Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"نوتردام" تهيج أحزان العرب على "حدباء الموصل" وأخواتها

فاجعة فرنسا ذكّرت بحرائق دور "العبادة" وجرائم الإنسان في حقها

منارة حدباء الموصل كانت من أهم المعالم التاريخية التي دمرها داعش (رويترز)

أشعلت ألسنة اللهب في باريس ليس كاتدرائية نوتردام وحسب، ولكن أيضاً قلوب من كل القارات والأديان، طبعها الحزن إثر خسائر الجوهرة الباريسية، التي شغفوها حباً بفعل سحر لسانها الخلاق "فيكتور"، الذي بثّ روح "نوتردام" في المعمورة جمعاء، حتى استحالت كمثل "ليلى العرب" يدعي الكل وصلها، فيما تخص هي من تشاء بذلك الشرف أو تمنع.

ومع أن باريس أُدميت مقلتها منذ أشهر، عندما استباح رجال "السترات الصفراء" قوس نصرها، إلا أن الكثيرين ظنوا أن "قلبها المقدس" محرم على العبث، فمن يقدر على غضبة العالم باستهداف محظية "أحدب نوتردام"، غير أن فجائع الطبيعة وأخطاء البشر غير الجنائية مثل "حوادث السير"، لا تزال تلحق أضراراً بالأنفس والممتلكات أشد فتكاً.

وفي حديث أحد سكان باريس القدامى مع "إندبنت عربية"، أوضحت المهندسة الدكتور نسيمة الرحيلي أن الاختصاصيين في الفن المعماري، خصوصاً من وقف منهم مباشرة على "الكاتدرائية" ذات يوم، يدركون حجم الخسارة الفنية البالغة التي لحقت بالتراث الإنساني في الفاجعة التي وقعت، إذ حتى ترميم هذا النوع من الكنوز الفنية قد يستغرق في التقديرات الأولية ما بين 10- 20 عاماً، حتى يكون بوسع أبنائنا أن يحظوا بمتعة مشاهدة تلك التحفة مثلنا!

كنوز لا بواكي لها ولا "هوغو"

العرب الذين ربطهم تاريخ قديم بباريس ومفاتنها، على الرغم من حضورهم على مائدة الحزن العالمية على "نوتردام"، إلا أنهم يزيدون على غيرهم بأن ذكّرتهم بمواجع أخرى لحقت فيها الخسائر بمقدساتهم ومآذنهم وصلبانهم وكنائسهم في العراق وسوريا وفلسطين ومصر، غير أنها لا بواكي لها يوم العدوان عليها، أو طواها النسيان، على طريقة شاعرهم القديم "بكت (بعدي) فهيج لي البكاء بكاها".

وهكذا غدا الحزن في اتجاهات عدة، وأخذ اللوم العربي طرائق قدداً، هل نحو مبدعيهم لأنهم لم يخلدوا في آدابهم كنوزاً في أرضهم أقدم من "نوتردام" ليشاركهم العالم حسرة عدوان الطبيعة والإنسان عليها، أم نحو سياسييهم ووجهاء العالم ممن جادوا بالدموع لأنها باريس وليست دمشق حيث المنارة الأموية، أو الموصل التي فقدت هي الأخرى منارتها الحدباء؟

عراقية تبكي "حدباء الموصل"

بينما اتجه شق من الرثاء إلى تقريع المنظمات المتشددة والإرهابية مثل طالبان والقاعدة وداعش والحشد الشعبي، داعينها إلى الاتعاظ بالفرنسيين، فبينما هم يقدسون كنوزهم التراثية والدينية، إذا بطالبان تهوي على تماثيل بوذا هدماً وتفجيراً، وكذلك فعلت داعش نحو آثار تدمر السورية والموصل العراقية، التي أطل منها خليفة داعش البغداي، وزعم العراقيون أنها التي فخخت المئذنة الحدباء بعد محاصرتها، بينما ترى طائفة من العراقيين أن الطائفيين المشاركين في الحرب على داعش هم الذين استهدفوا المنارة بوصفها رمزاً للسُنّة في البلاد في إطار المشاحنات الطائفية بين السُنّة والشيعة في العراق. وهو ما تنفيه الحكومة العراقية.

