Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كأنّ شاعر الشيلي يرثي نفسه والعالم من خلال صديقه

نيرودا بين نشيده إلى لوركا وحسرة كاسترو على "سعره" الباهظ

الشاعر التشيلي صنع من رثاء صديقه الإسباني ملحمة حزينة (غيتي)

ليس من الصعوبة بمكان أن نوافق الزعيم الكوبي الراحل فيديل كاسترو على وصفه ذات يوم للشاعر بابلو نيرودا بأنه "مومس باهظة الكلفة، لا يمكننا السماح لأنفسنا باستخدامها". ومن المعروف أن كاسترو لم يكن يشير بذلك إلى ما يتهم نيرودا بالعمالة "لليانكي" أو "للإمبريالية"، بل لموسكو!

إذ على الرغم من التماثل الأيديولوجي بين زعيم كوبا والقيادة الموسكوفية والشاعر التقدمي المبدع، لم يكن كاسترو ليستسيغ الولاء المفرط الذي كثيراً ما أبداه نيرودا تجاه الستالينية إلى درجة مشاركته أو مجرد سكوته عن العملية التي دبرتها المخابرات الستالينية لاغتيال تروتسكي حينما كان مقيماً في المكسيك.

 من هنا كان كاسترو يرى أن نيرودا تواطأ مع الستالينية أكثر مما يجب. والحقيقة أن كاسترو لم يكن بعيداً من الصواب ولا متجنياً على الشاعر. ولكن ما العمل ونيرودا هو نيرودا؟ ما العمل ونيرودا واحد من أكبر الشعراء الذين انخرطوا في الإبداع التقدمي؟ كان كاسترو يضرب كفاً بكف، ويقول ذلك متحسراً. يقوله ولسان حاله يتمنى لو كان نيرودا أكثر اقتراباً من عبقريته الشعرية، وأكثر ابتعاداً من ابتذاليته السياسية.

حسرة معمّمة

ونعرف أن كثراً من التقدميين في العالم كانوا يشاركون كاسترو حسرته ورأيه. كانوا ينظرون إلى نيرودا كشاعر إنساني كبير يتخطى في شعره الحدود والتفاوت بين البشر، فهو الذي بدأت شاعريته العظيمة تظهر منذ وصوله ذات يوم إلى إسبانيا ليشغل منصباً دبلوماسياً، وكانت إسبانيا تعيش أوج حربها الأهلية، مما نقله فوراً إلى الشعر الإنساني واللغة المقاومة يوم التقى بزميله الشاعر فدريكو غارسيا لوركا، وارتبط معه بصداقة وثيقة.

بعد ذلك بفترة، وحين اغتالت قوات فرانكو الفاشية الشاعر الإسباني الكبير كما راحت تغتال شمالاً ويميناً، لم يتمالك نيرودا نفسه وكتب تلك التي تعتبر واحدة من أجمل وأقوى قصائده: "نشيد إلى فدريكو غارسيا لوركا" التي تُضم عادة إلى مجموعته "إسبانيا في القلب"، لتعتبرا معاً ثاني أكبر أعماله بعد ذلك "النشيد الشامل" الذي كرسه لوطنه الشيلي.

لو كنت قادراً على البكاء

في مستهل تلك القصيدة الرائعة إلى لوركا كتب نيرودا، "لو كنت قادراً على البكاء في بيت مهجور/ لو كنت قادراً على انتزاع عينيّ وأكلهما/ لفعلت من أجل صوتك/ صوت البرتقالة لابسة الحداد/ ومن أجل شعرك الذي يتدفق دماً".

وتابع، "عندما تطير مغطى بالدرّاق/ عندما تضحك ضحكة الرز الغاضب/ عندما تنحني لتغني الشرايين والأسنان/ الحنجرة والأصابع/ أموت فدى عذوبتك/ أموت قرباناً لبحيراتك الحمر/ حيث تعيش وسط الخريف/ أموت فدى للمقابر التي تمر كأنهار رمادية مصبوغة بالماء والقبور/ ليلاً بين الأجراس الممزقة، أنهار كثيفة كعنابر النوم لجنود مرضى يصعدون بغتة نحو الموت/ بأرقام من مرمر/ وأكاليل فاسدة/ وزيوت مأتمية/ أموت كي لا أراك ليلاً/ ترقب مرور الصلبان الغارقة واقفاً تبكي/ لأنك في مواجهة الموت تبكي بوله بألم/ تبكي وأنت تبكي وعيناك مليئتان بالدموع/ بالدموع/ بالدموع".

اكتساب وعي سياسي

ومن المعروف أن نيرودا كتب قصائد "إسبانيا في القلب" ولا سيما قصيدته البديعة والأليمة "نشيد إلى لوركا"، على وقع انخراطه في الحرب الأهلية الإسبانية، إلى جانب القوى الجمهورية والتقدمية، وذلك حين كان مقيماً في إسبانيا، برشلونة ثم مدريد، عاملاً في السلك القنصلي. وكان قبل ذلك تنقل بين مدن عدة، منها رانغون وكولومبو وكلكتا، وجاوا حيث تزوج في العام 1930، ثم سنغافورة ليصل بعد ذلك إلى إسبانيا.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وهناك كانت ارهاصات الحرب الأهلية بدأت، وبالتواكب كانت بدأت تختمر إرهاصات الوعي السياسي لدى نيرودا، لا سيما حين اندلعت الحرب الأهلية بالفعل وكان صديقه الشاعر لوركا، من أول ضحاياها الكبار.

نيرودا نفسه يروي لنا كيف أثر فيه اغتيال لوركا، الذي كرس له أكثر من قصيدة في "إسبانيا في القلب". يقول، "فدريكو غارثيا لوركا لم يعدم رمياً بالرصاص، بل اغتيل. بديهياً ما كان يمكن أن يخطر في بال أي منا أن الفاشيين سيقتلونه يوماً. ما كان لهذه الفكرة أن تداعبنا، فهو من بين الشعراء الإسبان، الشاعر المحبوب أكثر من غيره، ببهجته الدائمة وطلّته الطفولية. ترى من كان ليعتقد أن ثمة فوق البسيطة، ولا سيما فوق أرض إسبانيا، مردة من المسوخ القادرين على ارتكاب جريمة بشعة تعصى على التفسير مثل هذه؟ إن وقوع تلك الجريمة كان، بالنسبة إليّ أكثر فصول ذلك الصراع الإسباني الطويل مدعاة للألم".

كأنه ابن إسبانيا

انطلاقاً من تلك الجريمة، استل نيرودا قلمه وسط المعركة وراح يتذكر ويكتب، واصفاً إسبانيا التي كانت دائماً ساحة للصراع بأنها "أرض تغطيها سيول من الدماء. ها هي اليوم حلبة مصارعة الثيران بقرابينها الضحايا، بأناقتها الوحشية، تعيد ذلك الصراع الطويل والدائم بين النور والعتمة".

 ويتذكر أيضاً "فراي لويس دي ليون تسجنه محاكم التفتيش، كيبيدو يموت في زنزانته سجيناً، كريستوف كولومبوس يسير الهوينا والسلاسل في قدميه". أما المشهد الأعظم والأكثر كآبة ووحشية فهو ذاك الذي يصور الكهف المملوء بالعظام البشرية في الإسكوريال، وقد أضحى نصباً تذكارياً للشهداء، "حيث الصليب يعلو فوق مليون من الأموات وفوق ذكريات مظلمة لا حصر لها".

تلك هي الصور التي حركها مقتل لوركا في مخيلة بابلو نيرودا، فكانت وكان استخدامها في مجموعته علامة أولى وأساسية على اكتسابه أقصى درجات الوعي السياسي. وكانت النتيجة أن تنبهت الحكومة الشيلية التي كان نيرودا يمثلها في إسبانيا إلى نشاطه السياسي في الدفاع عن الجمهوريين، فقررت إبعاده من منصبه الديبلوماسي الذي كان يسهل له التحرك بحصانته.

وهكذا يقول، "ما إن طبع ديواني وجُلّد حتى كانت هزيمة الجمهوريين بدأت تتسارع في وتيرتها، وامتلأت الدروب التي تؤدي إلى خارج إسبانيا بمئات الألوف من الهاربين". ومع هذه الحشود، كما يخبرنا نيرودا نفسه، "كان الجنود الذين نجوا من فرقة الجبهة الشرقية يمضون مهزومين، ومن بينهم مانويل آلتولاغيرا، وفي صحبته الجنود الذين صنعوا الورق في المطحنة ونضّدوا حروف "إسبانيا في القلب" وطبعوه. لقد كان كتابي هذا مفخرة لأولئك الرجال الذين طبعوا الشعر في تحد عجيب للموت، ولقد عرفت أن كثراً منهم آثروا شحن أكياسهم بالنسخ المطبوعة من الديوان، على شحنها بأغذيتهم وملابسهم. وهكذا حملوا الأكياس على أكتافهم وشرعوا في مسيرتهم الطويلة باتجاه فرنسا".

إسبانيا في قلب شيلي

كتب نيرودا طوال حياته مئات القصائد وأصدر كثيراً من المجموعات. ومن بينها ما نال شهرة كبيرة، فنية وسياسية في آن. أما هو فظل يحتفظ في أعماقه بمكانة أساسية ووجدانية لتلك القصائد التي كُتبت تحت وطأة الأحداث، وانطلاقاً من مشاعر نادرة، وهو لم يعتبر أبداً أنه بكتابته قصائد "إسبانيا في القلب"، وبإعادة إصدار المجموعة في باريس، انتهى واجبه تجاه إسبانيا، بل ها هو ينصرف في العاصمة الفرنسية، وإثر اتصالات ملحة مع حكومته، إلى تسهيل انتقال المناضلين الإسبان اللاجئين إلى كثير من دول أميركا اللاتينية، وخصوصاً إلى المكسيك، التي سرعان ما عاد إليها قنصلاً، قبل أن ينتقل إلى القنصلية الشيلية في كوبا، ثم يعود إلى الشيلي لينتخب سيناتوراً على لائحة حزبها الشيوعي، وقد أحاطه المجد ككاتب وشاعر ومناضل، وفي رأي كاسترو، كعميل متواطئ مع الستالينيين!

وبابلو نيرودا (1904 – 1973) شاعر تشيلي الأكبر، استعار اسمه من اسم شاعر تشيلي كبير آخر، ابتداء من العام 1946، أما اسمه الحقيقي فهو ريكارد اليستير نفتالي رييس، وولد في الشيلي لأب يعمل في القطارات. وبدأ كتابة الشعر باكراً متأثراً بعدد من كبار شعراء بلاده، وبعد دراسة جامعية التحق بالسلك الديبلوماسي، مما أتاح له التنقل بين البلدان والقارات. وخلال تجواله ارتبط بصداقات مع كبار الشعراء التقدميين، لا سيما في إسبانيا وفرنسا. ومات العام 1973 في عز انقلاب بينوشيه، بعد فترة يسيرة من مقتل صديقه رئيس الشيلي سيلفادور اللندي.

من أبرز مجموعاته "أحجار السماء" و"الإقامة على الأرض" و"ذكريات الجزيرة الخضراء" وبخاصة مذكراته بعنوان "أشهد أنني عشت".

المزيد من ثقافة