Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"مخرج" الثوار والعسكر و"مأزق" التغيير والتدوير

من المبالغة الاشارة في البيان الأول للمجلس العسكري إلى "اقتلاع النظام" لأن ما حصل هو الاضطرار إلى التخلي عن رأس النظام

جنود سودانيون قرب ساحة التظاهرات في الخرطوم (أ.ف.ب)

"ابريل أقسى الشهور"، كما في قصيدة شهيرة للشاعر ت. س. إليوت. وعلى العكس، فان ابريل (نيسان) الحالي كان في السودان الشهر الذي تفتحت فيه براعم "ثورة ديسمبر" امام مبنى القيادة العامة للجيش. لكن من الصعب في الموجة الثانية من ثورات ما سمي "الربيع العربي" تجاهل سيناريوهات الموجة الأولى التي لم تصبح وراءنا بعد ثماني سنوات بمقدار ما بقيت امامنا ومن حولنا. والقاسم المشترك بينها هو التعرض بشكل أو بآخر الى شيء من "الشتاء الاسلامي" وشيء من "الصيف العسكري". وحده السيناريو التونسي لم يتكرر حيث بقي العسكر خارج اللعبة وجرى التعايش بين تيار الاسلام السياسي وتيار العلمانية والمجتمع المدني. السيناريوهات السورية والليبية واليمنية والعراقية شملت حروباً متعددة الوجوه وأكبر المعارك مع داعش وأوسع تدخل لقوى اقليمية ودولية وتنظيمات متطرفة. السيناريو المصري بدأ بمجلس عسكري استرد "الأمانة" من الرئيس حسني مبارك، ثم سيطر الأخوان المسلمون على السلطة قبل ان يستعيدها الجيش وسط "ملحق" الحراك الشعبي.

الربيع العربي الثاني

الموجة الثانية من "الربيع العربي" في الجزائر كشفت ضعف تيار الاسلام السياسي وتعاظم تيارات المجتمع المدني. وهي في السودان تبدو كأنها خروج من "شتاء اسلامي" طويل على مدى ثلاثين سنة من المشاركة والخلاف بين الدكتور حسن الترابي والفريق عمر البشير. والسيناريو، حتى إشعار آخر، هو: الشعب يثور، والجيش يمسك باللعبة. وليس تاريخ السودان منذ الاستقلال 1956 سوى تناوب بين الحكم المدني والحكم العسكري. الثورة الشعبية الحالية هي الثالثة. وعلى مدى 63 عاماً من عمر الاستقلال، فان فترات الحكم المدني لم تتجاوز 11 عاماً. الحكم المدني الأول دام عامين، قبل ان يسقطه انقلاب الفريق ابراهيم عبود عام 1958. عام 1964 اعيد الحكم المدني بعد ثورة شعبية اسقطت الانقلاب ورفعت شعاراً معبّراً: "الى الثكنات يا حشرات". عام 1969 سقط الحكم المدني بانقلاب قادة من أصبح المشير جعفر النميري. عام 1985 اسقطته ثورة شعبية وتولى السلطة الانتقالية لمدة عام الجنرال سوار الذهب الذي أجرى انتخابات وسلّم السلطة الى المدنيين في الموعد المحدد. عام 1989 استولى على السلطة تيار الاسلام السياسي بقيادة حسن الترابي والضابط عمر البشير الذي قال له الترابي: "انت الى القصر، وانا الى السجن" ضمن لعبة لإخفاء سيطرة الاخوان المسلمين. وفي ابريل 2019 يسترد الجيش السلطة من البشير وسط أكبر ثورة سلمية شعبية.

السودان وفرادته السياسية

لكن "المخرج" الذي فتحته الثورة امام الجيش لا يزال يتضمن نوعاً من "المأزق". فلا الانقلاب العسكري هو انقلاب كامل الأوصاف في الشكل والمضمون، ولا الثورة هي ثورة اكتملت بالقبض على السلطة. في الشكل، لولا الثورة الشعبية لما حدث الانقلاب ولو تنحى البشير عندما طالبه الشعب بذلك لما كان هناك مجال لانقلاب. وفي المضمون، فإن من المبالغة الاشارة في البيان الأول للمجلس العسكري إلى "اقتلاع النظام"، لأن ما حصل هو الاضطرار إلى التخلي عن رأس النظام وبعض معاونيه. شيء تختصره إشكالية التدوير والتغيير. ومن هنا، فان الإنقلابيين لا يستطيعون التصرف كأنهم وحدهم أصحاب السلطة متجاهلين الحراك الشعبي. ولا الثوار وصلوا الى السلطة التي عملوا لإسقاطها بأقدامهم على الأرض ومواجهتهم للعنف وحال الطوارئ. وما يدور حالياً من حوار بين الثوار والمجلس العسكري برئاسته الجديدة محكوم بنوع من التوازن بين قوة الجيش وقوة الشرعية الثورية الشعبية. مطالب الثوار راديكالية: مجلس سيادي مدني بوجود عسكري محدود، حكم ديموقراطي مستدام، حكومة مدنية ذات صلاحيات كاملة خلال 15 يوماً. محاكمة البشير وأعوانه، حلّ حزب المؤتمر الوطني. حلّ الميليشيات والتنظيمات الأمنية الخطيرة التي انشأها النظام من خارج القوات المسلحة والأجهزة الرسمية. وما يقرره ويعد به المجلس العسكري محدود: تجميل سياسي، قرارات تقنية. واستعداد لتشكيل حكومة مدنية يختار الثوار رئيسها والأعضاء، ولكن السلطة الفعلية والسيادة للمجلس العسكري.

والمأزق دقيق: الحكم العسكري ليس حلاً ولو لعامين. والثوار المصرون على استمرار الاعتصام لكي يبقى الحوار على إيقاع القوة الشعبية، يفتقرون إلى آلية متكاملة لتطبيق المطالب الراديكالية. وليس أصعب على العسكر من "احتواء" الثورة الشعبية أو الإلتفاف عليها سوى تحقيق كل مطالبها. وأكبر خطر على الثورة ان يتوسع الخلاف بين اركانها على تكتيك الحوار مع العسكر وبالتالي على مرحلية تحقيق المطالب. فضلاً عن ان اللعبة في السودان ليست، ولم تكن، مجرد لعبة داخلية من دون أدوار خارجية. ومن الوهم تجاهل أمرين: حاجة لاعبين اقليميين ودوليين الى وضع سوداني يحافظون من خلاله على مصالحهم أو أقله لا يشكل خطراً على تلك المصالح. وحاجة السودان الى دعم سياسي واقتصادي عربي ودولي. إذ هو عانى خلال ثلاثة عقود من نظام فعل كل شيء لممارسة السلطة للسلطة فقط: عاش على الأزمات السياسية. ساهم في صنع الأزمة الاقتصادية وتنامي الفساد والسطو على المال العام. خاض حروباً ضد شعبه في دارفور وكردڤان وخسر جنوب السودان والنفط بعد حرب طويلة.  لعب على كل الحبال. وصار رئيسه مطلوباً للمحكمة الدولية، وعندما وجد نفسه محشوراً عيّن رجل الجنجويد والمذابح في دارفور والمطلوب من المحكمة الدولية أيضاً نائباً له ورئيساً لحزب.

لا أحد يجهل بالطبع تحديات الانتقال من نظام سلطوي إلى نظام ديموقراطي. فالتجارب حتى في اوروبا بدت صعبة، وبعضها انتكس كما في حال المجر وبولونيا وبقية البلدان المضروبة بالشعبوية. وفي القرن التاسع عشر قال الكسيس دو توكفيل "ان أخطر شيء بالنسبة الى السلطة التوتاليتارية هو ان تبدأ بإصلاح نفسها".

المزيد من آراء