تعدد التبريرات لقرع طبول الحرب في المنطقة، لا سيما من الجانب الإيراني، يدفع كثيراً من المحللين إلى استبعادها، على الرغم من الاستدراك الدائم بأن التهويل بها عبر استنفارات عسكرية على الشواطئ القريبة من باب المندب ومن مضيق هرمز وفي عرض البحر قد يفلت عن السيطرة ويتسبب باصطدام. واحتجاز ناقلة النفط الكورية الجنوبية قبل يومين أحد الشواهد على هذا الاحتمال، على الرغم من أن سيول تسعى إلى حل للمسألة بالوسائل الدبلوماسية.
فتارة تنسب طهران احتمال المواجهة العسكرية إلى إمكان قيام دونالد ترمب بمغامرة عسكرية في الأيام الأخيرة من ولايته، وأخرى ترفع نسبة التهديدات بالانتقام لاغتيال قائد قوة القدس في "الحرس الثوري" قاسم سليماني في بغداد قبل سنة، مع مرور الذكرى الأولى للعملية، وأخرى بأن إسرائيل تعمل لتوريط واشنطن في ضربة توجهها لمنشآت إيرانية.
استبعاد اندلاع المواجهة العسكرية يعود إلى أن ما تسرب عن أن ترمب طلب من البنتاغون دراسة خيار توجيه ضربة لمنشأة نووية إيرانية، ما لبثت القيادة العسكرية الأميركية أن استبعدته. كما يعود إلى افتراض سعي طهران إلى استعجال انفتاح الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن عليها، نظراً إلى إلحاحها على رفع العقوبات عنها بسبب أزمتها الاقتصادية المتمادية نتيجة العقوبات الأميركية عليها منذ ربيع 2018، التي أصابتها بعزلة مالية واقتصادية حادة. وهذا ما يدفع إلى الاستنتاج بأن تصاعد الأجواء المحمومة ومخاطر المواجهة هدفه التفاوض لا الحرب.
التحفيز على التفاوض
ويقول أحد الدبلوماسيين العاملين في بيروت والمتابع للتطورات الإقليمية، إن أغلب الظن أن رفع درجة تخصيب اليورانيوم من قبل طهران إلى نسبة 20 في المئة خلافاً للاتفاق النووي معها، الذي ما زالت تلتزمه الدول الخمس الأطراف فيه، بعد انسحاب إدارة ترمب منه عام 2018، هو التحفيز على "تخصيب" التفاوض مع إدارة بايدن.
تستخدم طهران كل وسائل الضغوط من أجل التفاوض إلى درجة عدم اكتراثها بمفاعيل تصريح قائد سلاح الجو في "الحرس الثوري" الإيراني أمير علي حاجي زادة عن أن صواريخ لبنان وغزة هي في الجبهة الأمامية في المواجهة مع إسرائيل. فهي سببت تصاعداً لردود الفعل ضد رهن طهران لبنان لخططها ومعاركها ومناوراتها ومفاوضاتها. واضطر الأمين العام للحزب حسن نصر الله إلى الدفاع عن الموقف الإيراني، محاولاً استيعاب اتساع النقمة على دور إيران في لبنان في وسط الجمهور المسيحي الحليف للحزب والموالي لرئيس الجمهورية العماد ميشال عون، فضلاً عن القوى الأخرى المعارضة له. إذ أصدر "التيار الحر" بياناً أكد فيه أن "المقاومة التي يمارسها اللبنانيون دفاعاً عن أرضهم يجب أن تخدم دائماً هذه الأهداف من دون سواها، وأي دعم يتلقونه لا يجوز أن يكون مشروطاً بالتنازل عن السيادة الوطنية أو بالانغماس في ما لا شأن لهم به".
"الوفاء لسليماني" واستخراج النفط والغاز
ركز نصر الله على "واجب الوفاء" لقاسم سليماني في عدد من الدول التي لطهران نفوذ فيها، مستنفراً عواطف مناصريه في لبنان عبر التذكير بالاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والدعم الذي تلقته المقاومة، متجاهلاً أن الدول والجماعات السياسية اللبنانية والعربية التي أيدت المقاومة ولبنان من أجل تحرير أرضه في تلك الحقبة، بات قسم كبير منها يعتبر شعار المقاومة غطاءً لسياسات إيران التوسعية ضد الدول العربية، متوسلة المذهبية وتدمير الدولة المركزية من أجل تمكين أذرعها المحلية من الهيمنة ونشر نفوذها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوحى نصر الله بالجواب لمناصريه وجمهوره، أو على الأقل لجزء منهم، تعب من أخذه إلى حروب عبثية في المنطقة طوال العقدين الماضيين، (منذ انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 )، حين خاطب هذا الجمهور سائلاً: "أسألكم من 1982 من هو الذي ساعد لبنان على تحرير أرضه"؟
جعجع و"الكتائب"
بدا واضحاً من هجوم الأمين العام للحزب على ردود الفعل الشاجبة لتصريح زادة أنها أغاظته. وصعوبة الدفاع عن إقحام "الحرس" لبنان في مناخ قرع طبول الحرب بين طهران وأميركا، أمام فئات واسعة من اللبنانيين، لا سيما الجمهور المسيحي الموالي لعون و"التيار الوطني الحر"، دفعته إلى استخدام عبارات زاجرة، فقد شهدت مواقع التواصل الاجتماعي سجالاً بين مناصري التيار ومناصري الحزب حول التوريط الإيراني للبلد، لا يعبّر عن مقتضيات التحالف القائم بينهما. وقال نصرالله "إذا يوجد أمل في لبنان لكي يستخرج غازه ونفطه فهو ببركة المقاومة والصواريخ التي أعطتها إيران للمقاومة". واستفز قوله إن "إذا هناك أحد في العالم يشعر بوجود لبنان فبسبب المقاومة"، فرد عليه رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع معتبراً أنه "تخطى في كلمته الأخيرة كل الحدود والسقوف، معتبراً وكأن اللبنانيين من دون ذاكرة ولا تاريخ ولا حضور ولا دور". أضاف جعجع متوجهاً إلى نصر الله "لا نريد منك أن تحافظ على لبنان ولا أن تحمي حقوقه. جلّ ما نريده منك هو عدم التعدّي على لبنان واللبنانيين، إذ لم يسبق أن انتُهِكَتْ سيادة لبنان كما هي مُنْتَهَكة اليوم، وأن ذُلَّ الشعب اللبناني ، ولم يسبق أن شهد البلد انهياراً، ولم يسبق أن خسر لبنان صداقاته العربية والغربية كما اليوم، ولم يسبق أن تحول جواز سفر اللبناني إلى مهزلة على غرار ما هو عليه اليوم، بسبب مقاومتك". وقال: "إذا كان العالم يتداول باسم لبنان اليوم، فهو يتداول به إما كدولة فاشلة، أو كبؤرة توتر دائمة وبيئة حاضنة للإرهاب، فيما كان يتداوله سابقاً كسويسرا الشرق".
ورأى المكتب السياسي لحزب "الكتائب"، أن "سلاح حزب الله غير الشرعي لم يحم لبنان في السابق ولن يحميه اليوم بل يعرضه لكل أنواع العزل والحصار والعقوبات، وبات الحارس لموجات الاستفزاز اليومية التي تبدأ بنشر صور وتماثيل لقاسم سليماني على طرقات لبنان ولا تنتهي بحملات التشهير الممنهجة على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تزيد من إنقسام اللبنانيين وتجذبهم أكثر إلى خطاب الكراهية ولغة الحرب والتقسيم، فيما الرئاسة والحكومة والمجلس النيابي لا يعدون كونهم شهود زور يغطون الانهيار ووضع اليد على لبنان".
محاولة رفع المعنويات
وبموازاة ردود الفعل على كلام نصر الله، رأت أوساط معارضة للحزب أن تشديده في خطابه على أن "إيران قوية ولا تحتاج حتى إلى أصدقائها" كان محاولة لرفع معنويات أنصاره، مستهزئاً بفرض مزيد من الدول العقوبات عليه، لا سيما من الدول الأوروبية الشرقية، فقلل من أهمية هذه الدول مشيراً إلى دولة سلوفينيا. ويقول أحد السياسيين الخصوم للحزب إن القادة الإيرانيين ونصر الله يتحدثون عن إخراج أميركا من المنطقة في وقت تخطط الإدارة الأميركية للخروج من بعض الدول ضمن سياسة عامة قررت إدارتا باراك أوباما وترمب اعتمادها بإعادة قواتها تدريجاً، ويكررون الحديث عن الرد على اغتيال سليماني منذ سنة لينتهي الأمر بإقامة تمثال له في منطقة الغبيري في ضاحية بيروت ونشر صوره في بعض مناطق الجنوب، الأمر الذي اعتبره جمهور واسع من اللبنانيين استفزازياً.
بين حصار إيران وحصار أميركا
وفي رأي السياسي نفسه أن نصر الله اعترف بأن "الأسباب المعنوية" جعلته يقول إن العقوبات على الحزب هدفها نفسي كي "يشعر حزب الله بأن العالم يحاصره... وحتى لو حاصرتمونا بقطعة أرض صغيرة، نحن نشعر أنكم أنتم محاصرون، أميركا وعظمتها محاصرة". وهو كلام يعبر عن الحصار الذي تتعرض له إيران.
وفي الأوساط الدبلوماسية حديث عن أن طهران تستعجل التفاوض مع إدارة بايدن وتكثر من عرض أوراق التفاوض هذه ومنها تعطيل تأليف الحكومة اللبنانية حتى ما بعد تسلم الرئيس الأميركي المنتخب مهماته في 20 يناير (كانون الثاني)، لأن مؤشرات التطورات الإقليمية تضعف قوتها التفاوضية. فمشهد المصالحة الخليجية في قمة العلا التي أشادت بقرارات الدول التي صنّفت حزب الله منظمةً إرهابية، واستمرار القصف الإسرائيلي على مواقع الحرس الثوري والحزب في سوريا من دون أن تتمكن طهران من الرد، في ظل السكوت الروسي عن ذلك بموازاة التنسيق الروسي- الإسرائيلي، وتزايد مظاهر الخلاف مع تركيا إن في سوريا، أو في أذربيجان، وخطوات أنقرة للتقارب مع الولايات المتحدة، واستعادة العلاقة مع إسرائيل، هي عوامل مع غيرها من التطورات مصدر قلق في طهران تجعلها تستعجل الحوار مع إدارة بايدن لفك الحصار عنها ورفع العقوبات. وتصنف الأوساط الدبلوماسية ما يجري في اليمن من محاولة ترسيخ قدرات الشرعية اليمنية بانتقال الحكومة اليمنية إلى عدن من ضمن هذه العوامل.