Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فهمي جدعان في رحلة إلى أرجاء الماضي والعالم والفلسفة

"طائر التم" سيرة ذاتية وفكرية بآمالها وخيباتها

المفكر فهمي جدعان يكتب سيرته (صفحة الكاتب على فيسبوك)

في عالم شديد التناقضات - الثنائيات، تقلبت حياة المفكر فهمي جدعان، فتقلب على نيرانها. فهو الذي ولد عام 1941، عاش حياة متراوحة بين الحب والبغض، الانفتاح والانطواء، التفاؤل والتشاؤم، اليأس والأمل، وبين اليومي التفصيلي والتنظير التجريدي والجوهري، وغير ذلك مما سيتبين في تقديمنا لسيرته الفردية والجمعية كما تبدو في كتابه الجديد، حيث فلسطين وقرية "عين الغزال" تظلان الثابت الوحيد والمركزي في كتابة سيرته.

وفيما يندر أن يكتب مفكر وأكاديمي سيرة بهذا العمق والتفصيل والصدق مع الذات، فإن أول ما يلفت قارئ كتاب "طائر التم، حكايات جَنَى الخُطا والأيام" (الأهلية- عمان)، هو تمييز مؤلفه ابتداءً، بين من يشتغل بالفكر والفلسفة و"الدرس الأكاديمي"، من جانب، وبين من يعمل في السرد والأدب والفنون عموماً، من جانب مختلف. ففي باب "برولوغوس" (قبل الكلام)، نجد أستاذ الفلسفة الإسلامية والباحث فيها لعقود من السنوات، راغباً في دخول عوالم السرد و"الحكي"، عوالم الدهشة والخيال والتأملات الحياتية، وصولاً إلى "التحولات" الفكرية التي عاينها أو اعتنقها، بل إنه في نهاية الكتاب يهجس بشهوة كتابة "القصيدة التي تنتسب إلى عالم الفن لا عالم الفكر".

سيرة "روائية" تبدأ بالمرحلة الراهنة، ثم يعود المؤلف بعدها إلى المراحل الأولى في حياته. يشدنا السارد (الراوي/ البطل) إلى قصص وعلاقات ومشاهدات وتفاصيل ذات مغزى يثير شهوة التفكير والتأمل، فضلاً عن لغة عربية أدبية راقية يفتقر إليها كثير من أدبائنا وكتابنا العرب، تشبيهاتٍ وحواراتٍ بسيطةً وعميقة، وبوحاً عن محطات هذه المسيرة. وابتداء نقف على العنوان "طائر التم..." الذي ربما أراد (جدعان) التشبه به واستعارته لرحلته ورحلة شعبه، فهو، كما يتمثله "المتخيل الميثي" طائر "ملَكي، نبيل، سامٍ، ذو إهاب وجيه، وخطو مهيب، واثقٌ معجب بنفْسه، دائم الوفاء لمَن يحب، تتملكه "الرغبة" بلا هوادة وتحمله على الهجرة إلى أماكن عدة وبعيدة، يقرنه بودلير في "أزهار الشر" بالوضع الوجودي الإنساني المسكون بالذكرى والفقد والنفي والألم".  

السيرة هنا هي مقاربة للوضع الإنساني لمؤلفها، وما يخص وجوده ووجود الذين اختلطت حياته بحيواتهم، وهو يرى أن "السرد الروائي أو الحكائي أبلغ من الخطاب الفلسفي في الكشف عن سريرة الكينونة الإنسانية، وعن أغوار الوجود وحِيَله وتشخصاته في الحياة الفردية والجمعية". وفي الأثناء يتساءل عن أسباب الرغبة في التحرر من "الدرس الأكاديمي" والتحول إلى الإبداع والفن. ويعرض بعض الأسباب؛ منها مثلاً السعي وراء ما هو وجودي ووجداني تفتقر الفلسفة إليه... ومنها التمرد على استبداد مملكة العقل "الموضوعي"، والتحرر من "إسار الجهاز المعرفي العقلي، التقني، "اللوجستي"، البراغماتي، إلى أفق "التجربة الذاتية" والحياة"!

أسفار وحكايات

نحن أمام سجلين؛ خاص لصاحب السيرة، وعام "للذات الجمعية الفلسطينية، التي تشبه طيور التم في هجراتها الطويلة المُضنية، وصمتها على الألم، وقدرتها العظيمة على التحليق"، كما يقول الشاعر زهير أبو شايب (الغلاف الأخير للكتاب). في الخاص، يكتب جدعان بعمق وجرأة عن "متلازمة الخوف" التي ترسخت لديه مع روايات الجان والشياطين في طفولته، وعن اختفاء سنوات الطفولة الأولى، ورفض التحليل والعلاج النفسيين، وعما يدعوه "الأنا الهش" والمواجهة. وفي العام يستحضر مقاطع ومشاهد من كتابات عن قريته، عين الغزال، وعن فلسطين عموماً وعشائرها وصراعاتها وحماقاتها، قبيل النكبة، ودور الإنجليز في إضرام الصراع بين "حسيني ونشاشيبي"، وأثر ذلك على القضية، من جانب، وعن دور القرية، وخصوصاً قرى المثلث الصغير، في المقاوَمة من جانب مقابل.

بعد رصد تفاصيل من "النكبة" نفسها، ويسميها "عام الخروج"، وما سبقها وما تلاها، يرتحل الراوي، مع أهله الذين يتوزعون بين الأردن وسورية، فيكون نصيبه الوصول إلى دمشق، إلى خيام مدرسة "الأليانس" المجاورة لحي اليهود، وهنا سوف يجد المشردون الفلسطينيون استقبالاً ورعاية كريمة من أهل الشاغور. لكن الخيمة تظل هي الخيمة، فهي "عالم ذو معنى وذو حدود". والمخيم ذو وجهين ووجهتين، وبوابتين متناقضتين "إحداهما تنفتح على المستقبل والوجود، والثانية تنفتح على العوَز والحرمان والانحراف والجريمة والتفاهة والحياة التي هي مَوات".

كانت دمشق محطة أساسية في حياة جدعان، ما بين مخيمها ومدارسها وثقافتها وأسواقها ودور السينما فيها، ثم قسم الفلسفة في جامعتها، في زمن كانت دمشق منفتحة على حياة ثقافية وسياسية، على الأقل حتى مرحلة الوحدة ما بين مصر وسورية، والانفصال/ الانقلاب "البعثي" الكارثي كما يراه جدعان. ولا يترك شاردة ولا واردة في حياة دمشق في تلك المرحلة، وما قبلها، إلا رصدها وسجل شيئاً من معالمها وملامحها، مازجاً بين الخاص والعام (الدمشقي).

وهو يتحدث عن جامعة دمشق، وقسم الفلسفة فيها والأساتذة الأفذاذ الذين درس عليهم (عادل العوا، بديع الكسم وغيرهما)، قبل أن يحوز فرصة ثم منحة لدراسة الفلسفة الإسلامية في جامعة السوربون في باريس، ثم العمل في تدريس هذه الفلسفة التي كتب عنها الكثير من مؤلفاته. وفيما هو يكتب عن باريس "الأنوار" وأعلامها، يظل يعود إلى المخيم مقدماً تفاصيل جديدة في كل مرة، حتى أنه يبلغ عام 2018 الذي شهد التدمير المرعب لمخيمَي اليرموك وفلسطين.

بيروت - مرسيليا - باريس

"الاغتراب" في بيروت وفندقها ونسائها "المتبرجات"، كان بداية وصول جدعان إليها في طريقه إلى مرسيليا. وفي بيروت سوف تتلبسه كل "معاني الحرج والعيب والحرام". أما الباخرة التي وعده مكتب السفر بأنها ستكون فخمة فلم تكن إلا لنقل البضائع لا البشر، وبدل يومين استمرت الرحلة فيها سبعة أيام، بدأها بالتجول في الباخرة ببيجامة مزركشة اعتقد أنها أثارت إعجاب الجميع، بل عجَبهم كما سيتبين له.

وفي باريس "الفلسفة"، والسعي الحثيث لنيل "دكتوراه الدولة"، لا يبتعد جدعان عن عالم المسرح و"السينماتيك" والموسيقى والغناء، لكن التركيز يظل على من التقى بهم من أساتذة الفلسفة والفلاسفة، في الجامعة كما في مقاهي الوجوديين في ما يطلق عليه اسم "الضفة اليسرى". مكتشفاً للأمكنة الباريسية والفرنسية عموماً، متابعاً تاريخها بتفاصيل شائقة يقدمها في سرد بارع للتعريف بها وبمن مر فيها من المشاهير.

الخاص والعام

ما بين مسيرته لإنجاز شهادته العليا، في السوربون - أرقى جامعات العالم، فيما هو "ابن المخيم"، وأحد "الناجين" من المجازر، وبين حادث سير (بسيارته) كاد يودي بحياته، وبين انزلاق في الحمام استمر فيه إحدى عشرة ساعة، وحيداً وبلا قدرة على الحركة... وبين تنقلاته أستاذاً في عدد من الجامعات الأردنية والعربية (عُمان، الكويت، وقطر)، ومؤامرات تعرض لها من زملاء و"أصدقاء"، وأوسمة وجوائز نالها... أقول بين هذه الأمور وغيرها، ثمة الكثير مما يمكن عرضه للتعريف بشخصية جدعان و"كينونته" من خلال هذه السيرة.

ولعل عنوان السفر الخامس "طائر التم يفقد الرضا" يحيل على قدر من "التحولات" في حياة جدعان وفكره، فهو "الآن"، وأكثر مما كان سابقاً، يشعر "بالنفور من المذاهب السياسية الدينية والأيديولوجيات الراديكالية المتحجرة"، ويحاول "الانتقال من معالجة الماضي إلى رؤية المستقبل، والانشغال بالقضايا الراهنة". فكتبه الثلاثة الأخيرة، ما بين العامين 2014 حتى 2019، تعبر عن تحول جوهري في فكره، اذ أصبح "أكثر استغراقاً وانخراطاً في قضايا التنوير والتحرر والإصلاح الراديكالي، والجنوح في الفلسفة السياسية إلى نزعة في الليبرالية الاجتماعية مضادة ومعادية جذرياً لليبرالية المتوحشة، والعداء للاستبداد وللفكر المحافظ ظل راديكالياً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم كل "العواصف"، يفيء الطائر إلى "ذاته"، فيكتب بقدر من التفاؤل، فإن الحاكم الأقصى يظل هو مُواطن الغد الذي لا يعرف من اللغة ورموزها إلا هذه المعاني: "هذي المدينةُ لي أنا"، و"آن أن نولد أو نذهب إلى الموت"، و"لا شيء يمنعنا من الأمل"، و"اللحظة للأحرار"، وهي "أمشاج" مُستقاة من ديوان "ظِل الليل" للشاعر الفلسطيني زهير أبو شايب.

وسط هذا القدر الهائل من "الحَراك"، لا ينسى جدعان شريكة حياته "هانية"، منذ تعرف إليها تلميذة له في الجامعة، حتى آخر فحوصها للكِلى، كما لا ينسى ابنته البِكر فرح وابنه إياس. ففي الكتاب تفاصيل كثيرة تبرز حميمية العلاقة العائلية ودورها في نجاحاته. كما تبقى أمه حاضرة في الكثير من المواقف، خصوصاً حين يتحدث عن رغبته في زيارتها في دمشق هو المحسوب في سورية هارباً من الخدمة العسكرية. وحين أتيحت فرصة الزيارة (تهريب) وصل متأخراً،  فالأم كانت قد توفيت. وأخيراً العلاقة الدائبة مع قريته "عين الغزال" ببحرها وسهلها وجبلها، هذي الأقانيم الثلاثة التي تترك فيه سمات العدل والعزة والنزاهة.

المزيد من ثقافة