Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الإسباني خابيير مارياس يحول ليلة حب أولى إلى كارثة

"فكّر فيّ غداً أثناء المعركة" رواية المأزق الوجودي الذي سببه موت مارتا في ظلام مدريد

الروائي الإسباني خابيير مارياس (غيتي)

يزداد حضور الأدب الإسباني المترجم المعاصر والحديث في المكتبة العربية ويجد القراء العرب فرصة للاطلاع عليه رواية وشعراً. والجديد، رواية عنوانها "فكّر فيّ غداً أثناء المعركة" للروائي والقاص الإسباني خابيير مارياس بترجمة علي إبراهيم الأشقر (دار المتوسط). يُعتبر مارياس المولود في مدريد العامَ 1951، من أبرز الروائيين الإسبان المعاصرين، فقد طُبعت روايته هذه أكثر من خمس طبعات ونُقلت إلى لغات متعددة مع غيرها من أعماله، وقد قال فيه أورهان باموق إنه واحد من الكتاب الذين يجب أن يحصلوا على جائزة نوبل.

لا يتوقع قارئ مارياس أن ينهمك منذ السطر الأول بحادثة وفاة مارتا، الشخصية المحور، بصورة مفاجئة وغير مرتقبة وفي وضعية لا تُحسد عليها: "لا يفكر أحد قط في أنه قد يجد نفسه وامرأة ميتة بين ذراعيه، وأنه لن يرى وجهها، وإنما سيذكر اسمها..." (ص: 7). فيحكم الكاتب مارياس على الراوي فيكتور، بالارتباك والاضطراب والهلع منذ السطر الأول، بحنكة سردية ولغة دقيقة قادرة على الوصف والتفنيد والدخول في ثنايا النفس البشرية.

الواقع بحذافيره

يقول إدوارد سعيد في مؤلفه النقدي "العالم والنص والناقد" (دار الآداب، 2017): "أنا أرى أن النصوص تنتمي إلى العالم، وهي، إلى حد ما، أحداث، وتشكل جزءاً من العالم الاجتماعي، من الحياة الإنسانية، من اللحظات التاريخية التي تقع هذه الأحداث ضمنها، ويجري تفسيرها فيها حتى عندما يبدو أنها تنكر ذلك" (ص: 35). وهذا تماماً ما يقع عليه القارئ في نص "فكّر فيّ غداً أثناء المعركة"، فهو يواجه مع راوي مارياس حدثاً ينتمي إلى العالم والمجتمع وتنتج منه تساؤلات وجودية قد يسألها أي شخص وُضِع في موقف مماثل، ليتحوّل هذا النص السردي إلى انعكاس واضح ودقيق لخواطر النفس البشرية وأفكارها والتيارات التي تتجاذبها. فتحضر موضوعات الموت والذعر والتلاشي وعبثية القدر بوضوح وقوة طيلة السرد.

وقد عُرف الكاتب الروسي دوستويفسكي (1821-1881) تاريخياً بقدرته السردية الهائلة على الدخول في تفاصيل النفس البشرية والصراعات الداخلية التي تخوضها جراء ما يحيط بها من أحداث ووقائع، فأتى نص مارياس ليكون صدى معاصراً لهذا الأسلوب من الكتابة التحليلية النفسية التي تتناول حدثاً واحداً وحيداً ثم تسبر أغوار الراوي إزاءه وتتابع حالة نفسية متوترة ودقيقة ومحددة يعيشها، فتنقل تطورها وتغيرها مع مرور الساعات والأيام.

تدور أحداث هذه الرواية التي أُخِذ عنوانها من مسرحية شكسبير "ريتشارد الثالث" (1593)، في مدريد. وتبدأ الأمور كلها بالتدهور منذ البداية عندما تشعر مارتا بوعكة صحية تؤدي إلى موتها، بوجود فيكتور قربها. وفيكتور هو الراوي الذي استغلت مارتا سفر زوجها إلى لندن لتدعوه إلى منزلها. فكيف يتصرف هذا الراوي المسكين عندما تموت مارتا بين يديه؟ هل يتصل بزوجها في لندن؟ هل ينادي أحد الجيران؟ هل يتصل بالإسعاف؟ وماذا يفعل بابنها البالغ من العمر أقل من عامين والنائم في الغرفة المجاورة؟ هل يتركه؟ هل يأخذه معه؟ هل يوقظه؟ وكيف يبرّر وجوده مع مارتا بعد منتصف الليل؟ كيف يتعامل مع ما وقع؟ هل يهرب؟ هل يختفي؟ ما هي مسؤوليته في ما حصل؟ أسئلة كثيرة ومربكة إنما مشروعة لأي شخص يواجه موقفاً مماثلاً على أرض الواقع.

لا يستغرب القارئ خيار الكاتب عنوان روايته الذي تواتر ما لا يقل عن ثلاث مرات في النص (ص: 31؛ 35؛ 60؛...)، فقد تحوّلت ليلة الحب الموعودة مع مارتا إلى معركة مع القدر، تحوّل العشيق المفترض إلى جندي شاهد على حادثة وفاة، وصارت قصة الرغبة بين شخصين معركة إنسانية بين الصواب والخطأ. تحوّلت الليلة الموعودة مع مارتا إلى مأزق إنساني وجودي مشؤوم ودوامة قلق وتوتر واضطراب، فيخصص الكاتب أكثر من مئة صفحة من سرده الممتد على ثلاثمئة وثمانين صفحة تقريباً، ليصف ليلة وفاة مارتا وحدها وتخبّط الراوي الإنساني إزاء ما وقع.

التلاشي لا مفر منه

يطرق مارياس في روايته موضوعات الموت والتلاشي وعبثية الوجود الزائل، أفكار يخلّفها موت مارتا المفاجئ في الراوي، فتكثر العبارات الدالة على الرحيل والنسيان والتهافت، كما تكثر الجمل التي تذكّر بهشاشة الحالة الإنسانية والحياة التي يتعلق بها الإنسان بكل قوته بينما في الواقع يكتشف أن الموت متربص به من النواحي كلها: "كل شيء يسير نحو تلاشيه ويضيع، وقليل من الأشياء يخلّف أثراً" (ص: 26).

تتحول حادثة وفاة مارتا المفاجئة والعبثية إلى محرك لأفكار وتعليقات وتأملات يتأرجح فيكتور على حبالها: "كل شيء يُنسى ويسقط بالتقادم،... وما أقل ما يبقى من كل فرد، وما أقل ما له ديمومة وثبات!" (ص: 67).

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويراقب القارئ الراوي فيكتور يتخبط داخلياً بين أفكار تتنازعه ليلة وفاة مارتا، ثم يراه ينجذب مجدداً إلى بيت مارتا وعائلتها وزوجها ليرى ما خلفته فيهم ليلة وفاتها من آثار وجراح. ينجذب إلى حياة مارتا بعد رحيلها ليرى ماذا بقي منها، ماذا عُرِف عن ظروف ليلتها الأخيرة ولحظاتها الأخيرة، ماذا اكتشف أولئك الذين يعتبرون أنفسهم أقرب الناس إليها عن كلماتها الأخيرة. فتبدأ دوامة أفكار ومشاعر لتكون الجملة الفعلية المفتاح لهذه الرواية: "ما أقل ما يبقى من كل فرد" (ص: 101). ما أقل ما بقي من مارتا، ما أقل ما عُرف عن تلك المرأة! رحلت مارتا ذات ليلة بين ذراعيّ "لا أحد"، بين ذراعيّ رجل غريب، رجل لم يستطع فضح هويته ولم يستطع أن ينقذها ولم يستطع منع تهافتها، رجل حتّمت الظروف أن يكون معها لحظة موتها، ليتحوّل فجأة من مشروع عشيق سري إلى دخيل متطفّل لم يكن من المفترض أن يكون متواجداً في البيت تلك الليلة.

"فكّر فيّ غداً أثناء المعركة" رواية غير متوقعة ومشوّقة، إنما في الوقت نفسه رواية متعمّقة في النفس البشرية. رواية التفاصيل الوجودية والدواخل الإنسانية والهشاشة البشرية. يسلط مارياس الضوء على الجانب الآخر من الحياة، يسلط الضوء على الموت، على الضعف، على العجز.

قد يتوهم الإنسان الغارق في واقعه أنه باق، لكن الموت لا يهمل أحداً، وهذا تماماً ما يذكّر به مارياس قارئه. يثير هذا الكاتب الإسباني وريث دوستويفسكي الرعب والتوتّر في أوصال قارئه بجذالة وهدوء ويذكّره بضعفه كما بهشاشة الوجود: إن الأمور كلها إلى زوال، المشاعر والوجوه والأحداث، كل ما يبدو مهماً اليوم سوف يمحوه الزمن، كل ما هو مهيمن اليوم سيتهافت مع الزمن، و"كل شيء يبدو لنا ضئيلاً ما إن ينقضي" (ص: 70).

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة