Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فن غوستاف كليمت على ضوء المكتشفات الفرعونية الجديدة

ما الذي تخفيه تلك اللوحات التي صوّرت نساء مجتمع فيينا؟

تنتمي أعمال غوستاف كليمت الأولى إلى مدارس أكاديمية متنوعة (غيتي)

قد يبدو الأمر غريباً إلى حد ما، لكنه من الناحية البصرية بدا واضحاً. إذا كان ثمة فنان أتت المكتشفات الأثرية التي أعلنها في مصر خلال الأيام السابقة لتذكّر به، فلا شك أن هذا الفنان هو النمساوي غوستاف كليمت، الذي لا يمكن إلا ملاحظة التشابه إلى حد التطابق، بين "موتيفات" أساسية في كثير من لوحاته، لا سيما البورتريهات منها التي اشتغل عليها طوال فترة طويلة من مساره المهني، وبين الأشكال المرسومة منذ أيام الفراعنة على الأقمشة وسواها من المواد التي لُفّت بها المومياوات المكتشفة، التي عُرضت على شاشات العالم كافة.

استلهم أي شرق؟

صحيح، أنه كثيراً ما قيل إن كليمت استقى "موتيفاته" وربما أيضاً علاقة شخصيات تلك اللوحات بالبيئة المحيطة بها من الشرق، لكن الشرق الذي بدا معنياً دائماً، إنما كان الشرق الآسيوي البعيد. أما هنا على ضوء الاكتشافات الفرعونية الجديدة، فيبدو أن ذلك "الشرق" المعني قد اقترب كثيراً، بحيث بات الأمر في حاجة إلى إعادة نظر تسبر أغوار علاقة كليمت بالفنون الفرعونية، لا سيما في استعادة عنصر الموت الذي دائماً ما لوحظ في لوحاته واحداً من مواضيعه الأساسية.

وبالفعل كثيراً ما لاحظ الباحثون نوعاً من الهيمنة لأبعاد تتعلق بالموت في عدد من لوحات كليمت، بما فيها تلك البورتريهات التي رسمها لسيدات من المجتمع، كنّ معروفات وعلى قيد الحياة في زمنه، لكنهن ظهرن في اللوحات أشبه بغائبات عن الوعي، ضائعات النظرات إلى حد التلاشي، وربما كان ذلك عفوياً لدى الرسام في تعبيره الصادق عن نظرته.

أسئلة برسم حيوية ما

مهما يكن، من المؤكد أن ثمة واحدة من لوحاته الأساسية في هذا السياق، قد لا يمكن أن نحمّلها ذلك البعد من ناحية النظرة، كما من ناحية الحيوية التي تسم ملامح السيدة المرسومة فيها، ونعني بها هنا لوحة "بورتريه فريتزا ريدلر" التي رسمها كليمت عام 1906، وتوجد اليوم في غاليري "أوستريشيتشه" في فيينا. وتنتمي هذه اللوحة إلى سلسلة لوحات مشابهة رسمها كليمت في تلك المرحلة الناضجة من مساره الفني، وهي تتشابه مع تلك اللوحات التي أشرنا إليها، لكن الغريب في أمرها أنها تبدو في جزء أساسي منها وكأن قماش الكنبة فيها يتشابه كثيراً مع القماش الفرعوني الذي أشرنا إليه، بل إن "موتيفة" القماش نفسها نجدها تستخدم في الجدار خلف رأس السيدة مرسومة بشكل تبدو معها وكأنها تلك الهالة التي تحيط عادة برؤوس القديسين في لوحات عصر النهضة الدينية، والأيقونات المسيحية بصورة عامة. فهل يمكننا القول إن هذا كان مقصوداً، ويجوز اعتباره تدخلاً ذاتياً من الفنان في لوحة يُفترض بها أن تكون موضوعية؟

لا يمكن طبعاً الإتيان بجواب قاطع هنا، لكن في مقدورنا أن نراكم من الملاحظات الأخرى المتعلقة باللوحة نفسها، التي يمكن أن تنطبق على عدد من لوحات أخرى مزامنة لها، مما يدفع إلى التساؤل حقاً عن "موضوعية" تلك اللوحات، وربما كذلك عن انتمائها من ناحية ما إلى التعبير عن الموت الذي نعرف أنه طبع فن كليمت قبل تلك المرحلة وبعدها.

ولنتأمل شحوب بشرة السيدة، لا سيما في علاقته بالمكان الذي يبدو بلا مخرج، محيطاً بالسيدة الجالسة كنصب احتفالي في نوع من "استسلام" غريب، وهي تنظر إلى ما يشبه اللانهاية من خلال نظرتها إلى الرسام، وعبره إلى من ينظر إلى اللوحة.

ذلك الكابوس السعيد

واضح أن تلك الفرضيات كان من الصعب الغوص فيها لولا الفرصة التي أتاحها مرأى المومياء الفرعونية، واستعادة حكاية الشرق الذي استلهمه كليمت، علماً أن هذا قد يبدو طبيعياً على ضوء انتماء لوحات كليمت عموماً إلى ذلك "الكابوس السعيد" الذي ارتبط بفيينا أوائل القرن الـ 20.

 

 

فإذا كانت فيينا وصفت عند بدايات القرن الفائت بأنها مدينة "الكابوس السعيد"، فإن نظرة نلقيها اليوم على العدد الأكبر من رسوم الفنان غوستاف كليمت تكفينا لإيجاد أكثر من مبرر لتلك التسمية، ولئن كان ثمة على الدوام احتجاج على لوحات كليمت في أيامنا هذه بسبب ما يراه البعض من بعد إباحي فيها، فإن الاحتجاج في تلك الآونة كان يطاول هذه اللوحات وغيرها من الجدرانيات، بسبب الطابع التشاؤمي الذي كان يطبعها.

فالحال أن حساسية الفنان المرهفة لدى كليمت، وأيضاً لدى عدد من رفاقه من فناني مدرسة "فصيل فيينا" التي انشقت عن الفن الأكاديمي، جعلت كليمت وأولئك الرفاق يرون الكارثة المقبلة، وأن فيينا التي كانت في ذلك الحين عاصمة لواحدة من أكبر إمبراطوريات الكون وأكثرها ازدهاراً، مقبلة على انحدار ما بعده انحدار.

الفن يواكب الانحدار

إذاً، ما عبّر عنه كليمت كان ذلك القلق وذلك الانحدار، ومن هنا لئن كان نقد شديد وُجه في ذلك الحين إلى فنه وفن رفاقه، فإن التاريخ عاد بعد سنوات قليلة ليثبت أنهم كانوا محقين في تشاؤمهم، ومع هذا فإن نظرة سريعة إلى لوحات كليمت ستضعنا في مواجهة عمل يبدو تزيينياً مزدهر الألوان، بل إن استخدام كليمت للون الذهبي في عدد كبير من لوحاته يبدو محيّراً.

غير أن تجاوز تلك النظرة السريعة سيضعنا أمام رؤية مختلفة تذكر بأعمال بروغل الكبير، حين يخفي جو الاحتفال والزينة، موتاً على الوجوه وكارثة متوقعة.

إذا كان التشاؤم والموت في لوحات كليمت جاءا من واقع الحال في فيينا وإمبراطوريتها الغاربة، مما أسس بعد ذلك لأحداث القرن الـ 20 المرعبة، فإن البعد التزييني أتى من لوحات كليمت، من واقع أنه أوّل ما درس فن الرسم درسه في "أكاديمية فيينا لفنون الزينة"، التي تركها بعد سنوات دراسته وهو في الـ 21، ليفتتح أستوديو مستقلاً متخصصاً في تنفيذ الرسوم الجدرانية، وظل يشتغل على تلك الرسوم حتى أيامه الأخيرة حين مات العام 1918، وإن طغى على فنه طابع شخصي كئيب بعد أن ساده في البداية طابع أكاديمي تزييني.

أحزان نهاية قرن

ولد غوستاف كليمت عام 1862 في فيينا التي سيموت فيها نمساويّ الهوية، حتى وإن كان ألماني الأصل. أما أعماله الأولى فكانت تقليدية تنتمي إلى المدارس الأكاديمية المتنوعة، إذ إن التجديد الثوري لديه سيأتي متأخراً. ومن أعماله الكلاسيكية المدرسية رسوم تزيينية لا تزال توجد حتى اليوم، يمكن بالكاد التعرف إليه كرسام لها، في مبنى مسرح فيينا البلدي وفي جدران سلالم متحف تاريخ الفن في المدينة نفسها، وهي أعمال نفذها قبل العام 1888.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التجديد في أسلوب كليمت جاء في 1897 مع اقتراب القرن من نهايته، إذ إنه في ذلك العام أسس ما يسمى بـ "فصيل فيينا"، ويضم مجموعة رسامين ثاروا ضد الفن الأكاديمي، ورجحوا كفة فن تزييني الشكل ينتمي إلى تيار ما كان يسمى في ذلك الحين بـ "الفن الجديد". وفور تأسيسه تلك المجموعة حقق كليمت لوحات رمزية ثلاثية رسمت على سقف إحدى أهم قاعات جامعة فيينا، وكانت تلك اللوحات محط انتقادات من وجد فيها فضيحة حقيقية، أولاً بسبب ما فيها من رمزية إباحية، وثانياً بسبب طابعها السوداوي الكئيب.

وانتهى الأمر برفض اللوحات ولعن رسامها. لكن كليمت لم يأبه لذلك، بل واصل عمله فرسم جدرانية "أفريز بيتهوفن" في متحف النمسا، كما حقق بين الأعوام 1909 و1911 جدرانيات لغرفة الطعام في "بيت ستوكلت في بروكسيل"، وتميزت هذه الأعمال بذلك الطابع الذي حمله أسلوب كليمت منذ ذلك الحين، رسوم خطية لوجوه وأشكال تحيطها هندسة تزيينية شديدة التلوث، ويطغى عليها اللون الذهبي. وهذا هو الأسلوب الذي لم يفارقه كليمت بعد ذلك أبداً، وطغى بخاصة على أشهر أعماله، لوحة "القُبلة" 1908، وسلسلة اللوحات الشخصية التي صور فيها بعض أشهر نساء فيينا في ذلك الحين مثل "فراو فريتزا ريدلر" و"فراو آديل بلوك - باور".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة