Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 البريطاني جون لانكستر يطور رؤية أورويل في "الجدار"

رواية الهجرات البشرية الجماعية والمستقبل الكارثي

الروائي الإنجليزي جون لانكستر (غيتي)

في الرواية الصادرة بترجمتها العربية للكاتب الإنجليزي جون لانكستر (1962) وهي بعنوان "الجدار"، عن دار الرافدين، (ترجمة إيناس التركي)، استشراف لمسألة لا تزال تؤرق سكان الجزء الشمالي من الكرة الأرضية، عنيت العالم الغربي الصناعي والمتقدم، ألا وهي مسألة الهجرة الجماعية للموجات البشرية من الجزء الجنوبي من القارة، هرباً من الفقر والمجاعة والظلم والحروب الأهلية وحروب الإثنيات والطوائف والأديان والعصبيات.

وقد شهد العالم آخر فصولها مع غرق الآلاف من السوريين والجزائريين والصوماليين وغيرهم في قوارب الموت التي تقلهم بصورة غير شرعية إلى أقرب شاطئ لدولة أوروبية، وهيهات أن يصلوا أحياء.

وفي المقابل، شهد العالم الغربي الأوروبي تحديداً، نمواً للاتجاهات الحزبية المتطرفة، في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، والتي تدعو إلى منع الهجرة غير الشرعية إلى البلاد وتغريمها، ورد الداخلين عنوة إلى بلادهم الأصلية، على غرار ما حدث في كل من اليونان، وإيطاليا، وإسبانيا بدرجة أقل، وهي البلدان ذوات الشواطئ المقابلة لشرق المتوسط، من حيث يتدفق أغلب المهاجرين غير الشرعيين.

إذاً، تحكي الرواية مغامرة، بل تجربة أحد الشبان الإنجليز، ويدعى كافاناه، في أواخر القرن الحادي والعشرين، وقد انتهى العالم الذي نعرفه إلى كوارث بيئية هائلة، أفضت إلى تغيير في بنى الحكم، وفي علاقات الأفراد بدولتهم، وأجبر على الخدمة لسنتين متتاليتين، مثل سائر الشبان والشابات من عمره، للدفاع عن الجدار الذي بنته الدولة، بالتعاون مع المواطنين، على امتداد عشرة آلاف كلم، وبعلو خمسة أمتار، منعاً لعبور المهاجرين الآتين من وراء البحار، أو من قارة أوروبا الغربية، الفارين من بلادهم القريبة والبعيدة، طمعاً في دخول إنجلترا المستقرة نسبياً. وكيف أن كافانا هذا وصديقته هيفا، كانا يقضيان خدمتهما، أسبوعاً في الحراسة، وأسبوعاً آخر في التمارين ودورات التدريب التي تضمن لهما ولأفراد "المدافعين" قدراً أكبر من الجهوزية، ويتعرضان لمخاطر كثيرة يبسطها الروائي في مراحل أو فصول ثلاثة:

كافاناه وهيفا

الفصل الأول، وهو بعنوان "الجدار" وفيه يحكي الراوي كافاناه أيامه الأولى من دخوله إلى سلك المدافعين، أو بلغة عصرنا الجيش النظامي، للشروع في خدمته للدفاع عن "الجدار" سبب وجود الدولة والشعب، وتعرفه إلى رفيقته هيفا التي صارت لاحقاً شريكته في ممارسة الجنس، وكيفية تركز النشاطات في البلاد على الدفاع عنها، من دون سائر الأعمال المنتجة التي كانت قائمة قبل "التحول" الكبير، أي قبل حدوث الكوارث المناخية الكبرى، وانفصال الشبان والشابات عن ذويهم نهائياً باعتبار "كبار السن يشعرون بأنهم دمروا العالم تماماً، ثم أنجبونا لنحيا فيه..." (ص:58) وذلك للإشارة إلى ارتفاع نسبة المياه في البحار، نتيجة الاحتباس الحراري، وغرق كثير من مساحات الدول الشاطئية بالمياه.

إذاً، فالجدار المنشأ، بحسب حكاية لانكستر، ليس لرد المهاجرين عنوة إلى البلاد فحسب، بل لصد مياه المحيطات المتصاعدة بفعل ذوبان الجليد أيضاً.

وفي هذا الفصل كذلك وصف لانقلاب القيم، في بلاد "الجدار"، حيث بات المدافعون أو الجنود المئة ألف، المتناوبون على حراسة الجدار كل خمسين ألف نوبة تمتد أسبوعاً، ذوي الامتيازات الكبرى فيها، يليهم مرتبة "المتناسلون"، وفي المرتبة الثالثة المدافعون الأنفار، ولهم امتيازات بحسب نباهتهم وإخلاصهم لوطنهم، أما الأفراد الداخلون عنوة إلى البلاد ومهربو الرقاقات الإلكترونية، والخاسرون في المعارك فيصيرون خدماً، على غرار الأسرى في الحروب المئة عام، بين الإنجليز والغاليين.

في الفصل الثاني، وعنوانه "الآخرون"، تتوالى التحديات أمام الثنائي كافاناه- هيفا، وتتصاعد وتيرة التهديد بفعل اشتداد التدريبات حدة وخطراً، ومقتل العديد من رفاقهما في خلال المواجهات بين المدافعين والمهاجمين الآخرين، إلى أن انتهت بوقوع الثنائي وبعض رفاقهما في قبضة فرقة مهاجمة، من فئة المعارضة، وسقوط حق الإقامة عنهما في اسكتلندا، ورميهما في إحدى الجزر النائية.

أما الفصل الثالث والأخير، وعنوانه "البحر" فيشهد على أسرهما من قبل جماعة غريبة، مهاجمة، بل عدوة، استطاعت النفاذ من نقاط المراقبة، وبين الأبراج المنصوبة، واستولت على المكان. فكانت العقوبة التي تنتظر من لم يحسن الدفاع عن منطقته، أن يرمى في جزيرة نائية، حيث ينتظره الموت غرقاً، بفعل تصاعد الموج، وفقدان المواد الغذائية، وبفعل هجمات القراصنة الآتين من عرض البحر، أو المتربصين بالسفن الصغيرة والقوارب والموانئ.

ولكن كافاناه وهيفا يأبيان الاستسلام للقراصنة الذين هاجموا المكان، وكادوا يستولون على ما بقي من المؤنة في ذلك المرفأ الصغير، لولا استنهاض همتهما واستخدامهما كل مهاراتهما المكتسبة بالتدريب، وتمكنهما من تفجير القارب الذي أتى بالقراصنة.

البلدان المنكوبة

بالطبع، لا يسع العرض الموجز هنا الإحاطة بكل مجريات الأحداث، ولكن الرواية تعاود طرح مسائل عديدة وتلقي عليها أضواء مضاعفة؛ وأولى هذه المسائل، بل القضايا، التغير المناخي الذي بدأ يثقل كاهل البشرية بالعديد من الكوارث التي لن تقوى على النهوض من تبعاتها لآجال بعيدة من الزمن.

أما المسألة الثانية المترتبة عن الأولى، فهي المهاجرون من البلدان المنكوبة بمناخها، وأنظمتها السياسية، وبكل مقومات العيش، والأمان والاستقرار. وما موجات الهجرة الجماعية التي شهدتها الدول الأوروبية من بلدان شرق المتوسط (لا سيما منها العربية والآسيوية) إلا دليل على فداحة ما آلت إليه الأوضاع المناخية في تلك البلدان، يضاف إليه عامل الفساد المستشري في دول العالم الثالث.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والمسألة الثالثة، والمطروقة بقوة في الرواية وهي زوال مفاهيم معينة لطالما اعتبرت من المقدسات في زمن سابق - ولا ننسى أن أحداث الرواية تجري في أواخر القرن الواحد والعشرين - فرأينا، كيف حدثت القطيعة النهائية بين جيل الشباب والجيل السابق الذي نسبت إليه جريمة التغير المناخي الكارثي على صعيد البشرية ككل.

ومن هذه أنه لم يعد ثمة مفهوم "زواج" وما يلازمه من طقوس دينية أو مدنية، وإنما حل بديلاً له مفهوم "المتناسلين" أي العلاقة التي تهدف إلى حفظ النسل فحسب. أما مفهوم "العشق" وما يتولد منه من مفاهيم "كالعاشقين" وغيره، فقد حل بديلاً عنه مفهوم "الممارسين للجنس" الذي بات يلفظه المعنيون به من دون وجل، وبعيداً عن أي اعتبار شعوري أو أخلاقي.

الكاتب الإنجليزي جون لانكستر، والملقب بأورويل المعاصر، لنجاحه في تنبيه ضمائر الغرب والعالم إلى انفجار وشيك للمشاكل الناجمة عن التغير المناخي، وما يستتبعه من كوارث على كل صعيد، تماماً كما أفلح جورج أورويل، في روايته "1984"، في تنبيه العالم إلى مخاطر النظام التوتاليتاري وآثاره الكارثية على المواطن الفرد، نواة النظام الديمقراطي الحر، وعلى الجماعة والمجتمع، على حد سواء.

 وفي الرواية أيضاً ميل قد يزداد رسوخاً في أعمال الكاتب اللاحقة، وعنيت به تحويله بعض المشاهد، في رسمه الإطار المكاني البارد جداً ضمن الوضع الأولي لحبكة الرواية القصصية، إلى عبارات أو قصيدة هايكو: "سماء/ برد/ ماء/ خرسانة/ ريح" (:22) ومثله صوغ قصيدتين للإيحاء بصلابة الجدار والخلاء المحيط به، وإبرازاً للعناصر التي يتشكل منها مشهد الجدار (ص:19)، و(ص:21).

للكاتب جون لانكستر خمس روايات غير هذه، وهي "جيراني الأعزاء"، و"ثمن اللذة"، و"السيد فيليب"، و"مرفأ العطور"، و"رأس المال"، إضافة إلى العديد من الدراسات والأبحاث والكتابات النقدية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة