Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فترات جفاف شديد مهدت لمجاعات وطاعون القرن الرابع عشر في ما يشبه أزمة المناخ الراهنة

وثائق مكتوبة وبيانات علمية تقدم معلومات جديدة عن ويلات تكبدتها شعوب القرون الوسطى في خضم اضطراب الأحوال الجوية قبيل "العصر الجليدي الصغير"

لوحة تعبر عن خيالات الشعوب الأوروبية القديمة عن جائحة الطاعون أو "الموت الأسود" (بيكساباي.كوم)

تحمل وقائع تاريخية وطبيعية شهدتها الأرض والمجتمعات البشرية، على غرار فترة التحول المناخي في القرن الرابع عشر التي تلت قروناً من الطقس الدافئ في أوروبا، ومهدت لما عرف بـ"العصر الجليدي الصغير"، شبهاً واضحاً ببعض مظاهر المناخ الراهنة، وفق ما رأى باحثون.

واستندت الدراسة التي أجراها فريق من العلماء في مدينة "لايبزيغ" الألمانية إلى أبحاث حللت بيانات مادية تتعلق بالمناخ مصدرها حلقات جذوع شجرية وعينات رسوبية، إضافة إلى مدونات تاريخية من ذلك الزمن.

وقد أسهمت تلك البيانات والمدونات في رسم صورة واضحة أظهرت كيفية تبدل الظروف المناخية آنذاك، وتأثير تلك التبدلات على الحياة.

إن الحقبة التي عرفت بـ"حقبة القرون الوسطى الدافئة" التي بدأت قرابة عام 950 ميلادية، ودامت أكثر من 300 عام، رفعت حرارة الجو في أوروبا قبيل فترة انتقالية قصيرة قادت إلى بداية "العصر الجليدي الصغير" الذي انخفضت أثناءه حرارة جو الأرض.

وحين راحت الحقبة الدافئة المذكورة تدنو من نهايتها، حلت في أوروبا بين عامي 1302 و1307 موجات جفاف حادة سبقت مرحلة رطبة وباردة مديدة خلال العقد الثاني من القرن الرابع عشر، وقد أدى ذلك إلى المجاعة الكبرى بين العامين 1315 و1321.

ورأى العلماء أن أحوال الطقس السائدة بين 1302 و1307 تحمل شبهاً مع الأحوال المناخية الشاذة التي شهدناها في 2018، حينما عصفت بأوروبا القارية موجات حر وجفاف استثنائية.

وأوضح فريق العلماء المكون من باحثين من "معهد تاريخ أوروبا الشرقية وثقافتها" ("غويزو" GWZO)، و"معهد الأبحاث التروبوسفيرية" ("تروبوس" TROPOS) في مدينة "لايبزيغ"، أن أحوال الطقس في القرون الوسطى معطوفة على أحوال الطقس التي شهدناها في الآونة الأخيرة، تماثل الأحوال الثابتة في أحوال التي راحت تتواتر مراراً في أوروبا منذ أعوام الثمانينيات من القرن العشرين، بسبب تزايد ارتفاع حرارة القطب الشمالي.

ورأى العلماء أن مراحل انتقالية كهذه يشهدها المناخ تتسم على الدوام بفترات يكون فيها الطقس قليل التنوع، إذ تحافظ حالات الطقس على ثباتها لمدة طويلة من الزمن. وبعد تلك الفترة المتصفة بشيء من الثبات في المناخ وقد وسمها الجفاف، بدأت مرحلة من التحول المناخي السريع قرابة عام 1310.

وأطلق على أنماط الطقس خلال ذلك العقد المضطرب وصف "الانحرافات الدانتية"، نسبة إلى الشاعر والفيلسوف الإيطالي دانتي إليغيري، المشهور بوصفه الساطع للجحيم. واعتبر المؤرخ المناخي نيفيل براون تلك الأحوال المناخية بأنها "دورة إعصارية شبه متتابعة لهواء رطب قطبي المصدر"، فتغدو مشهدية الأرض محاطة بأجواء رمادية ومطر غزير يؤدي إلى فيضانات كبرى وانجراف مساحات من التربة الخصبة.

وقد حلت المجاعة الكبرى (1315-1321) نتيجة لذلك، وقد اعتبرت تلك المجاعة الأكبر في القارة الأوروبية خلال الألفية الماضية. وتبع تلك المجاعة بعد سنوات قليلة "الموت الأسود" (أو الطاعون) (1346-1353)، الجائحة الأشد فتكاً في التاريخ البشري، إذ قتلت نحو ثلث سكان أوروبا، وامتدت لقرون بعد ذلك.

لم تحظَ المادة التي درسها وحللها العلماء، المؤلفة من سجلات أرصاد مناخية، وكتابات ومصادر مفصلة في التاريخ الاجتماعي - الاقتصادي، بالدرس والتدقيق من قبل ضمن سياق واحد. ويرى العلماء [الذين أنجزوا الدراسة] أن المقاربة التي اعتمدوها، وتركز حاضراً على شمال إيطاليا وجنوب فرنسا وشرق وسط أوروبا، تطرح أفكاراً جديدة في شأن ما كابدته الشعوب في ذلك الزمن.

وقال الدكتور مارتن باوش، من معهد "غويزو": "نريد إظهار أنه يمكن تبيان التحول المناخي على نحو أفضل عندما يجري تناول المصادر التاريخية المكتوبة ضمن سياق واحد، جنباً إلى جنب مع الوثائق المناخية مثل حلقات الجذور الشجرية أو العينات الرسوبية".

وتابع باوش قائلاً: "إن إدماج الأبحاث المتعلقة بحقل الإنسانيات في هذا الإطار، يسهم بوضوح في إرساء فهم أعمق للعواقب الاجتماعية التي أدى إليها التحول المناخي في الماضي، وقد يساعدنا ذلك أيضاً في وضع استنتاجات متعلقة بالمستقبل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتأتي المدونات البشرية كي تقدم معلومات عن نتاجات النبيذ والقمح، ومواقع وعدد حوادث الحرائق الكبرى التي تعرضت لها المدن، إضافة إلى بيانات اقتصادية تكشف عن أحوال التجارة والأسواق. وقد تأثرت تلك الأشياء جميعها بأحوال المناخ. وكذلك ذكر الباحثون أنه فيما كان صيف 1302 غزير المطر في وسط أوروبا، إلا أن ما تبعه منذ 1304 صعوداً تمثل في عدد من فصول الصيف الحارة والبالغة الجفاف. ومن وجهة نظر التاريخ المناخي، يماثل ذلك حقبة الجفاف الأشد التي حلت في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.

وكذلك يشير الدكتور توماس لابي، من معهد "غويزو"، إلى أن "مصادر من منطقة الشرق الأوسط تحدثت أيضاً عن فترة جفاف شديدة، إذ كان مستوى المياه في نهر النيل مثلاً، منخفضاً على نحو استثنائي. لذا، فإننا نعتقد أن الجفاف بين العامين 1304 و1306 لم يكن ظاهرة إقليمية وحسب، بل حاز أبعاداً امتدت عبر القارات".

وبناءً على الآثار والحوادث المسجلة التي شهدتها تلك الحقبات، أعاد فريق الباحثين بناء السجل التاريخي للأحوال المناخية بين صيف 1302 وعام 1307. ومن خلال عمليات تقييم لمظاهر الجفاف التي شهدها عام 2018، وغيرها من المظاهر المناخية الحادة، فقد بات معلوماً اليوم أن من يفرض نفسه عادةً في حالات مماثلة يتمثل في ظاهرة تعرف بـ"أرجوحة المتساقطات".

وتشمل الظاهرة المذكورة هطول مقدار عالٍ جداً من المتساقطات على قسم من أوروبا، ومقدار ضئيل جداً منها في قسم آخر. ووفق عالم الأرصاد الجوية الدكتور باتريك سايفرت، من معهد "تروبوس"، يرجع الفضل إلى تلك المعطيات، في التوصل إلى إعادة بناء السجل العريض لأحوال الطقس، الذي استخدم في الدراسة. وكذلك يقول الدكتور سايفرت إنه "في عام 2018 مثلاً، سادت على مدى وقت طويل منخفضات جوية ثابتة للغاية فوق منطقتي شمال الأطلسي وجنوب أوروبا، وقادت إلى تساقطات غزيرة جداً هناك، مع جفاف شديد في وسط أوروبا".

وأظهر تحليل سجل أحوال الطقس على المستوى الواسع، أنه بين عامي 1303 و1307 ساد جو من الضغط المرتفع، الشديد والمستقر، فوق وسط أوروبا، الأمر الذي عبرت عنه حالة الجفاف الحاد في تلك السنوات.

وأورد فريق الباحثين إن تحليلهم للسجل التاريخي عن حال الطقس في أوروبا قد يفيد النقاش السائد اليوم حول كيفية انعكاس أزمة المناخ التي تصيب منطقة القطب الشمالي على أنماط الطقس وأحواله في أوروبا، إذ شهدت منطقة القطب الشمالي في العقود الأخيرة ارتفاعاً في حرارتها فاق معدله ضعفي ما شهدته مناطق أخرى في العالم. وقد أطلق على هذه الظاهرة وصف "التضخم القطبي" التي تخضع لدراسة يجريها فريق من الأكاديميين بإشراف جامعة "لايبزيغ".

وتفترض إحدى النظريات أن الاحترار غير المتكافئ لمنطقة القطب الشمالي يتسبب بتقليص الاختلافات في درجات الحرارة ضمن مناطق خطوط العرض المتوسطة، وكذلك سيؤدي تأثير ذلك الأمر إلى تقليص مقدار الفوارق الحادة بين كتل الهواء الدافئة والباردة، ما يؤدي إلى اضطرابات في الأحوال الجوية. ونتيجة هذا الأمر، وفق فرضية شائعة، يمكن أن تدوم أنماط الطقس فترة أطول مما حصل في الماضي.

وأوضح الدكتور سايفرت، أنه "حتى لو حدثت مرحلة من البرودة في القرون الوسطى، في حين نحن اليوم نعيش مرحلة احترار صنعها الإنسان، إلا أن أوجه الشبه تبقى موجودة، إذ إن الفترتين الانتقاليتين بين مرحلتين مناخيتين قد تتميزان بفوارق أصغر في درجات الحرارة [في المساحات الممتدة] بين خطوط العرض، وتقودان إلى أنماط طقس عريضة تدوم أطول، وقد يفسر ذلك الأمر تزايد الظواهر المناخية المتطرفة".

 

وسجل الباحثون في دراستهم تطابقاً وتزامناً لافتين بين فترات الجفاف وحرائق المدن، إذ مثلت الحرائق خطراً رئيساً داهماً في مدن القرون الوسطى ذات الكثافة العمرانية العالية والمباني الخشبية. وفي ذلك الزمن، لم يكن ثمة فرق لمكافحة الحرائق، على غرار الحال.

وبذلك، يعد حريق مدينة فلورنسا الذي وقع بين عامي 1302 و1307، واحداً من حوادث الحرائق الأفضل توثيقاً على الأرجح، إذ تشير المدونات المتعلقة به إلى التهام النيران أكثر من 1700 منزل في 10 يونيو (حزيران) 1304.

وقد أظهرت المصادر الإيطالية والفرنسية على حد سواء علاقة وطيدة بين مظاهر الجفاف الشديد وحوادث الحرائق المتزامنة. وعن ذلك الأمر، أفاد الدكتور باوش "نعتقد أن تحليلنا يشكل أول رصد عن العلاقة بين الحرائق وبين مظاهر الجفاف على مدى فترة مئتي عام، إذ إن الحرائق الكبرى في المدن ظهرت بعد عام من حصول الجفاف، إذ لم تكن المنشآت الخشبية في عمائر القرون الوسطى تجف على الفور، لكنها حين تجف، فإنها تشتعل بسهولة بالغة".

وأدرك معاصرو ذلك الزمن العلاقة بين الجفاف والحرائق، إذ اضطر المواطنون آنذاك خلال فترات الجفاف، إلى إبقاء دلاء من الماء بجانب مداخل بيوتهم كنوع بدائي من مطافئ الحريق ينبغي أن يكون جاهزاً في كل الأوقات. ولم تعمد السلطات البلدية في المدن إلا في وقت لاحق، إلى تنظيم فرق وأفواج الإطفاء، على غرار ما جرى في مدينة فلورنسا مثلاً في 1348.

وقد أنشئت بنى تحتية أساسية كي تواجه الجفاف في مدن شمال إيطاليا، إذ استثمرت كل من "بارما" و"سينا" في حفر آبار أضخم وأعمق. واشترت سلطات مدينة "سينا" مرفأً على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعملت على توسعته بعد فترة الجفاف بين عامي 1302 و1304 كي تكون قادرة على استيراد الحبوب والحنطة، وتغدو أقل اعتماداً على المنتجات المحلية.

ورأت أنابيل إينجيل، من معهد "غويزو"، أن "جفاف 1302 و1307، بحسب تحليلنا، مثل ظاهرة تحدث مرة في كل قرن، وذلك بالنظر إلى مدتها". وتابعت "لم تبلغ وقائع جفاف أخرى هذه الأبعاد في القرنين الثالث عشر والرابع عشر.

ولم تحل الحادثة التالية التي اقتربت من ذلك الحجم إلا مع جفاف عامي 1360 و1362 الذي امتد في أنحاء أوروبا، وذكر في وثائق ومدونات تاريخية باليابان وكوريا والهند".

وفي مقابل الدراسات الوافرة التي حظيت بها التقلبات المناخية القوية في أواسط القرن الرابع عشر وعقد أربعينياته قبيل حلول جائحة الطاعون، ظل مطلع القرن الرابع عشر حتى الآن بمنأى عن الاهتمام والتركيز، بيد أن باحثي "لايبزيغ" تمكنوا حاضراً من أن يظهروا للمرة الأولى أن فصول الصيف التي شهدت جفافاً استثنائياً بين عامي 1302 و1304 بمناطق جنوب جبال الألب، وبين عامي 1304 و1307 بمناطق شمال الألب، جاءت نتيجة أحوال طقس مستقرة وتفاوت في هطول الأمطار المتفرقة.

وتلقي الدراسة الجديدة الضوء على السنوات الأولى للقرن الرابع عشر بتحولاتها الدراماتيكية، وتعقد صلة أيضاً بين ما حصل في ذلك الزمن وبين التحولات المناخية الحاصلة في زمننا الراهن.

وأشار الباحثون إلى صعوبة خروج دراستهم "باستنتاج يتعلق بالتطورات المناخية المستقبلية في القرن الواحد والعشرين. وفي حين مثلت التقلبات المناخية في القرن الرابع عشر ظواهر طبيعية، فإن البشر في زمننا المعاصر ينافسون الطبيعة ويلقون أيضاً بتأثيرهم الاصطناعي على المناخ".

 

نشرت الدراسة في مجلة "مناخ الماضي" Climate of the Past

© The Independent

المزيد من تقارير