Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد فرج يمارس كتابة العدم في "خطط طويلة الأجل"

راوي القصص مطارد بجرائم لم يرتكبها والمأساة طريقة عيش

شخصيات مصرية في لوحة للرسام محمد صبري (صفحة الرسام على فيسبوك)

عندما يختار كاتب ما عنوان إحدى قصصه لكي يكون عنواناً لمجموعته القصصية فهو بلا شك يلفت نظرنا لشيء مهم في تلك القصة. وهذا ما لاحظته بعد قراءة مجموعة "خطط طويلة الأجل" (دار العين- القاهرة) للكاتب المصري محمد فرج والتي يعالج فيها مفهوم "القصة"- عموماً - وعالمها ولحظة الذروة التي تدفع لكتابتها وتأخذ هذه القصة شكل "الرسالة" الطويلة الموجهة إلى "خوليو"؛ صديق الكاتب، بحيث تبدأ بقوله "عزيزى خوليو... منعتُ نفسي عدة مرات من الكتابة إليك ولكن في النهاية سألتُ نفسي، لم كل هذا التوتر؟ هي في النهاية رسالة سأثرثر فيها قليلاً وربما لا تصل إليك".

وتضعنا هذه الافتتاحية أمام سمة أساسية يمتاز بها محمد فرج وهي ارتباط الكتابة – عنده – بالتوتر وتصوير حالات مأزومة، ويتضح الأمر أكثر حين يقول: "كتابة قصة هي محاولة للمشي في العدم، على أن تصبح كل خطوة تحويلاً لهذا العدم إلى جزء من العالم، لكنني منذ أيام أقف على أعتاب العدم وغير قادر على رفع ساقي ولو بضعة سنتيمترات".

تسعى الكتابة – إذن – عند كاتبنا إلى تحويل العدم إلى جزء من العالم؛ بمعنى أنها تحوله إلى أمر معيش اعتيادي يمكن التكيف معه، وافتقاد القدرة على الكتابة يعني العجز وعدم القدرة على السير، أو رفع الساق "ولو بضعة سنتيمترات". وترتبط كتابة القصة خصوصاً، بنوع من تعرية العالم وفضحه وتصوير فداحته. لهذا فهو يبتئس من كون رسالته إلى "خوليو" مليئة بالمجاز الذي هو – في رؤيته – "ملاذ الخائفين الجبناء". هذا العدم الذي يستشعره السارد أفضى به إلى مجموعة من التيمات يأتي الإحساس بالمتاهة في مقدمتها. ففي قصة "وجبة باردة" يبدو البيت الذي ذهب السارد إليه لكتابة تقرير عن حالته أشبه بالمتاهة، كما يتضح من قوله "أصابني الشك، هل هذه الصالة نفسها التي مررت بها من قبل؟ شعرتُ أني في متاهة".

سارد عدمي

هذا الإحساس بالمتاهة يدفعه إلى الشعور باللا جدوى والإحباط وعدم الرغبة في الطموح. إننا على مدار المجموعة أمام سارد عدمي مطارد بجرائم لم يفعلها. يقول في "يوم طويل": "فكرتُ قليلاً في مسألة بحث الشرطة عني. أعرف أن الشرطة قوية ولكن لماذا تبحث عني؟ لم أرتكب شيئاً يجعلها تلقي القبض عليَّ هكذا".

وهنا تدخل لعبة التهيؤات بحيث لا يعرف السارد – في قصة "طلب مساعدة" – إن كان من يحمله هو ابنه أم  بنته أم شقيقته الصغرى، ويرى وجه عمته يشع صحة رغم علمه بمرضها وأنها من المفترض أن تكون في أحد المستشفيات. ويرى القطار الذي ينتظره على غير الصورة التي يعرفها؛ حتى أن ابنه الصغير الذي كان يحمله في بداية القصة نراه – بلا تمهيدات – شاباً في نهايتها؛ يقول: "نظرتُ إلى الشاب، فعرفت أنه ابني. لم أشغل بالي كيف كبر هكذا. ألقيتُ بنفسي على السرير ونمت". وفي قصة "ترتيبات للمشهد النهائي"، يتضح شعور السارد بالخطر الذي يلاحقه حين يلاحظ أن الجالس بجواره في القطار "يحمل حزاماً ناسفاً"، فيتوقع أن تأتي نهايته مفتتاً أو محروقاً، وهو ما يجعل القتل أمراً شائعاً في عالمنا المعاصر، كما يقول في قصة "نوستالجيا": "إلى هذه الدرجة التي تصورها السينما والأعمال الأدبية وحكايات الناس المزيفة". ويصبح البديل لكل هذا هو الاهتمام بالثانوي والتفاصيل الحياتية الصغيرة، كأن السارد يعزي نفسه أو يلهيها عما هو جاد.

يقول في قصة "أثر المنديل": "أنفقتُ الكثير على أشياء تافهة وأضعتُ أوقاتاً كثيرة على أشياء لا معنى لها، أشخاص، سهرات، رحلات، أعمال، وتشددتُ في أشياء كان يمكن إذا دفعتُها أن تتغير حياتي".

إنتاج الدلالة

كما يؤدي المكان دوراً كبيراً في إنتاج الدلالة، فأحياناً يأتي الوصف معبراً عن اضطراب الشخصية وعدم انتباهها لما حولها. ولنتأمل هذا المقطع: "وصلتُ عند مدخل العمارة التي أسكن بها. كان المدخل رخامياً لامعاً. هل كان رخامياً عندما غادرتُ المنزل؟ كيف حافظَ على كل ذلك اللمعان وسط التراب الذي يعبث في المدينة؟". فرغم أنه يصف مكان سكنه ما يعني معرفته الجيدة به فإن اضطرابه جعله كأنه يدخل العمارة للمرة الأولى، وهو ما يظهر من أساليبه الإنشائية/ الاستفهامية المندهشة المتعجبة.

وفى قصة "وجبة باردة" يبدو المكان مرآة لشخصية "رئيس" المؤسسة حيث تبدو على المكان مظاهر السلطة المتمثلة في الغرفة الضخمة والسقف العالي والأرضية الخشبية والمكتب الضخم. وتؤدي ظلمة المكان دورها في إشاعة جو الرهبة والغموض المقبض حين يقول: "كانت الغرفة شبه مظلمة. والغريب أن الوقت لم يكن ليلاً بعد كان الرئيس قد أشعل مصباح المكتب الذي أنار فقط نصف وجهه الأسفل وبقي نصف وجهه الأعلى مبهماً في ظلمة المكان".

على أن السلطة تتبدى على نحو مباشر صريح في قصة "عشاء خاص" التي تحكي عن ديكتاتور؛ كان مجرد التفوه بهذه الصفة للإشارة إليه كفيلاً بقتل من يستعملها. لكن مع مرور الوقت قال هذا الحاكم إنه يشرفه أن يكون ديكتاتوراً في وجه أعداء البلاد والخونة، فصار الناس يستخدمونها بسهولة، حتى بدأ تقليداً آخر حين قرر من باب التضامن مع مواطنيه أن يتم اختيار أسرة بشكل عشوائي كي يحل عليها ضيفاً على العشاء، وفي النهاية يهديها شيئاً تافهاً. وبعد عدة عشاءات صارت الجائزة طلقة في رأس أحد أفراد الأسرة المختارة أو تفجير البيت وهم بداخله بدعوى أن العائلة تحاول اغتياله. وللربط بين مستويات السلطة المختلفة يقول في قصة "أعمال حكومية" إن الدولة لها "لا تأبه لأحد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفى أجواء مثل هذه تلقي الشمس أشعة حارقة تتحول فيها شوارع المدينة إلى جحيم، وتبدو الأشياء وكأنها على وشك الانصهار، ويسير الناس كالسحالي تحت هذه النار. وعلى مدار المجموعة يبدو الحضور اللافت للزواحف والحيوانات والطيور. يقول في نهاية قصة "أعمال حكومية": "يبدو أن الضفدع لكز بطن الجرادة. لوهلة أحسستُ أن بطنها يهتز وأجنحتها ترتعش والضفدع السمين يشير إلى أكوام السحالي التي تجري في الطريق أمامه، وبدأت الجرادة في الطيران".

ومن الواضح أن العلاقات بين هذه الكائنات عدائية كأنها تمثيل للعلاقات الآدمية، وكما وظّف الكاتب تقنية الرسالة في قصة سابقة فقد وظّف المتوالية القصصية على مستوى القصة الواحدة وتقنية الظهور والاختفاء المفاجئ للشخصيات.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة