قضيت ما يزيد على 30 عاماً من حياتي في العمل مع القادة السياسيين، والحكومات، ومواطني الدول النامية.
وكوزيرة للتنمية الخارجية في الوقت الذي دُمجت فيه حقيبتا الخارجية والتنمية معاً، غالباً ما كانت وزارتي تُكنى بـ " قسم القلوب النازفة لوزارة الخارجية". إن النهج الذي تتبعه الحكومة في الوقت الحالي حيال التنمية ينطوي على المجازفة بالظهور بمظهر من فقد القلب والعقل معاً.
إن المساعدة الفعالة لا تتعلق بالمشاعر، كما أنها ليست معنية بالمواقف، فكل ما يهمها هو التأثير الذي تحدثه. لقد دافعت على الدوام عن مقاربة عملية تقوم على الحس السليم لكيفية أداء بريطانيا لدورها في العالم، وهذا أمر نحتاج إليه الآن أكثر من أي وقت مضى.
ها هو الفقر يتفاقم ويتسع نطاقه على مستوى العالم للمرة الأولى في هذا القرن. وسيدفع "كوفيد-19" ما يتراوح بين 88 و115 مليون نسمة آخرين إلى أتون الفقر المدقع هذا العام فقط، بحسب ما ذكر البنك الدولي.
لكن هذه هي اللحظة الخطيرة التي قررت فيها حكومتنا أن توازن الحسابات وتضبطها، ولو تم ذلك على حساب أناس يكافحون أكثر من الجميع للتعامل مع الجائحة. وعليه، فإن القرار القاضي بخفض قيمة المساعدات الخارجية من 0.7 في المئة إلى 0.5 في المئة من إجمالي الدخل القومي، هو قرار ينبغي عكسه في أقرب فرصة ممكنة.
في هذه الأثناء، ثمة حاجة لاتخاذ قرارات وزارية حول كيفية إنفاق المساعدات، وذلك للحد من التأثير في أشخاص يعيشون على أقل من 1.90 دولار في اليوم الواحد، على أن تسترشد هذه القرارات ببعض المبادئ الأساسية.
أولاً، ينبغي البناء على الخبرة الغنية التي تغص بها وزارة التنمية الدولية بدلاً من تهميشها، فلدينا سجل حافل من الريادة في مجال الصحة العالمية، فقد أوجدت هذه البلاد فكرة التغطية الصحية الشاملة حين أنشأت "خدمة الصحة الوطنية"، وصقلت هذه الفكرة منذئذ لتوفير واحد من أفضل أنظمة الرعاية الصحية في العالم. وسواء كنت تعيش في مانسفيلد أو في مومباسا، فالرعاية الصحية هي ما نحتاجه جميعاً للاهتمام بأفراد عائلاتنا حين يسقطون فريسة للمرض.
لذلك، فمن الأهمية بمكان أن نطّبق أفضل ما لدينا من ابتكارات علمية وخبرات عملية لطرح برامج تلقيح ومعالجة مقاومة مضادات الميكروبات، ومن ثم قيادة الحملة الرامية إلى القضاء على الأمراض المعدية مثل الملاريا و الإيبولا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وثانياً، يجب علينا أن نركّز جهودنا على الدول الأشد فقراً، إذ كان هناك كثير من الحديث عن مواءمة المساعدات التي تقدمها بريطانيا مع مصالحها الاقتصادية والسياسية، بيد أن المساعدات الخارجية يجب أن تواصل العمل لبلوغ غاية أساسية هي الحدّ من الفقر، وتمضي بتصميم لتحقيق هذا الهدف، كما لو تهتدي إلى أماكن الفقر بواسطة شعاع ليزر لا يخطئ. ليس القصد من ذلك تشويه سمعة التنمية الاقتصادية والبرامج التجارية، بل الإشارة إلى أن المساعدات التي نوفرها تصل إلى ذروة جدواها حين تشتمل على تقديم الخدمات الأساسية، ولا ننسى أن "كوفيد–19" وجّه ضربة قاصمة إلى عائدات الضرائب والسياحة وتحويلات العمال المغتربين التي كانت تذهب إلى عائلاتهم في الوطن، ومن شأن هذه الخدمات أن تُحدث أكبر قدر من الاختلاف نحو الأفضل، وخصوصاً بالنسبة للنساء والأطفال والفئات الأشد خصاصة، وذلك في الدول التي تواجه أيضاً أزمة ديون حيث تكون الموارد شحيحة. في نهاية الأمر، تعتبر الصحة الجيدة أساس المجتمعات القادرة على الصمود في وجه الصعاب، والتي تدفع بدورها عجلة النمو الاقتصادي وترسّخ الاستقرار في الدول التي نخطط لإجراء تعاملات تجارية معها.
أخيراً، يجدر بنا أن نركّز على الاستثمار الفعال في المجالات التي تحقق تأثيرات مضاعفة، وأحد هذه الاستثمارات، الذي يعتبر من " أفضل المشتريات" بالنسبة للمستثمر، يتمثل في تأمين المياه النظيفة وتوفير الخدمات الخاصة بالنظافة وظروف الصحة العامة، بما فيها الصرف الصحي. وتفيد تقديرات أوردها تقرير أعدته منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع جمعية الأمم المتحدة الخيرية للأطفال (يونيسيف)، صدر هذا الأسبوع، بأن استثمار ما يزيد قليلاً على 20 بنساً (الجنيه الاسترليني يساوي 100 بنس) للفرد الواحد سنوياً في البلدان الأشد فقراً، من شأنه أن يضمن حصول كل المستشفيات والمراكز الصحية في الدول الأقل تطوراً في العالم على حاجاتها الأساسية من المياه وخدمات النظافة العامة بما فيها الصرف الصحي وإدارة النفايات والتنظيف.
ويعادل هذا استثماراً إضافياً تقدر قيمته الإجمالية بـ 2.7 مليار جنيه إسترليني، ويجري تقديمه على امتداد السنوات العشر المقبلة. وهذا ليس التصرف الصحيح الذي ينبغي القيام به وحسب، بل هو أيضاً استثمار جدير بأن يتحقق في إطار تحضير أنفسنا جميعاً للتغلب على الجائحة التالية التي سنواجهها.
إن تحسين سبل الوصول إلى المياه النظيفة والنظافة على نحو يستوفي شروط الصحة العامة في مرافق الرعاية الصحية، يمكن أن يؤدي إلى إنقاذ مليون امرأة حبلى وأطفال حديثي الولادة ممن يموتون بسبب أمراض من الممكن الوقاية منها، وسيلعب هذا التحسين دوراً مهماً في كبح الموجة العالمية للجراثيم الخارقة.
يُشار، في هذا السياق، إلى أن مقاومة المضادات الميكروبية باتت مشكلة باهظة الكلفة، ومن الصعوبة بمكان العثور على حل لها، وهي أيضاً عابرة للحدود، تماماً مثل "كوفيد-19"، مما يجعلنا جميعاً عرضة للخطر بسببها. ومن الممكن لهذا الاستثمار، الذي يعود بالربح على الجانبين ويصب في المصلحة العامة على المستوى العالمي، أن يؤدي إلى توفير في الإنفاق الصحي يصل إلى 15 ضعفاً للكلفة، ويسمح في النهاية للعاملين في قطاع الصحة والمرضى أن يركزوا جهودهم على تقديم الرعاية الجيدة وتلقيها.
ستسنح الفرصة خلال السنوات المقبلة لرئيس الوزراء كي يعمل على أساس هذه المبادئ، عندما تستضيف المملكة المتحدة محادثات قمتي "جي-7" (مجموعة السبع) و"كوب-26" (مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي) في غلاسكو.
هذه هي اللحظات التي ينبغي أن نواصل فيها العمل بما ينسجم مع تاريخ بلادنا كقوة تنموية عظمى طموحة، وليس للنأي بأنفسنا عن ذلك التاريخ، ويبدأ ذلك باستغلال نقاط قوتنا كافة، والاستثمار بشكل يتسم بالحكمة في أساسيات الحياة.
(ليندا تشوكر، البارونة تشوكر أوف والاسي، وزيرة الدولة السابقة لشؤون التنمية الخارجية وأفريقيا في حكومتي مارغريت تاتشر وخلفها جون ميجور)
© The Independent