تنطلق المغربية عائشة البصري في روايتها "كجثة في رواية بوليسية" (الدار المصرية اللبنانية- القاهرة 2020) من انشغال العالم بتداعيات أزمة كوفيد-19 لتغوص في ذات كاتبة تشرف على الموت وهي تقترب من بلوغ الستين من عمرها، فتمزج العام بالخاص، عبر تركيز على هاجس لطالما كان في متن إبداعها في الشعر والقصة القصيرة والرواية، وهو مفارقة العالم الذي نعرفه إلى عالم لا نملك حياله سوى تصورات نابعة من مرجعيات دينية وثقافية بالأساس.
وفي روايتها الأحدث، التي تعدّ الرابعة في قائمة ما صدر لها من روايات حتى الآن، تقدم عائشة البصري نموذجاً، يمكن القول إنه يتماهى معها شخصياً، من زوايا عدة، أهمها الجمع بين كتابة الشعر وكتابة القصة القصيرة والرواية، فضلاً عن تماثلهما تقريباً في العمر وفي الانتماء إلى المغرب.
فمنذ ما قبل الدخول في متن الرواية، تؤكد عائشة البصري أنها كتبتها أثناء فترة الحجر الصحي، في ظل انتشار جائحة كورونا، ثم تزيد الأمر تأكيداً عبر الإهداء: "إلى موتى وباء كورونا، في ذكرى موتي الأول"، وينطوي الجزء الثاني من تلك العبارة على إشارة إلى تشابه آخر بين الكاتبة وبطلتها التي تخوض تجربة الاقتراب الشديد من الموت، قبل أن تنجو، وتسمّي ما مرت به في تلك التجربة "موتها الأول".
ما بين عالمين
يخيّم الموت على العمل بدءًا من العنوان، ثم في الاستهلال الذي يتضمن اقتباسين، أولهما من كتاب "العدوى" لباولو جيوردانو: "... عندما تقرأون هذه الصفحات، سيكون الوضع قد تغيّر والأرقام اختلفت. سوف ينتشر الوباء ويصل إلى جميع المناطق المتحضرة، أو سيتم ترويضه. مهما سيحدث، ستظل تداعيات هذا الوباء قائمة، ذلك لأننا لا نتعامل مع حادث عرضي. لقد حدث من قبل، وسيحدث مرة أخرى". وهذا الكتاب يضم دراسة تمزج المادة البحثية العلمية المنطلقة من تخصص كاتبها في الفيزياء، بالنص الأدبي الفلسفي، الذي يتأمل من قلب المأساة في روما التي تحولت إلى مدينة أشباح في ذروة الانتشار الأول لـكوفيد-19. كان جيوردانو أعلن بعد نشر كتاب "العدوى" أن حقوق الطبع ستذهب إلى الأبحاث الوبائية. أما فكرة الكتاب، فقد نشأت لديه من مقال نشره في بداية تفشي الوباء في إيطاليا حول الحذر من تعقيد المعلومات وإرباك الناس الذين شعروا بالإحباط أمام فوضى الأخبار.
أما الاقتباس الثاني، فهو من فيلم سينمائي، لم تحدد الكاتبة اسمه: "لا يبقى كل شيء على حاله، فيما كل ما يحيط بك هو الموت!".
في الرواية، نجد أنفسنا مباشرة في مكان غامض، ما بين عالمين، لكنه يشبه غرفة في وحدة عناية فائقة في أحد المستشفيات، ونرى امرأة على مشارف الموت ترقد فوق سرير، وتخضع لما يشبه الاستجواب، من جانب شخص بزيّ عسكري معه مساعدة ترتدي أيضاً زيّاً عسكرياً، تدون الأسئلة والأجوبة، وتشارك أحياناً بالتعليق على إفادات "الجثة"، من أجل التيقن من جدارتها بموت لا رجعة فيه، فيما يتلقيان بشيء من المبالاة عبر جهاز لاسلكي، أخبار انتشار فيروس كورونا من مكان إلى آخر حول العالم، ويتجادلان بشأن صدق ما تدلي به المرأة/ الكاتبة، من "اعترافات"، بشأن حياتها خلال السنوات العشر التي أعقبت "موتها الأول". وفي الأثناء، يتدفق حديث المرأة الكاتبة إلى نفسها، منظوياً على تأمل ما هي فيه، واستدعاء ما لا ترغب في البوح به للمحققين اللذين يذكّرانها بالملكين "ناكر" و"نكير"، اللذين يباشران محاسبة الميت فور دخوله القبر، وفق معتقدها الديني الإسلامي. ومن البداية، تبدو ذاكرة تلك "الجثة" التي تتولّى السرد بنفسها طوال فصول العمل الذي جاء في نحو 110 صفحات من القطع الوسط، مشوّشة... "جو الغرفة يذكّرني بغرف مماثلة، ويوقظ حنيناً غامضاً لمكان لا أذكره. لولا البرد، لكانت الغرفة من الأماكن التي أحب أن أنتمي إليها" الرواية صـ 11.
هي دائماً ومنذ ولادتها كانت معتلة الصحة، وسيتضح أن "المحقق" الذي يدعى بحكم وظيفته بـ"المقرر"، وتسميه الساردة "المراقب"، يعرف عنها ذلك... "حفاظاً على سلامتك، وضعناكِ في جناح غير المدخنين. نعرف حساسية عينيك لدخان السجائر ومرضك المزمن". وما أن تسمع "الجثة" من مكبر صوت يرسل موسيقى عسكرية أنه "نظراً إلى كثرة الوافدين، نرجو منكم الانتظار. سيتم التواصل معكم فور انتهاء أحد مقرري المركز. شكراً لتفهمكم"، تقول لنفسها: "لسنا وحدنا إذاً، هناك آخرون. الغرفة جزء من بناية كبيرة. هناك أمل أن يسمع أحد ما صراخي إن احتجت للنجدة".
إصبع الاتهام
لكن ذلك لا يتاح لها أبداً، إذ إن برنامج ذلك المركز لا يسمح لـ"الجثة" سوى أن تجيب عن الأسئلة التي تطرح عليها، أما غير ذلك، فلا يُسمع، ويظل مجرد صوت لا يبرح ذاتها، لكنه يصل على نحو ما إلى "المحقق" ومساعدته، فالأول يقول لها حين فكرت بنفسها في أن المكان بلا رائحة: "لا تبحثي عن رائحة. لا رائحة في هذه الغرفة. لقد جُرّدتِ من حاسة الشم. ستستعيدنها تدريجاً كلما أبديتِ تعاوناً". وبمرور الوقت، ستلاحظ "الجثة" تعاطفاً من "المقرر"، وستتذكر أنه سبق أن رأته وتحدثت معه خلال تجربة "موتها الأول" قبل عشر سنوات، وستتعجب من عدم تعاطف مساعدته معها مع أنها امرأة مثلها، لتستدعي من الذاكرة نماذج لنساء يزايدن على الرجل في إذكاء الذكورية.
"من الحقائق التي أدركتُها وأنا أخطو نحو الستين، أننا معشر النساء، نحمل الألم نفسه، ومع ذلك فإن كثيرات يُحمّلن مسؤولية هذا الألم لبناتِ جنسهن. إنه خطأ في توجيه إصبع الاتهام لم أجد له تفسيراً" صـ 43. وهنا، ستلاحظ أنه طيلة الاستجواب "لم تنظر إليّ المساعدة وجهاً لوجه، تنحني على الكمبيوتر بجدّية وحماسة، تتحمس أكثر لما أعترف به من خطايا. تحذف أو تضيف. لا تلتفت إليّ إلا لتؤكد على اعتراف صدر عني في لحظة ضعف وانفلات مشاعر، فتسطّر بالأحمر على جمل معيّنة". ستتذكر كذلك أن طبيبها خلال "موتها الأول" كان يهودي الديانة، وأنه قال لها عندما شددت عليهم في المستشفى ألا يقدموا لها طعاماً يحرّمه الإسلام: "نحن أبناء عم، نتفق في الكثير من المحرمات والمحللات، ومع ذلك نحن أكثر اختلافاً وعداءً، والأكثر إثارة للمشاكل في العالم". وهي تعقب على ذلك أثناء "موتها الثاني"، "كان طبيباً متمكناً ولطيفاً ومع ذلك ظلت الريبة قائمة بيننا"، وهو ما يحيل إلى إشكالية الاندفاع الرسمي نحو السلام مع إسرائيل، والمغرب أحدث محطاته، فيما لا يزال كثيرون من المثقفين على رفضهم ذلك الأمر.
فاطمة أم سعيدة؟
ستتذكر أولاً أن أباها أسماها "فاطمة"، فيما أصرّت أمها على أن تسميها "سعيدة"، وظل كل منهما يناديها بالاسم الذي يهواه، لكن الاسم في الأوراق الرسمية كان ما حدده الأب لا الأم. موتها الأول كان في السادس من فبراير 2010، فيما نقلت إلى مركز الطوارئ بسبب كورونا في بداية ربيع 2020، ليتحقق موتها الأكيد في 25 مايو من العام ذاته، وهو التاريخ عينه الذي حددته البصري على أنه شهد اكتمال كتابة "كجثة في رواية بوليسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في بداية تجربتها مع "الموت الثاني"، تقرر "فاطمة" أو "سعيدة"، أن تجاري "المقرّر"، وكأنه "شهريار"، وهي "شهرزاد"... عليّ أن أجد قصة مغرية ريثما يظهر أحد لإنقاذي. طالما أنا أحكي، سأربح وقتاً أكثر، لأمطط الحياة. شعار اللحظة، إحكِ حكاية كي تعيش" صـ 26. لكن ذلك لا يحقق المراد، فتقرر التحدث عما أنجزته من أعمال أدبية، خصوصاً بعد 2010، وهو عام له دلالته لجهة ارتباط نهايته باندلاع الثورة التونسية التي أطلقت شرارة ما عُرف بـ"الربيع العربي". وهو بالنسبة إلى الساردة شخصياً كان ذلك العام هو الفاصل بين كتابتها الشعر، وكتابتها الرواية... "حين قررتُ أن أقول الحقيقة وأسمي الأشياء بمسمياتها"، وهو ما يمكن أن يكون من تبعات تفاعلها الإيجابي مع ذلك المد الثوري، كما أنه ينطبق على البصري نفسها التي أصدرت روايتها الأولى "ليالي الحرير" في مايو 2013، بعد سلسلة دواوين شعرية بدأتها بـ"مساءات" في 2001. وفي سياق تأملها لمحنة كورونا، لا تستبعد "الجثة" أن يكون ذلك الفيروس سلاحاً حربياً بين الدول، بعدما سبق أن لاحظت أن الأوبئة أصبحت في السنوات الأخيرة تُصنع في المختبرات. ثم إنها ستتوقف عند الطابع العسكري للمكان الذي يفترض أنه مركز لعلاج المرضى، أو حتى لاستقبال من فارقوا الحياة قبل أن يتاح لهم الوصول إليه، بعدما انتبهت إلى أنه قد تمت تعريتها تماماً من ملابسها، فيما غطاها شخص ما بملاية بعد وضعها فوق السرير. تساءلت عمن يكون قد عرّاها، هل هو المقرّر أو مساعدته... "إنه اعتداء يستوجب المحاكمة. انفعلتُ من الغضب، تصبّب العرق من جبيني. سخرت من نفسي. إنه رجل عسكر. البذلة العسكرية فوق القوانين والمحاكمات".
تسمع عبر مكبر الصوت: "نأسف لعدم تمكن حالات الموت الوبائي من توديع أقربائهم، وإقامة جنازات لائقة. لجبر الخواطر قررنا تمكين هذه الحالات من بعث رسالة إلى قريب حين نهاية التقرير". لكن "فاطمة / سعيدة"، تقرر أنه لا يوجد مثل هذا القريب الذي تودّ أن تترك رسالة وداع له، وتبتهج في الأخير لعدم خضوعها لفكرة الانتحار التي طالما راودتها، وتستبشر بموتها الذي لم تعُد متحمسة للإفلات منه.