Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لا مآسي ولا عواطف في لوحات الإنجليزي فرانسيس بيكون

محاولات لجعل الروح تحكي من خلال تعابير الوجوه والأجساد

الوجوه وخرائط الروح في لوحات بيكون (غيتي)

لم يرتبط فنان من أبناء القرن الـ20 بالفن نفسه بقدر ارتباط فرانسيس بيكون به. ولا نعني هنا مسألة التعبير الفني بل قضية المرجعية الفنية. وبالتحديد كجواب على سؤال أساسي وهو: أيّ الأشياء يمكن أن تكون أكثر صلاحية لتتحول لديّ إلى مرجع لعمل فني؟ هناك فنانون استخدموا المناظر الطبيعية وآخرون المشاهد الدينية والتاريخية، وفريق اشتغل على رسم جسد المرأة وملامح الأطفال وغير ذلك. أما فرانسيس بيكون فلقد آثر في واحدة من أخصب مراحله وأكثرها عمقاً لتكون من ثم أوسعها شهرة، آثر موضوعاً قد يبدو الأكثر بديهية، بالنظر إلى أنه يكاد يكون موجوداً في الغالبية العظمى من اللوحات التي رسمها الفنانون: الوجه البشري! ولكن الوجه البشري الذي رسمه بيكون لم يكن الوجه نفسه الذي رسمه المئات من زملائه الفنانين الآخرين. ولا هو توصل إلى النتيجة نفسها التي كانوا هم يتوخونها، ولا تماثلت الدوافع عنده وعندهم. فهو أبداً لم تكن غايته رسم بورتريهات. وأبداً لم يسعَ إلى رسم أناس عاديين. ما كان يرسمه وجوه الناس الذين يعرفهم بوصفها بحسب تعبيره "خرائط للروح". بالنسبة إليه كانت تلك "الخرائط" تظهر من خلال شفافية الوجوه نفسها. ومن خلال تلك اللحظة التي نتعرف فيها إلى الروح من خلال الوجه، وليس على هوية صاحبها من خلال تواجهنا مع ملامح وجهه.

خاتمة أزمة إبداعية

ونعرف أن بيكون قد توصل إلى هذا المفهوم بعد أزمة إبداعية عاشها، واستمرت لديه طويلاً لتنتهي في تلك اللحظة التي وجد نفسه فيها يواجه لوحة "مجزرة الأبرياء" لبوسان، وقبل ذلك مشهداً في فيلم للروسي إيزنشتاين. حينها لم تثر المجزرة نفسها اهتمامه، ولم تكن لديه أية رغبة في "الاحتجاج فنياً" ضد الجريمة الجماعية التي يعبر الفنان الكلاسيكي عنها. ما أثار اهتمامه بالفعل لم يكن حتى الألم الذي يعتصر الشخصيات المذبوحة، ولا القسوة التي تطغى على ملامح القتلة. لم يكن هذا كله ليعنيه في شيء. كان ينظر إليه كحالة تعبيرية عابرة. وفي المقابل، راح يتأمل تلك الأرواح، أرواح الضحايا كما أرواح الجلادين كم تجلت من خلال شفافية التعابير. في تلك اللحظة، أمام تلك الوجوه التي تجاوزت كونها "مظهراً" للروح أو للمشاعر أو حتى للوضع المأساوي الذي تعبّر به، أدرك بيكون أنه قد وجد موضوعه وأشكاله الفنية التي لن يرى فيها كثر من مشاهدي أعماله، بل دارسيها حتى، سوى تشويهات تعبّر عن "احتجاج ما" ضد "شرط إنسانيّ ما".

الفنان يفسّر فنه

لقد عاد هو وعدّل تلك التفسيرات، آخذاً على المفسرين كونهم لم يتنبّهوا إلى أنه قد تعامل بالطريقة نفسها مع كل الوجوه التي رسمها، أو اقتبسها في رسوم من إنتاجه بمعنى أنه حين أعاد رسم لوحة كلاسيكية شهيرة لبابا من الفاتيكان أو رسم فيليب سوبو أو ميشال ليريس، أو استخدم جسداً استعاره من لوحة لخاييم، سوتين، أو حطم أشكالاً تنم عن وجوه لا يصعب التعرّف إليها، إنما كان دائماً يرسم على الشاكلة نفسها من دون أن يتوخى تقديم أي موضوع للشكوى. فالإنسان لا يستخدم "الخرائط" للحصول على تعبير ما، بل للتوغل في طوبوغرافية محددة من دون أن يترك لتلك الطوبوغرافية مجالاً للتأثير العاطفي عليه. والحقيقة أن بيكون جهد طويلاً لكي يوصل هذه الفكرة إلى مشاهدي لوحاته الذين كانوا يصرون دائماً على العثور على الفواجع في خلفية تلك اللوحات، أو حتى على الإمساخات المورفولوجية. ومن المؤكد أن هذا "القصور في فهم فن بيكون" قد نتج، في رأيه هو على الأقل، من كون لوحاته تبدو للوهلة الأولى، وكأنها تنتمي إلى ذلك "الكابوس السعيد" الذي جرى الحديث عنه دائماً لمناسبة ذكر فيينا بدايات القرن الـ20، فهي من الناحية الشكلية قد تبدو شبيهة ببعض أعمال أوسكار كوكوشكا، وقد يرى البعض قرابة ما بين جيمس آنسور وسوتين من جهة، وبينه من جهة ثانية، غير أن هذا ليس إلا للوهلة الأولى، لأن تأملاً دقيقاً في عوالم فرانسيس بيكون ومتابعة متأنية لمساره الفني سيجعلاننا نرى فيه شيئاً مختلفاً تماماً، هذا إذا وضعنا جانباً قوته التقنية، التي تجعل أي لوحة له تبدو أشبه بمتاهة خطوط وألوان تحتاج أكثر من نظرة قبل إدراك ماهيتها متكاملة.

رسام أوروبيّ

فرانسيس بيكون الذي رحل عن عالمنا عام 1992 بفعل أزمة قلبية نتجت من نوبة ربو ألمّت به، بشكل مفاجئ، كان، حين وفاته، لا يزال في قمة عطائه، على الرغم من أنه كان يومها في الـ83 من عمره. فهو ولد عام 1909 في دبلن بإيرلندا، من والدين إنجليزيين. وكان الصبي في الخامسة من عمره حين انتقلت الأسرة لتقيم في لندن، غير أن ذلك لم يمنع فرانسيس وبقية أفراد الأسرة من التنقل منذ ذلك الحين بين لندن ودبلن، ما جعل وعي الفتى يتفتح على عالمين ثقافيين سوف يتكاملان لديه لاحقاً في 1925، حين كان فرانسيس في الـ16، وحصل خلاف عنيف بينه وبين والده دفعه إلى ترك الأسرة بشكل نهائي، متخذاً قراره بأن يصنع مستقبله بنفسه وبأن يكون مستقبله فنياً. وكان قد اكتشف الأدب والرسم قبل حين واطلع بشكل جيد على أعمال الرسامين الألمان والهولنديين. ولقد تلت ذلك ثلاث سنوات (1926 - 1928) تنقل فرانسيس خلالها بين برلين وباريس، حينها اكتشف، إلى جانب الرسم، فن السينما وخصوصاً لدى بونيال وأيزنشتاين، ثم اكتشف السورياليين وأعمال المصور ساندر الفوتوغرافية، ولكن خصوصاً لوحة "مجزرة الأبرياء" لبوسان التي لن تبرح خياله بعد ذلك أبداً، وستكون واحدة من الأسس التي بنى عليها فن الرسم لديه إلى جانب ذلك المشهد السينمائي في فيلم "الدارعة بوتمكين" لوجه الأم التي اندفعت في الصراخ أمام عربة طفلها التي تدحرجت على سلالم أوديسا الشهيرة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في حمى السورياليين

في تلك الآونة، كان بيكون قد بدأ يرسم، وكانت لوحاته بدأت تلقى ترحيباً لدى السورياليين الفرنسيين. وراح يرسم بكثرة ويشارك في معارض جماعية ويرتبط بصداقات مع شعراء رسمهم مثل فيليب سوبو وميشال ليريس، كما مع فلاسفة من أمثال جورج باتاي، اكتشفوا الأبعاد الفلسفية للوحاته. لكن بيكون، وعلى الرغم من إعجاب المثقفين بأعماله، كان لا يفتأ يعبر أزمات غضب مرعبة. ولقد قادته واحدة من تلك الأزمات لأن يدمر كل لوحاته، ما عدا عشر لوحات آثر استبقاءها. وكان ذلك في عام 1941. بعد ذلك بقي بيكون منكباً طوال عشرة أعوام على محاولة العثور على مفتاح جديد لإبداعه، وهكذا توصل في نهاية سنوات الأربعين إلى اكتشاف "خريطة" اعتبرها "قارة تعبيرية جديدة" هي وجه الإنسان وجسده. ومن هنا كانت تلك السلسلة من اللوحات التي أوصلت شهرة فرانسيس بيكون إلى الذروة طوال النصف الأول من الخمسينيات، والتي كان موضوعها الأساسي، وجوه الأشخاص. وكان يرى أن أفضل الوجوه التي يمكن له أن يرسمها إنما هي وجوه الشعراء والفلاسفة، وهكذا راح يرسم أصدقاءه في لوحات، كان يقول إن مثله الأعلى في رسمها كان "صرخة الأم" في "الدارعة بوتمكين".

ابن الفن المدلل

في عام 1957 أقيم أول معرض استرجاعي للوحات فرانسيس بيكون في باريس وكان رد الفعل عليه محبّذاً، خصوصاً أنه كان، بالنسبة إلى النقاد، مناسبة لعودة الفن البريطاني إلى الساحة بعد غياب، على الرغم من أن بيكون اعتبر نفسه، دائماً، أوروبياً قارياً، أكثر منه بريطانياً. وبعد باريس، كان دور الولايات المتحدة لتكتشف أعمال بيكون في 1963. أما باريس فلقد عادت وخصّته بمعرض شامل لأعماله في "الغران باليه" (القصر الكبير) أدخله مباشرة عالم كبار "كلاسيكيي القرن الـ20" ومنذ ذلك الحين وحتى وفاته في 1992، ظل فرانسيس بيكون بمثابة الابن المدلل للحركة التشكيلية في العالم، وصارت لوحاته من أشهر ما رسمه فنان بريطاني خلال القرن الـ20، إذا استثنينا زميله ديفيد هوكني، البريطاني الآخر الذي لم يقل عنه شهرة وأهمية في القرن نفسه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة