لم تمضِ سوى أيام معدودة على تحذير قائد جيش ميانمار، الشخصية الأكثر نفوذاً في البلاد، الجنرال مين أونغ هلينغ، من إمكانية "إلغاء دستور البلاد في ظل ظروف معينة"، وذلك على وقع اتهامات متواصلة من المؤسسة العسكرية بارتكاب مخالفات في الانتخابات العامة، التي جرت في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، نفتها لاحقاً لجنة الانتخابات العامة حتى استيقظ العالم اليوم الاثنين الأول من فبراير (شباط) على انقلاب عسكري جديد، اعتقلت فيه أونغ سان سو تشي التي تُعد بحكم الأمر الواقع رئيسةً للحكومة، وأعلنت حالة الطوارئ مع تعيين جنرالات في المناصب الرئيسة في الدولة.
ويعيد الانقلاب الجديد في ميانمار تلك الدولة الواقعة في جنوب شرقي آسيا، مشاهد الحكم العسكري الممتد لقرابة خمسة عقود، وكذلك انقلابي عامي 1962 و1990، بعد أن كانت قد خرجت تلك الدولة المستعمرة من قبل بريطانيا سابقاً (نالت استقلالها عام 1948) قبل 10 سنوات من عباءة الحكم العسكري (في الفترة ما بين 1962 و2011)، ونص دستورها الذي صاغه المجلس العسكري على تقاسم السلطة بين إدارة مدنية والجيش، ما عكس تفاؤلاً حينها بأن تشهد البلاد عملية انفتاح تدريجية.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه البعض أن الانقلاب الجديد يعطل مسار سنوات من الجهود المدعومة من الغرب لإرساء الديمقراطية في ميانمار، التي كانت تعرف سابقاً باسم ميانمار، وتحظى فيها الصين بنفوذ قوي، تحاول "اندبندنت عربية" قراءة "انقلاب الأول من فبراير" في ضوء ما تخبرنا به طبيعة الحياة السياسية المعقدة في ميانمار، وخلفيات الصراع الممتد بين الجيش والحركات المدنية على السلطة طوال العقود والسنوات الأخيرة.
لماذا انقلب الجيش؟
يأتي الانقلاب الذي نفذه الجيش البورمي اليوم الاثنين بعد سنوات من تقاسم للسلطة، وصفه مراقبون بأنه "بالغ الحساسية" بين الحكومة المدنية برئاسة أونغ سان سو تشي (رمز كفاح ميانمار الطويل لإسقاط الدكتاتورية، الحاصلة على جائزة نوبل للسلام) والعسكريين الذين يتمتعون بنفوذ كبير جداً في البلاد، هذا التوافق، سرعان ما ظهرت هشاشته بعد ثاني انتخابات تشهدها البلاد منذ انتهاء الديكتاتورية العسكرية عام 2011، وهي تلك التي شهدتها ميانمار في نوفمبر الماضي، وفاز فيها حزب سو تشي، لكن العسكريين نددوا فيها بعمليات "تزوير ومخالفات واسعة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق لجنة الانتخابات العامة في البلاد، حصل حزب سو تشي "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية"، على 83 في المئة من المقاعد المتاحة (البالغ عددها 476)، وهو ما اعتبر حينها استفتاء على حكومتها الديمقراطية الناشئة، ما يجدد سلطة إدارتها لخمس سنوات إضافية، فيما حقق حزب "الاتحاد للتضامن والتنمية" الذي يدعم الجيش، أقل من 7 في المئة، ليعتبر الجيش على الإثر أن هناك عشرة ملايين حالة تزوير انتخابي على مستوى البلاد، معرباً عن رغبته بإجراء تحقيق في الأمر وطالب مفوضية الانتخابات بالكشف عن لوائح التصويت للتحقق منها.
وتزايدت المخاوف الغربية بشأن "ديمقراطية ميانمار الناشئة"، بعدما لم يستبعد المتحدث باسم الجيش الثلاثاء الماضي خلال مؤتمر صحافي، استعادة العسكريين سيطرتهم على البلاد، وذلك عشية إعلان قائد الجيش الجنرال مين أونغ هلينغ الذي يُعد الشخصية الأكثر نفوذاً في ميانمار، أن الدستور يمكن "إبطاله" في ظل ظروف معينة، على الرغم من إصدار لجنة الانتخابات بياناً قالت فيه، إن الاقتراع كان حراً ونزيهاً وذا مصداقية وعكس "إرادة الشعب"، نافية مزاعم التزوير الانتخابي، لكنها أقرت بوجود "ثغرات" في قوائم الناخبين في عمليات اقتراع سابقة، وأعلنت أنها تحقق حالياً في 287 شكوى.
وسريعاً ومع تطور الأحداث، ووفق ما نقله موقع "فايس"، فإن الأجواء العامة في الشوارع البورمية خلال الأيام الماضية كانت تشي بأن "شيئاً كبيراً" قد يحدث، بسبب الانتشار الكثيف للعربات العسكرية في العاصمة والمواقع الرئيسة. ليستيقظ العالم اليوم الاثنين على إعلان الجيش البورمي اعتقال سو تشي الحائزة جائزة نوبل للسلام، وكذلك رئيس الجمهورية وين ميينت، معلناً تسليم السلطة لقائد الجيش مين أونغ هلاينغ (كان يدير القيادة العسكرية النافذة في رانغون ويشغل منصب نائب الرئيس الحالي)، وفرض حالة الطوارئ لمدة عام، وعين جنرالات في المناصب الرئيسة، وهو الأمر الذي لاقى انتقادات دولية واسعة.
تاريخ طويل من الحكم العسكري
لميانمار تاريخ طويل من الحكم العسكري منذ استقلالها في العام 1948، وبحسب ما يشير إليه موقع "فاكت بوك"، يحكم الجيش رسمياً تلك الدولة الواقعة في جنوب شرقي آسيا، منذ عام 1962 بعد قيام الجنرال ني وين بالانقلاب العسكري الأول، إذ ظلت المؤسسة العسكرية والمجلس العسكري الحاكم يحكمان البلاد منذ ذلك الوقت، ليتم بعد ذلك إعلانها جمهورية اشتراكية ترأسها ني وين عام 1974.
ووفق صحيفة "نيويورك تايمز" الأميريكية، فقد برر الجيش البورمي أول انقلاباته في العام 1962، بأنه "ضروري للحفاظ على اتحاد ميانمار، كما كانت البلاد تُعرف آنذاك، موحدة في مواجهة تمردات عرقية في المناطق الحدودية. وعانت الأقليات، التي تشكل نحو ثلث سكان البلاد، اضطهاداً واسعاً خلال الحكم العسكري".
إلا أنه وعلى مدار عقدي الحكم العسكري الأولين، تزايدت تدريجياً حركات المعارضة المدنية، إلى أن وصلت ذروتها في العام 1988، حيث شهدت البلاد احتجاجات واسعة النطاق مارس فيها الرهبان دوراً رئيساً، وذلك بسبب تدهور الأحوال الاقتصادية، غير أن قوات الأمن ردت على تلك الاحتجاجات بمذبحة دموية قتل فيها عدد كبير من المتظاهرين.
وفي الانتخابات التشريعية عام 1990 حصلت الرابطة الوطنية للديمقراطية، وهي حزب المعارِضة أونغ سان سو تشي على أكثر من 80 في المئة من الأصوات، لكن الحكام العسكريين أجهضوها، وقام الجنرال ساو ماونج بالانقلاب الثاني عام 1990، وأسس "مجلس استعادة النظام وقانون الدولة" الذي فرض الأحكام العسكرية بشكل مؤقت، حيث رفض المجلس نتيجة الانتخابات وأُلغيت، ولم يسمح لزعيمة المعارضة بتولي الرئاسة. وظل المجلس يحكم الدولة ليُغيَّر اسمه عام 1997 إلى "مجلس الدولة للسلم والتنمية".
ومن تبعات انتخابات 1990، وضعت سو تشي الحائزة نوبل في السلام عام 1991، تحت الإقامة تحت الإقامة الجبرية التي قضت فيها فترات متفاوتة وطويلة، وطوال السنوات التي تلتها لم تتمكن المساعي الدولية من تقريب وجهات النظر بين العسكريين والمدنيين، كما فشلت كذلك الجهود الأممية في إحداث أي تغيير في مواقف المؤسسة العسكرية، ما دفع الخارجية الأميركية إلى تصنيف النظام العسكري في ميانمار للمرة الأولى في فبراير 2005 على لائحة الأنظمة الدكتاتورية.
ومع اقتراب العقد الأول من الألفية الجديدة على نهايته، بدت مشارف "انفراجة ديمقراطية" وتقاسم للسلطة مع المدنيين تلوح في الأفق، مع تحرك الجيش لصياغة دستور جديد في البلاد عام 2008، وضع فيه نفسه كحام للوحدة الوطنية والدستور واحتفظ كذلك بدور دائم في النظام السياسي، إذ يمتلك حصة نسبتها 25 في المئة من مقاعد البرلمان لا تخضع للانتخابات، كما أنه يسيطر على وزارات الدفاع والداخلية والحدود بما يضمن له دوراً مهماً في الحياة السياسية.
وعليه نص الدستور على أنه لا يحق للقائد العام للجيش أن يتولى السلطة إلا في ظروف استثنائية، يمكن أن تفضي إلى "تفكك الاتحاد وتفكك التضامن الوطني وفقدان السلطة السيادية"، على ألا يحدث ذلك إلا في حالة الطوارىء التي يمكن فقط لرئيس مدني أن يعلنها. وعليه سلم الجيش السلطة للمدنين تدريجياً في ثلاثة أعوام، كانت تحديداً في العام 2011.
ومنذ انتصار حزبها في العام 2015، تشغل أونغ سان سو تشي منصب "مستشارة الدولة" الذي خُلق خصيصاً لها، كي تتمكن من ترؤس الحكومة بحكم الأمر الواقع، وذلك بعد أن تضمن الدستور مادة تمنع المواطنين المتزوجين من أجانب من أن يصبحوا رؤساء. ويقول محللون إن هذه المادة أُدرجت في الدستور لمنع سو تشي وهي أرملة بريطاني، من الوصول إلى منصب الرئيس.
جدلية العلاقة العسكرية المدنية في ميانمار
على الرغم من التوافق الهش بين العسكريين والمدنين على تقاسم السلطة في البلاد، إلا أن علاقات الطرفين بقيت في طي التوتر، وبحسب ما نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، حاولت حكومة أونغ سان سو تشي مراراً تغيير وضع "الجيش في الحياة السياسية" في البلاد، وذلك عبر فتح النقاش بشأن تغير تلك المواد الدستورية "المثيرة للجدل"، التي تعطي للجيش الحق في السيطرة على ثلاث وزارات أساسية هي الداخلية والدفاع والحدود، ما يضمن للمؤسسة العسكرية أن تكون لديها سيطرة جزئية على السياسة البورمية، وهو ما جعل العسكريين غير راضين على الإطلاق لاحتمالات "فقدانهم التدريجي السيطرة على الحياة السياسية".
وخلال السنوات الأخيرة لم يخف حزب الرابطة الوطنية للديمقراطية الحاكم نواياه بشأن رغبته تعديل الدستور وإجراء تغييرات، وهو ما كان يصر الجيش على رفضه، معتبراً أنه "جزء أساس" من الأمن، في بلد تملأه الجماعات العرقية المسلحة.
ويقول رومان كايو، وهو باحث في "برنامج دراسات ميانمار" في "معهد دراسات جنوب شرقي آسيا" في سنغافورة، لتلفزيون "دويتش فيليه" الألماني، إنه "بعد 10 سنين على بدء التحول الديمقراطي، تواجه البلاد انتكاسة كبرى"، مقارناً الأحداث الأخيرة بقمع الجيش بانتفاضة قادها طلاب، في عام 1988، قائلاً، "ستكون العواقب وخيمة. هذا عالم مختلف عن عام 1988، مع العولمة، ومواقع التواصل الاجتماعي، وفيروس كورونا المستجد، وإدارة أميركية جديدة، وطموح الصين في قطاع البنية التحتية. وسيكون رد الفعل عنيفاً ضد جيش ميانمار".
من جانبه، وبحسب جون سيفتون، من "هيومن رايتس ووتش"، فإن "المجلس العسكري الذي حكم ميانمار طيلة عقود، لم يبتعد عن السلطة في المقام الأول"، موضحاً وفق ما نقلت عنه صحيفة "الغارديان" البريطانية، "لم يخضعوا أبداً للسلطة المدنية في المقام الأول، لذلك فإن أحداث اليوم بمعنى ما، تكشف فقط عن حقيقة سياسية كانت موجودة بالفعل". ويرجع كثير من المراقبين التوترات بين الحكومة المدنية والجيش إلى الهيكل الدستوري لسياسة ميانمار.
وبحسب "وول ستريت جورنال"، فإن "النتائج الهزلية التي حققها حزب الاتحاد للتضامن والتنمية، المدعوم بقوة من الجيش، فاقم من تأجيج الانقسام المدني العسكري في البلاد، بعد أن أوضح للقادة العسكريين أن هناك احتمالية بتقليص دور الجيش في السلطة التشريعية للحكومة، ما يزيد بالتبعية من احتمالات إجراء إصلاحات دستورية من شأنها أن تفاقم من تآكل نفوذه، وتعزز تصميم الرابطة الوطنية للديمقراطية على أن لديها تفويضاً انتخابياً للحكم وفقاً لشروطها الخاصة".
ووفق منظمة "هيومان رايتس ووتش"، المدافعة عن حقوق الإنسان، فإن المادة التي تضمنها الدستور البورمي عام 2008، بشأن قدرة الرئيس في حالة طوارئ وطنية، إصدار مرسوم طوارئ لتسليم قائد الجيش السلطة التنفيذية للحكومة، والصلاحيات التشريعية والقضائية، بالتنسيق مع "مجلس الدفاع والأمن الوطني" الذي تهيمن عليه المؤسسة العسكرية، كانت بمثابة "آلية انقلاب في الانتظار".