Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فيلم مارسيل آشار "بطاطا" يحارب الفشل بالقانون

مسرحياته كانت عزاء للبسطاء في أزمنة الشدة والكآبة

مارسيل آشار (غيتي)

"لو حمل هذا الفيلم عنواناً آخر غير ذاك الذي تحمله مسرحيتي التي "اقتبس" منها لما كنت اهتممت بالأمر إطلاقاً. ففي النهاية لا بد من القول إن الفيلم لا علاقة له بالمسرحية إطلاقاً. هو شيء آخر تماماً". هذا الكلام صرّح به إلى الصحافة في عام 1964 إبان عرض فيلم "بطاطا" من إخراج روبير توما في باريس، الكاتب مارسيل آشار صاحب المسرحية التي "اقتبس" منها الفيلم والذي بدا غير راض عنه على الإطلاق فاستقبل العرض بتلك الكلمات التي اعتبرت نارية في ذلك الحين. والحقيقة أن آشار كان محقاً على الأقل لسببين: أولهما أن الفيلم شوّه موضوعه تماماً، بعدما كانت المسرحية التي عرضت قبل ذلك بسبعة أعوام، قد حققت نجاحاً هائلاً إذ عرضت أكثر من 2270 مرة خلال ثلاث سنوات متتالية جاعلة من كاتبها زعيماً للمسرح الشعبي الفرنسي. وثانيها أن ذلك الاقتباس الفرنسي حرم المسرحية من فرصة تمثلت برغبة شركة وارنر السينمائية الهوليوودية في شراء حقوقها لتحويلها فيلماً أميركياً.

صحبة قديمة

ومع ذلك كان موضوع "بطاطا" في منتهى البساطة ويتحدث عن رفيقي دراسة تفرقت بهما السبل بعد مرحلة الشباب حيث بات ليون، الملقب "بطاطا" بسبب أنفه الشبيه بحبتها، مجرد مخترح فاشل في الحياة وفي الأعمال، فيما نجح رفيقه نويل كارادين ليصبح رجل أعمال ثرياً. وما يطالعنا هنا هو أن ليون وزوجته يقرران يوماً أن يقصدا كارادين كي يسألاه عوناً للانطلاق في عمل جديد هما واثقان من إمكان نجاحه هذه المرة. وإذ يلتقون بعد فترة انتظار مهينة، يبدي الرفيق الثري تمنّعه رافضاً تقديم أي عون. ومن هنا، بفعل استياء هذا وزوجته يقرران مجابهته بالنسبة إلى "نقطة ضعف" لديه يكتشفانها: إن كارادين عشيق لابنة الثنائي التعيس الحظ بالتبني، أليكسا وهذه الصبية التي تواصل دراستها لا تزال قاصراً وبالتالي ها إن علاقتها بالثري تشكل فرصة مزدوجة لابتزازه من قبلهما. فهناك من ناحية، البعد الاجتماعي الأخلاقي، إذ إن العلاقة تمثل فضيحة في ذلك المجتمع المحافظ المغلق. ومن ناحية أخرى، البعد القانوني بالنظر إلى أن أليكسا لا تزال قاصراً.

قبل تبدّل الأخلاق

هكذا ينسج الزوجان شبكة يحاصران بها كارادين في عمل مسرحي يسخر فيه مارسيل آشار من طبقة بأسرها في وقت كانت الأبعاد الأخلاقية تُحكم حصارها عليها لتنعكس في مجالات الأعمال وتوزيع الثروات في المجتمع. ومن المؤكد أنه كان من حظ آشار أن تلك البنى الأخلاقية كانت لا تزال سائدة يوم كتب مسرحيته، بينما راحت تتلاشى بعد ذلك يوم حقق توماس فيلمه فبدا الموضوع متهافتاً إذ لم يتمكن الاقتباس من الاستفادة من ذلك البعد الأخلاقي/ القانوني.

مهما يكن لا بد أن نشير هنا إلى أن أجواء مسرحيات آشار ناهيك بعناوينها، مأخوذة بشكل عام، من أجواء وعناوين الأغاني الشعبية الفرنسية، ولا سيما الأكثر بساطة وطفولية وزهواً بالحياة. حتى وإن بدت مواضيعها دائماً: تعقيدات غرامية تنتهي على الدوام نهايات سعيدة. أما الشخصيات فبسيطة، ساذجة تحب الحياة، عاطفية تعرف، بتلقائية، كيف تتعاطى مع شاعرية العيش ويومياته. تترك لأحلامها أن تقودها في حياتها وتعزّيها وسط مرارة العيش، إنها شخصيات حنون وعاطفية تنزلق في عالم سهل تنتهي كل تعقيداته بأن تسوى في نهاية الأمر، وفي هذا السياق تبدو "بطاطا" أشبه بتلخيص هذا كله.