الكيل بمكيالين حتى في "الأحزان"

ويقول الكاتب المغربي صلاح وديع إنه يلاحظ مثل غيره أن العالم سرت فيه موجة حزن وتأثر مشروع ، "فتحدث رؤساء الدول والفنانون والكتاب والمبدعون. تضامنوا وحزنوا ولهم الحق في ذلك ولنا الحق نحن الآخرون ولو أننا غير فرنسيين وغير أوربيين وغير مسيحيين، لكوننا ننتمي إلى البشرية ونحب تراث البشرية وفنونها المختلفة وشواهدها على العراقة وعمق الانتماء للحضارات المتعاقبة".

لكنه اعتبر ذلك الحزن المشروع، في مقالة كتبها على "هسبريس" المغربية مدعاة لتذكر "مجريات الدمار الذي لحق مآثر مملكة (تدمر) الرومانية في سوريا بفعل جرائم داعش، وما جرى من سرقة ونهب يفوق كل تقدير في متاحف بغداد بعد الغزو الأميركي الخارج عن الشرعية الدولية، ومن نهب لمكتبة الشاعر أبي نواس في بغداد ومن دكٍّ لكنائس الموصل ومن تلف وسرقة للوحات المسمارية الأولى التي أعلنت دخول البشرية كلها مضمار الحضارة منذ آلاف السنين، ثم ما جرى خلال الحرب الأهلية في سوريا لمآذن دمشق من دكّ تحت الدمار وللجامع الأموي في حلب وسوق المدينة المسقف بها وكاتدرائية (أم الزنار) التي يعود تاريخها إلى فجر المسيحية في سنة 59 ميلادية وقلعة صلاح الدين وقلعة الحصن، وما لحق تماثيل بوذا من تدمير على يد طالبان، ناهيك بما جرى في اليمن السعيد".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضاف في تعليقه على الحادثة، قائلاً "تذكرت كل ذلك، لا لأسحب مسؤولية العقلية القروسطوية المتخلفة التي تعادي العلم والمعرفة والفن والإبداع بيننا بدعاوى دينية والتي بررت وشاركت في الدمار الذي لحق بكل هذه المآثر، ولكن لأقف على الكيل بمكيالين حتى في لحظة التأثر أمام الكوارث التي قد تلحق المآثر التاريخية. فإذا كان حريقٌ واحدٌ لمأثرة تاريخية حقيقية– نوتردام دو باري– قد أثار كل هذا الحزن المشروع، أفلا تستحق معالم حضارتنا في هذا الجزء الذي لنا من جغرافيا العالم، ألا تستحق حزنا مشابها من طرف أقوياء اليوم؟".

ولم يكن "وديع" الوحيد الذي شارك في هذا النوع من المقارنة، إذ حشد عدد من العرب التعليقات، ليس للاعتراض على فيض المشاعر نحو حريق الكاتدرائية، ولكن غيرة منهم على غياب مثلها نحو مآثر أخرى عربية، لحق بها المصير نفسه، كما تقول إحدى الشاعرات الجزائريات.

ومع أن أدباء عرباً كثراً خلدوا غرراً قصائد وكتباً في إعلاء قيمة الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريفين والأقصى، أمثال الشاعر السعودي طاهر زمخشري والفلسطيني محمود درويش، إلا أنهم نسوا فيما يبدو كل ذلك في لحظةٍ غلبت فيها العاطفة، وأثار فيها "أحدب نوتردام" غبطتهم، لدرجة أن معلقاً سعودياً تساءل أين كل هذا التعاطف الذي وجدته الكاتدرائية يوم استهدف مليشيا الحوثي مكة المكرمة، أقدس بقاع الأرض لدى المسلمين، ويطرح آخر من فلسطين تساؤلاً مشابهاً يوم حريق مسجدها على يد إسرائليين، في إطار الصراع الدائر هنالك.

الصحافي السعودي محمد العرفج تناول القضية من زاوية أخرى، معتبراً أن "انشغال وبكاء العالم بكاتدرائية نوتردام مرده إلى القيمة الروحية والهالة التي أصبغها الأدب الفرنسي، وبخاصة الرواية، انظروا إلى الأدب كيف صنع، ليس في الفرنسيين أنفسهم بل في العالم أجمع، الذي ترجمت تلك الآداب إليه. رسالة إلى وزارات التعليم والإعلام والثقافة التي ظلت نائمة عن الترجمة"، على حد قوله.

"أهيم بروحي على الرابية" للزمخشري

وسوى هذا السجال الذي استصحب حساً شائعاً بين المعلقين العرب، استدعت كارثة الكاتدرائية فجائع للطبيعة والإنسان كانت الكنوز الأثرية ودور العبادة ضحاياها، في مثل حادثة غرق الكعبة المشرفة واستهداف تنظيم جهيمان المتشدد لمحيطها، والعدوان على المسجد الأقصى قبل عقود وحريق كنيسة القديسة دميانة في مصر وغيرها.

 أما الحريق الأكثر شهرة ورعباً، فهو الحريق الثاني الذي اشتعل في المسجد النبوي الشريف قبل قرون، وتحدث رواية تفاصيله حتى اليوم وجلاً في نفوس المسلمين في العالم، بوصفه اقترب كثيراً من قبة النبي عليه السلام، وجسده الشريف، لولا أن العناية الربانية حالت دون ذلك.

هكذا كان حريق المسجد النبوي

ويروي الأكاديمي السعودي من أهل المدينة، فهد الوهبي، ذلك المشهد في حديث مع "اندبندنت عربية"، قائلاً " أما الحريق الثاني فقد وقع أول الثلث الأخير ليلة 13 / 9 / 886هـ ويتفق مع الحريق الأول في شهر رمضان، وسببه أن سماء المدينة كانت ملبدة بالغيوم وحصل رعد شديد قاصف أيقظ النائمين من قوته، وصعد رئيس المؤذنين للمنارة الشرقية الجنوبية المعروفة بالرئيسة يهلل على عادتهم ذلك الوقت. وصعد المؤذنون بقية المنائر فسقطت صاعقة أصابت هلال المنارة الجنوبية الشرقية فسقطت في المسجد ولها لهب".

 بعد ذلك يقول الوهبي "انشق رأس المنارة بسبب الصاعقة وتوفي رئيس المؤذنين صعقاً وفقدوا صوته فنادوه فلم يجب، فوجدوه ميتاً. وأصاب ما سقط من الصاعقة سقف المسجد بين المنارة والقبة فحدث ثقب كالترس واشتعل سقف المسجد. فتح الخدام المسجد قبل الوقت المعتاد ونودي بالحريق وجاء أمير المدينة واجتمع الناس وجمعوا المياه. التهب السقف سريعاً واتجه نحو الشمال والغرب وعجز الناس عن إطفاء الحريق وكلما حاولوا تزداد التهابا. حاول الناس قطع النار بهدم بعض السقف أمامها فسبقتهم لسرعتها وتطبق المسجد بدخان عظيم فخرج الناس منه. وكان بعض الناس بسطح المسجد للإطفاء فحاصرتهم النار فهربوا تجاه الشمال وسقط بعضهم فيها فهلك".

 لحقت خسائر في الأرواح والمسجد كبيرة، فمات بسبب الدخان صدر المدرسين الشمسي محمد بن المسكين واحترق بعض الخدام منهم نائب خازن دار الحرم، ومات جماعة تحت هدم الحريق من الفقراء وجملة من مات بسبب ذلك 17 نفساً وأصاب الناس هلع شديد بسببه.

 ووصف المؤرخون هذا الحريق وصفاً هائلاً مخيفاً، من ذلك أنها صارت كبحر لجي من نار ولها شعب في الجو، فقال الشمس العثماني "وصار لجميع المدينة من جميع جهاتها بالبكاء ضجيجٌ، وبالدعاء عجيج" بسبب النار، والخوف على نبيها.

  وقال "وأمر هذه النار عجيب وليس الخبر كالمعاينة وصار المسجد كالتنور"، فيما قال المؤرخ السمهودي "حصل لأهل المدينة الشريفة من الدهشة العظيمة والحيرة لما شاهدوا من هول هذه النار ومنظرها الفظيع".

وكان الحريق أذاب بسبب الحريق الرصاص وسقط كثير من أساطين (أعمدة) المسجد وعدة ما سقط منها مئة وبضع وعشرون أسطوانة.

لكن السلطات التركية في ذلك الحين، وبعدها السعودية، عملت على تشديد الاحتياطات الأمنية حول القبة الشريفة، وتأمينها والمسجد برمته بأنظمة مكافحة الحرائق عالية الكفاءة، وكذلك المسجد الحرام في مكة، كما قامت بتقديم منحة للأزهر الشريف أخيراً لتجهيزه بأنظمة حماية من الحريق، ضمن برنامج ترميم واسع.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي