميل طهران "المسؤولية عن أفعال وكلائها الذين يهاجمون الأميركيين" في العراق.
وثمة "وجه قديم" لهذا المنحى. فواشنطن سبق لها أن حملت طهران مسؤولية الهجومين على القاعدة العسكرية في كركوك وحصار السفارة الأميركية واقتحامها في نهاية 2019. فاغتالت مطلع يناير (كانون الثاني) العام الماضي قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني. ولكن الرد الأميركي قبل أيام على الضربة الأخيرة احتذى حذو الضربات الإسرائيلية واستهدف بنك أهداف للحرس الثوري الإيراني في سوريا وحسب. ولم يرق إلى اغتيال أو الرد في عقر دار إيران. ويرجح أن هذا ما كانت طهران ترجوه حين حرصت على تجنب سقوط أميركيين في الهجوم الذي شنه أتباعها "أولياء الدم" على أربيل والقاعدة الأميركية هناك. وكأن "أولياء الدم" كان شاغلهم تجنب سفك دماء أميركية.
وربكا تكون الضربة الأخيرة في خليج عمان التي استهدفت ناقلة اسرائيلية هي "الوجه الجديد" للمواجهة الإيرانية - الأميركية رغم أن إيران نفت ضلوعها بالهجوم. وإذا ما ثبت تورطها مستقبلا في الهجوم فإن طهران هذه المرة لم "تكلف" أتباعها، سواء كانوا من الحوثيين أو "عصائب أهل الحق" أو "أولياء الدم".
فنقلت المواجهة من مستوى إلى آخر في جوارها القريب وهددت الملاحة الدولية. واحتفت صحيفة "كيهان" المقربة من المرشد علي خامنئي، بالضربة في مقالة بعنوان "الجرائم في سوريا والعراق والرد في اليمن وبحر عمان".
وكتبت إن الهجوم " يثبت حقيقة أن زمن اضرب واهرب قد ولى"، ولكنها تفادت أو "هربت" من تبنيه الصريح ولم تنسبه إلى الحرس الثوري بل إلى "إحدى القوى التابعة لمحور المقاومة"، ثم بدأ النفي الإيراني الرسمي للعملية.
والضربات الإسرائيلية في 28 فبراير (شباط) التي استهدفت مواقع الحرس الثوري و"حزب الله" في محيط الست زينب تظهر أنها لا تزال تسير على نهجها السابق على العدوان في خليج عمان، وأنها لا تنوي توسيع رقعة المواجهة وتفضل أن تكون سوريا ساحة المبارزة بين البلدين.
بايدن والنووي الإيراني
مع وصول جو بايدن إلى سدة الحكم أقدمت طهران في يناير على أكبر خرق لاتفاق 2015 النووي، فأعلنت أنها بدأت تخصيب اليورانيوم إلى عتبة نقاء 20 في المئة. وفي العاشر من فبراير أعلنت وكالة الطاقة الذرية الدولية أن إيران بدأت تخصيب اليورانيوم المعدني. وفي 23 فبراير، قالت طهران إنها ترفض السماح لمفتشي الوكالة الدولية زيارة منشآتها النووية أو تسليمهم تسجيلات شاملة عما يدور هناك.
ولا إجماع بين الخبراء العسكريين والدبلوماسيين السابقين على معنى هذا الاستئناف. فثمة من يقول إن إيران ليست أقرب اليوم إلى حيازة القنبلة النووية مما كانت عليه عشية إبرام اتفاق فيينا في 2015. وصاحب الملاحظة هذه هم أمثال فرانسوا نيكولو، وهو دبلوماسي فرنسي سابق شغل منصب سفير بلاده في طهران وهو خبير في الشؤون الإيرانية.
وفي مقالة له في موقع "بولفار إكستيريور" قال، إن مخزون إيران من اليورانيوم الضعيف التخصيب كان قبيل الاتفاق ضعفَ مخزونها اليوم. وكان في جعبتها كذلك مخزون من اليورانيوم المخصب إلى درجة 20 في المئة أكبر مما تملك اليوم بخمس مرات. والمخزون السابق العالي التخصيب (20 في المئة)، تقلص إلى النصف كعربون حسن نية حين مباشرة المفاوضات في 2013.
وبعد سريان الاتفاق في 2015، تقلص مخزونها من اليورانيوم: فالضعيف التخصيب منه تراجع حجمه من 7 آلاف كيلوغرام إلى 300 كيلوغرام. أما المخزون العالي التخصيب (20 في المئة) فتخلصت منه طهران نزولاً على الاتفاق.
ونيكولو هو أقرب إلى مسؤولين غربيين يرون أن عامين أو ثلاثة أعوام تفصل طهران عن حيازة سلاح نووي. ولكن ثمة من يقرع ناقوس الخطر، ومنهم ديفيد أولبرايت، الخبير في الشؤون النووية ومؤسس ورئيس معهد العلوم والأمن الدولي في واشنطن. ويرى أمثاله أن طهران قادرة على إجراء تجربة نووية خلال تسعة أشهر فحسب، وعلى إنتاج سلاح نووي في عام واحد، وتزويد الصواريخ الباليستية برؤوس نووية خلال عامين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
البرنامج النووي والطبيعة المزدوجة
والحق يقال إن الغموض يلف المدى الذي بلغته طهران في برنامجها النووي العسكري، وإلى أي حد حازت القدرة على إنتاج رأس نووي؟ وتُذكّر "وول ستريت جورنال" بأن الغارة الإسرائيلية على الأرشيف النووي الإيراني في 2018 أظهرت أنها تحتفظ بخبرات كبيرة من برنامج التسلح النووي السابق.
وشمل اتفاق فيينا 2015 الجانب المدني من البرنامج النووي الإيراني، ولكن ماذا عن الشق العسكري منه وعلى أي وجه أثر فيه اغتيال محسن فخري زادة، والد البرنامج النووي العسكري الإيراني؟ وربما يعود تباين الآراء حول برنامج إيران النووي إلى طابعه المزدوج. فالدبلوماسيون الغربيون والخبراء في الشؤون النووية، يتكلمون عن الجانب المدني منه، بينما يتكلم الخبراء العسكريون عن الجانب العسكري منه.
خلاصة القول إن ما يشهده الشرق الأوسط والخليج من اضطرابات وضربات وثيق الصلة بالملف النووي الإيراني. ففي البازار الإيراني تُرفع الأسعار إلى أقصى حد ويُتوسل بالأسلحة كلها، على أمل رفع العقوبات الاقتصادية والمالية عن البلاد والفوز باتفاق نووي يصب في مصلحة الحرس الثوري ولكن الرياح لا تجري على ما تشتهي طهران. فاليوم، صار التفاوض على الملف النووي الإيراني أكثر ارتباطاً من جهة باستقرار دول الجوار والنفوذ الإيراني الإقليمي "الهجين"، وركنه التوسل بوكلاء محليين خدمةً لمصالحها، وبمدها هذه القوى بصواريخ باليستية توجهها إلى الخصوم، من جهة أخرى. لذا، يُرجح أن العودة إلى الاتفاق النووي المبرم في فيينا متعذرة ومستبعدة والتفاوض لن يقيد ذراعها النووية وحسب بل سيقيد نفوذها الإقليمي وسلاحها الباليستي.