بات المجتمع أكثر تعقيداً

ربما كان مارسيل آشار، منسياً بعض الشيء اليوم وسط حياة أدبية ومسرحية فرنسية تنحو إلى التعقيد والتركيب أكثر فأكثر. ولكن لا بد لأي دارس لتاريخ المسرح الفرنسي، ولأي راغب في البحث عما تركته "الكوميدي ديلارتي" من أثر في المسرح الأوروبي الحديث، أن يأتي على دراسة آشار، وذلك بكل بساطة لأن سذاجة شخصياته، في نهاية الأمر، خادعة، وعاطفيتها ليست سوى القناع الذي يغطي كآبة تستشرس للإفلات منها. من هنا لم يكن من المصادفة أن يؤتى على ذكر مارسيل آشار وأعماله أواخر القرن العشرين، حين حقق المخرج الإيطالي فدريكو فلليني فيلمه الأخير "صوت القمر".

بين الصحافة والخشبة

ولد مارسيل آشار العام 1899، ومات في باريس يوم الرابع من أيلول (سبتمبر) 1974، في وقت لم يكن أحد قادراً على الاهتمام به وبكتاباته المسرحية التي كانت تتبدى، في ذلك الحين على الأقل وعبر نظرة سطحية، مضادة لشتى أنواع الحداثات الرائجة. في بداياته مارس آشار العديد من المهن، قبل أن يكتشف فن المسرح ذات يوم، ويلتحق به كـ"ملقّن" غير أنه سرعان ما طرد لأنه عجز عن مدّ الممثل الرئيسي بالجملة التي كان عليه أن يقولها، فما كان منه وهو الذي بات متآلفاً مع العمل المسرحي، إلا أن تحول إلى العمل الصحافي في صحيفتي "لوفر" و"بونسوار". ولأنه لم يكن يحب هذا العمل، أخذ في الوقت نفسه يحاول حظه في كتابة النصوص المسرحية، مزوّداً بالخبرة التي اكتسبها خلال عمله كـ "ملقّن"... وكان يكتب النصوص ويرسلها، حتى قبل "مسرح العمل" في نهاية الأمر قُدمت واحدة من مسرحياته الأولى وهي "أعلن القداس" فكانت بدايته التي أطلقته، وجعلت المخرج شارل دولين ينتبه له، فقدم على التوالي مسرحيتين من تأليفه هما: "الرجل الذي عاش موته" و"هل تلعبون معي؟" في أواسط سنوات العشرين، يوم كانت للمسرح الشعبي مكانة أساسية في حياة الناس. ومن هنا صار آشار، بين ليلة وضحاها، معْلماً في الحياة المسرحية في باريس. واكتمل التكريس بعد ذلك حين أخرج لوي جوفيه (أحد كبار مخرجي وممثلي تلك المرحلة) مسرحيته "مارلبورو يذهب إلى الحرب" فكانت انطلاقة جديدة له، نقدية أكثر منها جماهيرية هذه المرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اللجوء إلى الأغاني

منذ تلك اللحظة لم يعد من الصعب على مارسيل آشار العيش من كتاباته والنظر بعين الرضا إلى الفرق المسرحية وهي تتنافس للحصول على نصوصه ولقد أتت لاحقاً "بطاطا" في أواسط سنوات الخمسين لتوصله إلى الذروة، أما الفترة التي انقضت بين بداية الثلاثينيات حين قدّم "جان القمري" وأواسط الخمسينيات حين قدم "بطاطا" فكانت خصبة قُدمت فيها لمارسيل آشار مسرحيات عديدة من أبرزها "جوز الهند" (1935) و"بالقرب من شقرائي" (1946)، و"هل تعرفون كيف تزرعون الملفوف؟" (1946) و"سوف نذهب إلى فالباريزو" (1948). وهذه العناوين كلها ينطبق عليها ما أشرنا إليه أعلاه من أن معظمها مستقى من الأغنيات الشعبية، ولم يكن الأمر مصادفة بالطبع، إذ ندرك اليوم أن لجوء آشار إلى تلك العناوين ساهم مساهمة أساسية في إضفاء الطابع الشعبي والبسيط على مسرحيات كانت في نهاية الأمر إشارة إلى الاحتفال بالحياة. ومن هنا كان كبار الممثلين يتسابقون للعب الأدوار الرئيسية فيها.

البساطة لمحاربة الكآبة

في جميع الأحوال كانت مسرحيات مارسيل آشار ذات حظوة كبيرة لدى الجمهور قبيل الحرب العالمية الثانية، وساهمت في إغراء المنتجين بتحويلها إلى أفلام سينمائية كان آشار يساهم مساهمة أساسية في كتابة السيناريوهات لها، كما في إخراجها في بعض الأحيان. وهنا يأتي إلى الأذهان فيلمه الأول "جان القمري" الذي لعب الدور الأول فيه الممثل الكبير ميشال سيمون فكان بالنسبة إليه بداية توجه جديد في حياته، كمثل، ظل يقول حتى أيامه الأخيرة أنه يدين في سلوكه إلى مارسيل آشار، ذلك الكاتب الذي، على حد تعبيره "عرف كيف يرسم بساطة الحياة في زمن كان كل ما فيه يضفي على الحياة تعقيداً وكآبة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة