Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"نعيم النساء" لإميل زولا جزء خاص جدا من "روغون - ماكار"

عندما انطلقت حداثة باريس التجارية من خلال حكاية حب هادئة

إميل زولا بريشة إدوار مانيه (غيتي)

هي كما صاغها الكاتب الفرنسي إميل زولا، وعرّفها بكل وضوح، سلسلة روايات متصلة ببعضها بعضاً، لتروي لنا حكاية عائلة فرنسية عند نهايات القرن التاسع عشر. ومن خلال تلك الروايات العشرين التي تتبع فصولاً ربما تكون متفرقة بعض الشيء من حياة تلك العائلة وعلاقاتها، من الواضح أن زولا إنما أراد أن يصور تلك التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وحتى السياسية الكبرى، التي عرفتها فرنسا خلال عشرات من السنين تبدلت فيها أحوال العائلة وأحوال البلاد، لتغيب شخصيات وتظهر شخصيات وتتقاطع مصائر، وما إلى ذلك مما يحدث عادة في الحياة "الطبيعية".

متابعون بلغات شتى

الحقيقة أن استخدامنا وصف "طبيعية" هنا ليس صدفة، بل هو بالتحديد الوصف الذي استخدمه زولا نفسه لوصف أدبه ورواياته بشكل عام، وتعريف التيار الذي كتب سلسلة الروايات هذه ضمن إطاره بشكل خاص. وهو التيار الذي سيحاول أن يتبعه فيه كتاب كبار بلغات أخرى ساروا على منواله وكتبوا ملاحم عائلية مشابهة، وإن لم يكن لأي منهم نفسه الطويل، فمن غاسوورثي في "ساغا آل فورسايت" الإنجليزية، إلى نجيب محفوظ في "الثلاثية" العربية، وتوماس مان في "آل بودنبروك" الألمانية، وصولاً حتى إلى أورهان باموك في "جودة بك وأبناؤه" التركية، كتب بعض كبار المبدعين حكايات عائلية من هذا النوع كانت "طبيعية" بقدر ما، بينما كان هو قد سار على منوال مواطنه بلزاك في سلسلته الروائية الطويلة "الكوميديا الإنسانية" التي كانت، حتى، أطول نفساً من مجموعة زولا بأجزائها التي لا تنتهي وامتلائها بألوف الشخصيات... بالنسبة إلى زولا، لم تأت الروايات العشرون متساوية في القيمة، ولا في النجاح وإن كانت تُعامل اليوم على قدم المساواة. ولئن كانت الروايات جميعاً قد اتسمت بقدر من الدرامية وامتلأت بالمآسي وضروب القطيعات، تماماً كما كانت الحياة العائلية الفرنسية خلال تلك المرحلة الانتقالية، كانت هناك لحظات أقل مأساوية ومحاولات من الكاتب بين الحين والآخر في الغوص بعيداً من الأبعاد السيكولوجية والدنو من الوصف الاجتماعي البارد في هذه الرواية أو تلك، بحيث تبدو رواية من هنا وأخرى من هناك وكأنها تحقيق صحافي طويل، فيما تبدو أخرى أشبه برواية تحفل بالوعظ الأخلاقي. ولنقارن هنا، مثلاً، بين "بطن باريس" التي تصف الحقبة الزمنية التي أُنشئت وازدهرت فيها أسواق اللحم والخضار وسط العاصمة أو "الوحش البشري" التي وإن اتخذت شكل رواية بوليسية تتنطح لوصف البدايات الملحمية للسكك الحديدية من ناحية، وبين "المهلك" التي مع اندماجها الكلي في السلسلة تبدو وكأنها عمل وعظي يبين أخطار شرب الكحول...

رواية متفردة

ويمكن مواصلة هذه المقارنة حتى تشمل الروايات كلها من "نانا" إلى "جرمينال" ومن "ثروة آل روغون" إلى "الهزيمة" ودكتور باسكال"، غير أن ما يهمنا هنا هو تلك الرواية التي تكاد تقف متفردة بين أجزاء السلسلة وعلى الأقل من ناحية اتسامها بشيء من الإيجابية، وكونها تنتهي نهاية سعيدة ناهيك بكونها تتحدث، وكما الحال دائماً، من خلال حكاية حب تبدأ بصعوبة وعراقيل لتنتهي بزواج يتمناه القارئ لبطليها، تتحدث عن نشأة ونمو المخازن الكبرى على حساب الحوانيت التجارية الصغيرة في باريس أواسط القرن التاسع عشر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نتحدث هنا طبعاً عن "نعيم النساء" تلك الرواية التي تتوسط السلسلة حاملة الرقم أحد عشر في ترتيب الأجزاء. ولربما يكون من المفيد هنا أن نذكر كيف أن علاقة الشخصيات التي تتحرك في الرواية في العائلة نفسها، تبدو واهية إلى حد ما مع أن الشخصية الرئيسة أوكتاف موريه صاحب المخزن الكبير "نعيم النساء"، الذي يعير اسمه عنواناً للرواية هو فرد من العائلة ونلتقي به مرتين أو ثلاثاً في روايات أخرى. وأوكتاف هذا هو على أية حال الشخصية الثانية هنا بعد دونيز بودو، التي تطالعنا عند البداية آتية من ريفها البائس البعيد بعد موت والديها، لاجئة إلى عمها مسيو بودو في العاصمة حيت تتطلع إلى العمل في حانوته وتأمين عيش أخويها الصغيرين. لكنها منذ وصولها تجد نفسها أمام واقع بالغ القسوة، حيث يكاد عمها يفلس إذ بارت تجارته لمصلحة المخزن الكبير المجاور لبيته وحانوته.

لكن دونيز سرعان ما تفلت من ذلك البؤس، إذ تتاح لها الفرصة كي تُستخدم كبائعة بسيطة في المخزن الكبير. وهكذا بالتوازي مع تمكن دونيز من تدبير شؤونها والإسهام مع أخيها في بناء حياة وبيت ومكانة متواضعة يربيان بفضلها أخاهما الصغير، سيعيش القارئ التطورات الإيجابية التي يصف إميل زولا، كيف تطاول نمو المخازن الكبرى في باريس، وفي غيرها من المدن الفرنسية بالطبع، وكيف ازدهرت وازدهرت معها التجارة والحياة الاستهلاكية الفرنسية في ظل عهد الإمبراطورية الثانية.

ازدهار تجاري وحكاية حب

هنا في وصفه لمسيرة الازدهار تلك، بالتوازي مع بداية ونمو حكاية حب هادئة أول الأمر، ثم معقدة بعض الشيء إثر ذلك، لا يبدو على الكاتب أنه يتطلع لأن يتخذ أي موقف لا ضد التقدم، الذي يتمثل في ازدهار المخازن الكبرى، ولا بالتعاطف مع الحوانيت الصغيرة، التي كان لا بد لها من الانهيار. فالكاتب هنا لا يجد مفراً من التقدم ومن الازدهار الاقتصادي، ولا يحاول أن يلعب على وتر الحنين لأي ماض رومانطيقي. هو هنا ليصف الأمور كما حدثت وكما تحدث وكأنه، كما أشرنا، يكتب تحقيقاً صحافياً طويلاً تتساوى فيه إيجابية التغيرات الكبرى مع إيجابية النهاية السعيدة، التي جعلها للعلاقة بين أوكتاف، رب العمل الذي لا يفوت الكاتب خلال السرد أن يصور لنا قسوته تجاه العاملين لديه، بل بخاصة العاملات على أساس أن النساء العاملات كن مستضعفات تماماً في الممارسة الاجتماعية كما في القوانين في ذلك الحين. واللافت هنا هو أن زولا سيعهد بمهمة التصدي لأوكتاف وتصرفاته إلى دونيز نفسها، إذ تشعر بقوتها حين يتطور غرامه به. أما زولا فلن يتدخل في ذلك أبداً. كان يرى أن عليه في هذه الرواية مهمة علمية لا مهمة عاطفية كما يبدو.

تحضير الرواية ككتاب علمي

خلال تحضيره لـ"نعيم النساء" قرأ زولا ألوف الصفحات ومئات الدراسات العلمية والتاريخية والعمرانية قبل أن يشرع في الكتابة. هو هنا وكما فعل في "بطن باريس" قبل ذلك وسيفعل في أجزاء أخرى من المجموعة، يريد أن يقوم بعمل مؤرخ وعمل صحافي في الوقت نفسه، ويريد أيضاً أن تنتهي الأمور على خير، لا سيما بين دونيز التي سيصلح حبها وعنادها أخلاق ذلك التاجر ورجل الأعمال الطموح، الذي سيتضح لنا منذ البداية أن الكاتب لن يصوره شريراً بل رجلاً يبذل جهده من أجل التقدم والنجاح، دون أن يكون في تربيته ما ينبهه إلى أن النجاح يجب أن يكون أخلاقياً أيضاً. وزولا إذ يعهد بالمهمة الإصلاحية الأخلاقية إلى دونيز ابنة الشعب، التي يتعين عليها أن تعتمد على ذكائها الفطري، لتقويم تعامل حبيبها مع العاملين لديه مهددة إياه بتركه إن لم يفعل، يدنو من هذه المسألة دنواً إيجابياً وقد اختار لنفسه المهة الأصعب، مهمة التأريخ لذل التطور المدهش الذي عرفته فرنسا عند نهايات القرن التاسع عشر. صحيح أن التطور انطلق من تطور التجارة، لكنه سرعان ما انعكس في العمران والعلاقات الاجتماعية والصناعة وحركة الشارع وصولاً إلى الفنون... وزولا نظر إلى هذا كله، في هذه الرواية على الأقل نظرة إيجابية سعيدة، يبدو على أية حال أنها لم ترق أول الأمر لقرائه فإذا بـ"نعيم النساء" تبيع من النسخ حين طبعت للمرة الأولى في كتاب بعدما نشرت مسلسلة في مجلة "جيل بل" أقل كثيراً مما بيع من الطبعات الأولى لروايات شقيقات لها مثل "نانا" و"المهلك" و"الوحش البشري" بيد أن الأمور عادت واختلفت بعد ذلك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة