Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آثار السودان ضحية التنقيب العشوائي عن الذهب والتعدي الزراعي

مطالبات بزيادة عدد البعثات الاستكشافية لتسريع وتيرة العمل بدلاً من تلك الفرنسية الوحيدة العاملة الآن

التنقيب العشوائي عن الذهب (هيئة الآثار السودانية)

تبدو المواقع الأثرية في السودان كئيبة وحزينة، ويبعث حالها على الأسى والحسرة. فعلى الرغم من عظمة التاريخ الذي تنطوي عليه، فإنها وبسبب وجودها في أماكن قصية عن المدن وفي بقاع متباعدة، باتت مراقبتها وحمايتها أمراً مكلفاً بالنسبة لبلد يعاني ضوائق اقتصادية، تراجع معها الاهتمام بحماية الآثار في سلم الأولويات، لتصبح نهباً ومحلاً للتغول والتعدي المستمر، بشكل بلغ درجة تهديد وجودها دون وعي بأهميتها التاريخية.

ولعل ملصقاً أو لافتة واحدة تحمل تنبيهاً بأن هذا المكان أو ذاك، هو موقع أثري، أو ضرب الأسوار والأسلاك الشائكة على المواقع الأثرية، لم يعد كافياً كما في معظم دول العالم، لردع أي تعد عليها أو تهديد لها، ما يشير إلى ضعف كبير في الوعي بقيمتها المعنوية والتاريخية، ويلقي على عاتق الدولة في الوقت ذاته مسؤولية مزدوجة في توفير الحماية الأمنية والقانونية، إلى جانب عبء التثقيف ورفع الوعي اللازم بالآثار وأهميتها، التي هي نبض تاريخ وملهمة حاضر كل أمة تحتفي بجذور حضارتها.

التعدي على المواقع الأثرية

تعددت في الآونة الأخيرة الاعتداءات على المواقع الأثرية بشكل لافت، بواسطة أنشطة التنقيب العشوائي عن الذهب وبعض الشركات العاملة في المجال ذاته، فضلاً عن التعديات بالزراعة داخل المواقع الأثرية المهمة، أو التصديق باستخدامها لأغراض السكن وتشييد المنازل. وقد وصل الأمر إلى حد أصبح يشكل هاجساً يؤرق ويزعج بشدة السلطات المختصة في الهيئة العامة للآثار، إذ تنوعت أشكال التعدي والتغول على الرغم من الإنذارات والسوابق التي ضبطت، لكن ظاهرة التعدي ومعاول هدم الآثار ومحو تاريخ الأسلاف ومخطوطاتهم ومعالمهم وحضارتهم، لم تتوقف.

وكانت أحدث الانتهاكات خلال الأسابيع الماضية على مواقع أثرية في شمال السودان، حيث تتركز بصورة كبيرة هناك، في جزيرة صاي ومناطق المحس وموقع الكوة الأثري في نواحي مدينة دنقلا، عاصمة الولاية الشمالية.

 

وأعلن حاتم النور محمد سعيد، المدير العام للهيئة العامة للآثار السودانية، رفضه التام لأي نوع من التعدي على الآثار، غير أنه اعتبر أن أخطر أنواع التعديات هو ما يتم بواسطة جهات حكومية أو ذات صفة رسمية، مثلما وقع في موقع الكوة بمنطقة دنقلا.

وأوضح أن الهيئة خاطبت حكومة الولاية الشمالية بوقف الزراعة داخل الموقع المشار إليه، بعد أن تم التصديق بجزء كبير من الموقع لأنشطة زراعية، وزرعت بالفعل مساحة تقدر بنحو 80 من الأفدنة داخل الموقع، على الرغم من الأسوار المشيدة حوله بغرض حمايته، وتأكيداً لأهميته الكبيرة، إذ يعتبر من المواقع الضخمة التي تضم مدناً ومدافن أثرية هامة. ويعود أقدم تاريخ معروف للموقع لفترة حضارة كرمة (2500-1500) قبل الميلاد، تعاقبت في تلك الفترة العديد من الحقب التاريخية الموجودة به.

مدينة "قمآتون" ومعقل "تهارقا"

كما عرف الموقع قديماً باسم "مدينة قمآتون"، المعاصرة لحكم الفرعون المصري توت عنخ آمون، ويضم آثاراً للمدينة ومجمعاً كبيراً للمدافن وعدداً من المعابد أشهرها معبد الملك السوداني المعروف بـ"تهارقا"، الذي يكتب وينطق أيضاً "طهارقة"، أو "طهراقا"، أو "ترهاقا"، وهو أحد الملوك الكوشيين في مملكة نبتة، وكان فرعون مصر، وخامس ملوكها، الذي ينتمي إلى عائلة الأسرة السودانية الـ25، ويعتقد أنه ولد في القرن الثامن قبل الميلاد، وتوفي في 664 قبل الميلاد، ودفن في منطقة نوري في الولاية الشمالية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكشف سعيد عن أن هيئة الآثار نجحت في وقف تمدد التعدي الراهن، لكن المساحات التي تمت زراعتها لا تزال موجودة، مشيراً إلى أن تلك الأراضي هي في الأصل منزوعة من أصحابها لصفتها وطبيعتها الأثرية.

فريق تفتيش لوقف التعديات

أضاف "أرسلت الهيئة فريقاً تفتيشياً إلى جزيرة صاي، لاتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة لوقف التهديد الكبير والتعديات الخطيرة، التي تتعرض لها بواسطة المعدنيين التقليديين عن الذهب في تلك المناطق، وانتهاكهم لحدود المواقع الأثرية الهامة في الجزيرة، إلى جانب مواقع أخرى غرب منطقة المحس شمال السودان".

وأوضح أن الفريق الأثري للهيئة عقد اجتماعاً مع حكومة الولاية والهيئة الولائية للآثار والمتاحف والمجلس الأعلى للسياحة والآثار في الولاية الشمالية (دنقلا)، وأجهزة الأمن والشرطة والإدارات الأهلية ولجان المقاومة في الجزيرة بغرض المساهمة في حماية الآثار، ووقف عمليات التعدين العشوائي نظراً لخطورته على تلك المواقع.

واجتمع الوفد بالمدير التنفيذي لمحلية عبري، وأجرى اتصالات بالجهات ذات الصلة للتأكيد على ضرورة التنسيق لوقف مثل هذه التعديات والمساهمة في إيجاد الحلول المستقبلية بعدم تكرارها.

من جانبه، قال عبد الماجد محمود عبد الرحمن، مدير هيئة الآثار والمتاحف، في الولاية الشمالية، إن مواقع عدة في مناطق المحس والكوة وجزيرة صاي تتعرض لهجمة تعد كبيرة عبر أنشطة التنقيب العشوائي عن الذهب بواسطة الأهالي أو الشركات، وممارسة النشاط الزراعي داخل المواقع الأثرية من دون الرجوع للهيئة، ما يشكل خطراً وتهديداً كبيراً على تلك المواقع الهامة التي تضم ممالك تاريخية قديمة تنتمي إلى مملكة كوش الأولى.

التقاطعات الحكومية أبرز الأسباب

واعتبر عبد الرحمن التقاطعات في الاختصاصات وعدم التنسيق بين الجهات الحكومية المخول لها التصديق لأنشطة الزراعة أو التعدين، من أبرز الأسباب التي تسهم في التعدي على مواقع الآثار، مشيراً إلى أنه وعلى الرغم من نجاح الجهود التي بذلت حالياً في وقف تلك التعديات، فإن التهديد سيظل ماثلاً ومستمراً، ما لم تحسم تلك التقاطعات بشكل نهائي.

وأبدى تحفظه على بعض الحلول التي اتفق عليها في شأن موقع الكوة الأثري، باستمرار وضع الزراعة الراهن داخل الموقع إلى حين انتهاء الموسم، مع الالتزام بألا تتم الزراعة داخله مرة أخرى مستقبلاً، لأن خطر عمليات الري وتسرب المياه سيؤدي إلى أحداث أضرار كبيرة وتدمير الآثار المدفونة داخل أرض الموقع.

وفي شأن ما يتم في جزيرة صاي، أوضح عبد الرحمن أن الجزيرة كلها تعتبر منطقة أثرية مهمة يجب أن تعامل بخصوصية عالية وحماية كافية، مطالباً بزيادة عدد البعثات الاستكشافية لتسريع وتيرة العمل، بدلاً عن البعثة الفرنسية الوحيدة العاملة الآن بها، الأمر الذي يستغرق زمناً أطول في المسح والتنقيب الأثري، مشدداً على ضرورة تضافر الجهود الرسمية والشعبية لحماية المواقع الأثرية، وتصميم حملات توعوية لتعريف وتثقيف المواطنين بها وبأهميتها التاريخية ومكانتها، التي لا تحتمل أي عبث أو تخريب.

الآثاريون يستنكرون ويناشدون

وفي السياق ذاته، أصدر العاملون في الهيئة العامة للآثار والمتاحف، بياناً، استنكروا فيه التعدي على موقع منطقة الكوة الأثري، ووصفوه بالتعدي "السافر".

وقال البيان "في سابقة غريبة وخطيرة من نوعها، تفاجأنا نحن قبيلة الآثاريين بقرار من جهة حكومية السماح لبعض مواطني منطقة الكوة بالزراعه داخل حدود الموقع الأثري في تعد سافر وانتهاك لقانون حماية الآثار 1999".

أوضح البيان أن موقع الكوة من المواقع الأثرية المهمة والمسجلة لدى الهيئة العامة للآثار والمتاحف، وعملت به العديد من البعثات الأثرية منذ بدايات القرن الـ19، ولا يزال العمل فيه مستمراً بواسطة بعثة جمعية الآثار السودانية التابعة للمتحف البريطاني.

واعتبر البيان أن قرار السماح للمواطنين بالاستصلاح الزراعي داخل حدود الموقع من دون الرجوع إلى الهيئة العامة للآثار والمتاحف أو المجلس الأعلى للسياحة في الولاية كجهة اختصاص في إدارة شأن الآثار في الولاية، يوضح التجاهل التام لكلتا المؤسستين.

وكشف عن تدمير كبير حدث في الموقع على الرغم من التواصل الذي تم مع جهات عدة ذات صلة بما حدث، لكن باءت كل محاولات إيقاف هذا التعدي بالفشل.

وناشد العاملون في بيانهم "كل الجهات المختصة والمهتمين وكل الشرفاء والحريصين على تراث هذا البلد، العمل متضامنين لتوصيل صوت الآثاريين العاملين في الهيئة العامة للآثار والمتاحف، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الموقع وبقية المواقع المهددة".

بانوراما آثار السودان

وتمثل جزيرة صاي أقصى شمالي السودان، واحدة من أكبر الجزر على نهر النيل بطول 12 كيلومتراً، وعرض نحو أربعة كيلومترات، وتشكل موقعاً سياحياً مميزاً بتراثها الثقافي المادي وغير المادي، فضلاً عن كونها تضم بانوراما حقيقية للآثار السودانية، إذ عثر فيها على أقدم مستوطنة بشرية في السودان، يعود تاريخها لفترة العصر الحجري القديم، إلى جانب مواقع أخرى من العصر الحجري الحديث، ومقابر مملكة كرمة التي عملت بها المتخصصة في الآثار الفرنسية المعروفة بريجيت قراسيانو، كما تضم الجزيرة "مدينة فرعونية للمملكة المصرية الحديثة، ومواقع تعود لممالك نبتة ومروي، وأخرى كنسية مسيحية وقلعة عثمانية كبيرة مهمة، ومجموعة من القباب الإسلامية". وباستمرار وضع التعدي على الجزيرة، فإن كل هذا الزخم التاريخي الآثاري تحت مرمى التهديد بالزوال، نتيجة التعدي المستمر لعمليات التعدين العشوائي والمشاريع الزراعية التي صارت منتشرة بكثافة بالقرب من تلك المواقع بصورة تشكل خطراً مباشراً وغير مباشر عليها.

المزيد من تقارير