Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صاحب "الكتاب الأصفر" الذي غير حياة دوريان غراي

هويسمان شكل لحظة غرائبية في تاريخ الأدب الفرنسي

كارل هويسمان (غيتي)

من المؤكد أن كثراً من بين الذين قرأوا رواية "دوريان غراي" لأوسكار وايلد، وهم يعدون بالملايين في الإنجليزية أو في عشرات الترجمات التي نقلت إليها على مدى قرن ونيف من السنين، انشغل بالهم بذلك "الكتاب الأصفر" الذي يؤتى على ذكره في واحد من مشاهد الرواية حيث يحدثنا وايلد عن "كتاب أصفر" يقدمه اللورد هنري دوتون إلى دوريان، ويرينا كيف يلعب هذا الكتاب دوراً في تطور خطير يطرأ على بطل الرواية.

هكذا ولدت رواية وايلد

مهما يكن، فلا شك أن كثراً من بين أولئك القراء انتهى بهم الأمر للاعتقاد في البداية بأن الكتاب المذكور كتاب خيالي نبع من بنات أفكار وايلد. لكن المفاجأة أتت من وايلد نفسه الذي أدلى بعد فترة من انتشار الكتاب بحديث يؤكد فيه أن الكتاب الأصفر هو في الحقيقة "رواية" فرنسية عنوانها "بالعكس" وأن فكرة تأليف "صورة دوريان غراي" لم تأته إلا بعد قراءته "بالعكس" وافتتانه بها. ومهما يكن فإن كثراً من القراء الفرنسيين أدركوا قبل ذلك أن "الكتاب الأصفر" ليس في الحقيقة سوى توصيف مموه لكتاب كارل هويسمان، الذي كانت له شهرة كبيرة في زمن وايلد نتجت عن كونه واحداً من أبرز الكتاب الذين آمنوا، في مرحلة من مراحل عملهم بالبعد الجمالي وحده باعتباره البعد الجدير بأن يعبر العمل الفني عنه. ومن المؤكد أن هذا الجانب هو الذي أثار اهتمام وايلد الذي كان في ذلك الحين من أخلص أتباع مبدأ الفن للفن، ضد مبدأ الفن للحياة الذي كان أبرز كتاب المرحلة يرتؤونه. أجل أدرك القراء أن الكتاب هو في الواقع رواية "بالعكس" للكاتب جوريس- كارل هويسمان، الذي توفي عام 1907 فحزنت الأوساط الأدبية الفرنسية كلها لرحيله، قبل أن يبدأ النسيان يطويه خلال السنوات التالية وربما لأكثر من مئة سنة حتى استعيد من جديد قبل فترة وراحت كتبه تطبع وتنتشر ليعود ذكره إلى الواجهة. وهويسمان كان، على أي حال، ابناً حقيقياً لعصره ولتقلبات ذلك العصر. فهو الذي بدأ كتابته متوجهاً صوب نزعة "طبيعية" تقربه من إميل زولا، سرعان ما راح يتجه مع "بالعكس" صوب نزعة جمالية خالصة ليصبح من أشرس أعداء النزعة الطبيعية إثر ذلك. وكان ذلك التقلب مرآة صادقة للتقلب الذي عرفته "الموضات" الأدبية في فرنسا، بلده، في ذلك الحين.

 

رواية أم بيان رمزي؟

ومن هنا حتى النظر إلى "بالعكس" باعتبارها "بياناً في الأدب" وليس رواية، خطوة قطعها كثر من أدباء ذلك الزمن، لا سيما من بين عشرات بل مئات المبدعين من الذين وردت أسماؤهم في الكتاب. والحقيقة أن "بالعكس" رواية لا يحدث فيها شيء، في نهاية الأمر، على الإطلاق. كل ما فيها هو شخصية محورية لمثقف يدعى جان دي ايسنت يشعر بضيق وجودي يجعله بالكاد يبرح البيت بل قاعة المكتبة منكباً طوال الوقت على ما لديه من كتب متحدثاً عنها، شارحاً أهميتها أو لا أهميتها بشكل يجعل النص يبدو أشبه بكتالوغ أدبي وفني يعبر عن أذواق جان في هذا المجال، ومن خلالها عن تبدلات الكاتب هويسمان نفسه. وذلك بالتحديد لأن جان ليس سوى أنا آخر لهويسمان نفسه. هو بالأحرى إذاً "بطل – مضاد" يعيش وسط ضجره المطلق مرحلة من حياته تستدعي منه إحداث تبديل جذري ليس فقط في ممارساته الثقافية والفكرية، بل في مفاهيمه المتعلقة بذلك كله. بالنسبة إلى جان من الواضح أن ذلك التبديل بات مسألة حياة أو موت. ومع ذلك ليس ثمة هنا ولو قسط ضئيل من نزوع درامي يفسر الحالة التي يعيشها جان، وبالتالي يمكنها أن تفسر لنا ما الذي اعترى الكاتب هويسمان نفسه حتى يمارس ذلك التبدل المصيري الذي لئن كان سيثير غضب إميل زولا الذي كان قد احتضنه في البداية فإنه أثار رضى أوسكار وايلد كما رأينا، ولكن أيضاً جيلاً بأكمله من الأدباء الرمزيين الذين وجدوا في هويسمان نصيراً لهم وفي مقدمتهم حواريو مالارميه ورسامون رمزيون من طينة غوستاف مورو وأوديلون ريدون من الذين أبدعوا في رسم تلك السلحفاة الرمزية التي يمضي جان في عدد من فصول الرواية وقتاً طويلاً، وهو يزرع على جسمها عشرات الأحجار الكريمة حتى ينتهي الأمر بسقوطها ميتة تحت ثقل تلك المجوهرات!

في صفوف الطبيعيين

ولد هويسمان في باريس في 1848 ابناً لوالد متحدر من أسرة من الفنانين الفلاماند. في بداياته درس الحقوق، ثم ما لبث أن ترك الجامعة ليلتحق كموظف في وزارة الداخلية. وهو بعد تجربته في الجندية ترك العمل العسكري وجال في الشمال الأوروبي ليعود من هناك وينشر في 1874 مجموعة شعرية أولى اتبعها بأول رواية كتبها بعنوان "مارث، حكاية فتاة". كانت نزعة الرواية طبيعية فلفتت نظر زولا الذي ضم هويسمان إلى جماعته، ولقد انغمس هذا الأخير في حياة الجماعة إلى درجة أنه أسهم بقصة قصيرة، إلى جانب موباسان وآخرين، في مجموعة "عشيات ميدان" التي كانت أشبه ببيان يعلن عن وجود تلك الجماعة الأدبية. غير أن هويسمان سرعان ما راح يبدو في كتاباته التالية منحرفاً عن روح الجماعة الطبيعية. صحيح أنه صور البؤس وتفاصيل الحياة الصغيرة مثلهم، وصور العلاقات الاجتماعية على شاكلتهم، لكن ذلك كان سرعان ما يتخذ لديه دلالة على عبثية الوجود وانغلاق الآفاق، وهو أمر كان يتناقض تماماً مع إقبال "الطبيعيين" على العيش ورغبتهم في تصوير البؤس من أجل إبدال مصيره. وهكذا راحت الصراعات تنمو بين الجانبين، حتى كانت القطيعة النهائية في العالم 1884 حين نشر هويسمان كتابه الأشهر "بالعكس"، مصوراً فيه بطله دي اسنت منهاراً يائساً عاجزاً عن العثور على أي وسيلة للخروج من مأزق العيش، باستثناء الانهيار العصبي والنفساني والبحث عن خيالات ميتة. وهكذا اعتبرت تلك الرواية بداية ما لتيار الرمزية الذي كان يحاول، تحت حمى موريس باريس أن ينهض على أنقاض الطبيعية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انحرافات غيبوية

مهما يكن، فإن تلك الفترة بالذات كانت الفترة التي شهدت بداية اهتمام هويسمان بالظواهر اللاطبيعية وبشتى ضروب التنجيم والسحر والشعوذة. حيث لا نراه فقط يعبر عن كل ذلك في كتاباته التالية، بل نراه أيضاً زبوناً مخلصاً لشتى أنواع السحرة والمنجمين. لقد بدا هويسمان في ذلك الحين وكأنه اكتشف عالماً لا يريد أن يتركه يفلت من بين يديه. وهو عبر عن ذلك في كتابه "هناك" (1891). والأغرب من هذا أن الكاتب الذي بدأ عقلانياً سرعان ما أضحى، تحت تأثير قس غريب الأطوار تعرف عليه، فريسة لكل أصناف المخاوف، حيث راح يمضي أيامه وهو يعبر عن خوفه من مخاطر وتهديدات تتربص به. ولقد قاده ذلك كله إلى الغوص في المسيحية الكاثوليكية (هو الذي كان من أصول بروتستانتية) حيث نراه يعلن اعتناقه الكاثوليكية في 1896 ما أثار الدوائر الأدبية الباريسية في ذلك الحين.

عيشة النساك

ولم يكتف هويسمان بذلك بل توجه ليعيش عيش النساك بالقرب من دير "ليغوجي"، لكنه سرعان ما عاد إلى باريس والتجأ إلى دير الرهبان البندكتيين وراح يكتب أعمالاً يطغى عليها الطابع الديني ولكن من دون أن تتنازل، قيد أنملته، عن التعبيرات الجمالية التي كانت رافقت كتابة هويسمان منذ بداياته. وهكذا، لئن كان اهتمامه السابق بالفن قد دفعه لاكتشاف رسامين كانوا شبه مجهولين مثل سيزان وديغا وسورا وبيسارو، فإنه ظل على تعبده للفن الآخر، ولكن من خلال نصوص رائعة كتبها عن أهم الكاتدرائيات، وفي مقدمتها كاتدرائية شارتر. وتوفي هويسمان عام 1907، في زمن كانت الحياة الأدبية والفنية قد تخطته. وكان يبدو شبه منسي لعامين خليا وحتى اليوم الذي ملأت كتبه والكتب عنه واجهات المكتبات في فرنسا وانشغل به الأكاديميون مستعيدينه من النسيان مع أنه في زمنه كان لحظة صادقة من لحظات الأدب الفرنسي على حصان بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة