Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فردريك فروسايت: قلم يلاحق الأحداث فيسبق حركة التاريخ

من محاولة اغتيال ديغول إلى كولونيل إنجليزي يخترق طالبان

مشهد من فيلم "يوم ابن آوى" (غيتي)

منذ سنوات يبدو فيلم "يوم ابن آوى" منسياً إلى حد كبير ولكن ما يبدو منسياً أكثر منه كون الفيلم الذي كان يعتبر في زمنه واحداً من أكثر أفلام التجسس تسيساً، وسنعرف لماذا بعد سطور، هو من كتابة واحد من أبرز كتّاب الروايات البوليسية ليس فقط المستقاة من الواقع، بل الممهدة لواقع لا يكون قد خطر لا في الأحداث ولا في البال: فردريك فورسايت.

التجسس أنواع والكتابة كذلك!

والحقيقة أن عودتنا هنا إلى هذا الفيلم وكاتب قصته تذكرنا بما لا ينبغي نسيانه، وهو أن هناك كتّاب روايات تجسس يكتبون من خيالهم. وهناك كتّاب ينهلون من تجاربهم الشخصية. كما ثمة فريق ثالث يكتب استيحاء من التاريخ. هذا عدا الذين يكتبون للترفيه والذين يصطادون حكايات من هنا وهناك، ويعيدون ترتيبها وكتاباتها. كل الأنواع مباحة في عالم هذا النوع من الكتابة. غير أن هناك كتّاباً في هذا المجال يتأرجحون بين كل هذه الأنواع ليكتبوا فيتردد ما يكتبونه في الحياة الحقيقية وأحياناً بشكل حرفي بحيث يبدو أن ما يحدث حقاً في الحياة، إنما هو منسوخ حرفياً وبالتفصيل، كما كانوا أسهبوا في الحديث عنه في رواياتهم. ولعل في مقدورنا أن نقول إن الإنجليزي فورسايت على رأس هذا النوع الأخير. فهو إضافة إلى أن رواياته التي نشرها طوال ما يقرب من أربعين عاماً تكاد تكون الأكثر تسيساً بين كل روايات التجسس، هناك دائماً تساؤلات وتحقيقات عن عمليات اغتيال وإرهاب حقيقية تتم وفقاً لما كان روى في روايات سابقة له. وبنفس الأدوات. وحسب الباحثين للدلالة على هذا أن يذكروا، على سبيل المثال، اغتيال رئيس وزراء الهند السابق راجيف غاندي عام 1991، أي عامين بعد إصدار فورسايت روايته "المفاوض". واللافت هنا أن هذه الرواية تتضمن كحبكة رئيسة أول ذكر لـ"قنبلة بشرية" تفجر بمادة "RDX"... إذ قبل ما يحدث في الرواية لم يكن أحد سمع بهذه الطريقة للاغتيال انتحاراً. بعد عامين، إذاً، أتى اغتيال غاندي عن طريق تفجير انتحاري وبمادة "RDX" تحديداً.

أحداث فاقعة!

لكن هذا ليس كل شيء. ففي رواية "حزام الله" التي أصدرها فورسايت عام 1994، جاعلاً أحداثها تدور أيام حرب الخليج الأولى، ثمة مذكرة يفترض أن لجنة برئاسة جيمس بيكر رفعتها مطالبة فيها بعدم غزو العراق، لأن هذا الغزو قد يقسم هذا البلد إلى ثلاثة كيانات طائفية تتناحر وتتقاتل فيما بينها. وهو نفس ما حدث، فعلاً، بعد غزو العراق.

وفي عام 2004، حدث أن أوقفت في زيمبابوي، مجموعة من الذين قيل إنهم مرتزقة إنجليز يحضرون لانقلاب في غيينا بيساو انطلاقاً من زيمبابوي. وفي رواية كان فورسايت أصدرها عام 1974 بعنوان "كلاب الحرب" ثمة أحداث مشابهة تماماً لهذه الأحداث وفي نفس البلدان. والحقيقة أن في إمكان المرء وهو يقرأ روايات وقصص فردريك فورسايت، أن يعثر على مثل هذه المقارنات التي تشي دائماً أن أدب هذا الكاتب كان يستبق الأحداث. أو لعله، بشكل خفي، كان ولا يزال يوجهها، هذا هو السؤال الذي يطرحه كثر الآن على أنفسهم، إذ لم يسبق أبداً لكاتب أن "تنبأ" بأحداث من هذا النوع، وفي تفاصيل تفاصيلها، قبل حدوثها بزمن.

إذاً... ما الحكاية؟ أجاب فورسايت الذي كان ينجز يوم طرح السؤال عليه رواية "الكوبرا" لتصدر عام 2010، بعد أن كانت رواية "الأفغاني" آخر ما أصدره قبلها، يقول إن المسألة ليست سحراً أو فلكاً، "كل ما في الأمر أنني أتابع الأحداث السياسية بشكل يومي، في التفاصيل وفي كل بلد وأجعل لنفسي ملفات" ثم أفكر: لو كنت أنا هذا الطرف من الأطراف أو ذاك، ماذا كنت سأفعل في حال مثل هذه؟ كيف كنت سأتصرف؟ كيف أبدأ حكاية وكيف أنهيها. ولعل الحظ خدمني في معظم الحالات، بجعلي أوفق في الاتجاه المنطقي...".

دروس مستخلصة؟

للوهولة الأولى يبدو هذا الكلام منطقياً. ثم، يتساءل البعض، ما دخل فورسايت إذا كان ثمة من يقرأ رواياته بدقة ويستخلص منها دروساً؟ وهذا البعض المتسائل هنا يذكّر على أي حال، بكيف أن الإسرائيلي المتطرف إيغال أمير اعترف بعد اعتقاله لاغتياله إسحاق رابين، كيف أنه استخدم تفاصيل من أولى روايات فورسايت "يوم ابن آوى" حين كان يخطط لاغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق عقاباً له على عقده السلام مع ياسر عرفات. والشيء نفسه يقال عن فلاديمير آروتنيان الذي حاول اغتيال جورج دبليو بوش خلال زيارته جورجيا عام 2005. هو الآخر أكد أنه من قراء فورسايت وأنه قرأ "يوم ابن آوى" مرات عديدة قبل أن يتخذ قراره ويبدأ مخططاته. والحقيقة أن هذا كله وغيره يجعلنا نصدق فردريك فورسايت حين يقول في تصريح صحافي، إنه قبل سنوات من أحداث نيويورك/ واشنطن في سبتمبر (أيلول) 2001، كان يزمع كتابة رواية عن هجوم إرهابي ضخم على هاتين المدينتين، وبنفس الطريقة التي جرت بها الأمور، تقريباً، لكنه تراجع في اللحظات الأخيرة (وللمناسبة نذكر أن زميلاً لفورسايت هو جورج كلانسي، كتب رواية تحتوي نفس التفاصيل عنوانها "دين الشرف" ونشرها قبل الأحداث بزمن. وهو أمر جرى عنه حديث كثير في حينه).

قد يبدو هذا كله من قبيل الصدفة... غير أن للأمر وجهاً آخر يتعلق بأسلوب فورسايت نفسه، كما يقول دارسو أعماله. فهو أسلوب تفصيلي يغوص ليس فقط في سيكولوجية الفاعلين الذين قد يكون القارئ عارفاً بأمرهم مسبقاً، بل حتى في تفاصيل ما يفعلون وأسلوبهم في إعداد جرائمهم. ومنهم مثلاً بطل "يوم ابن آوى" الذي، وهو يستعد لمحاولة اغتيال الجنرال ديغول، يلاحقه الكاتب من مكان إلى آخر واصفاً تصرفاته واستعداداته. وجمعه، مثلاً، لكل المعلومات المتوفرة عن الجنرال ديغول في مكتبة المتحف البريطاني. وهذا في صفحات يمكن اعتبارها دليلاً عملياً لنشاط الإرهابيين وهم يستعدون لتنفيذ الاغتيالات. ومن هؤلاء مثلاً كارلوس الشهير الذي كان من قراء فورسايت.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الواقع إلى الخيال وبالعكس

وكما فهمنا حتى الآن، كتب فورسايت روايته الأولى "يوم ابن آوى" عن محاولة اغتيال الجنرال ديغول فأعطته شهرة واسعة حصوصاً بعد أن حُولت فيلماً، كما ستكون حال معظم روايات. وهذا مكنه من أن يترك عمله الصحافي بعد أن كان بدأه عام 1961، حين انضم إلى وكالة رويترز وهو في الثالثة والعشرين إثر خدمته كأصغر طيار (19 عاماً) في سلاح الجو البريطاني. مهما يكن من أمر قال فورسايت دائماً إن مروره في الصحافة، هو الذي أعطاه تلك القدرة على ربط الأدب بالسياسة بالتجسس وذلك الأسلوب التفصيلي التقريري الذي يطبع أدبه. فهو يكتب الحكاية وكأنها تقرير صحافي عن أخبار يعرف الناس كثيراً عنها، بحيث إنه لم يعد ينقصهم سوى لمسة الأديب التي توحي بأن ما يقرأونه حقيقي! وهو يرتدي ثوب الحقيقة، أحياناً من خلال استخدام الكاتب شخصيات تاريخية معروفة جاعلاً منها أحياناً بطلة العمل، وأحياناً شخصية ثانوية فيه: القاتل في "يوم ابن آوى" ينتمي إلى منظمة الجيش السرية اليمنية، والهدف شارل ديغول نفسه. جيمس بيكر وكريستوفر فراي وجورج بوش الأب ثم بوش الابن، يعبرون رواياته. وكذلك يعبرها المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي وحلف الأطلسي وثورة أوكرانيا. ومطاردة النازيين وحرب العراق وقضية بيافرا. من دون أن ننسى أفغانستان وطالبان في روايته "الأفغاني" التي يحكي لنا فيها عن ضابط مخابرات بريطاني متقاعد هو الكولونيل مايك مارتن، وقد أرسل في مهمة في أوساط "طالبان" بعد أن تنكر في زي أسير طالباني معتقل في غوانتانامو".

فردريك فورسايت، إذاً، يأخذ موضوعه من أي مكان... شرط أن يكون مكاناً واقعياً، ويطلب من منطقه الخاص أن يتابع ويكتب مكانه. وحتى الآن يبدو أن هذا كله قد نجح، ليس لأن مبيعات رواياته كبيرة، وليس لأن السينما تحقق أفلاماً عنها يشاهدها عشرات الملايين... بل كذلك لأن ثمة، كما يبدو، من يقرأها لـ... يتعلم كيف يتصرف حين يحتاج منه الأمر تصرفاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة