يرجّح الباحثون أن تاريخ القهوة في الجزيرة العربية بدأ منتصف القرن الـ 15 للميلاد، إذ أدخل رئيس الإفتاء في مدينة عدن اليمنية آنذاك، القهوة إلى البلاد متأثراً باختلاطه بتجار الحبشة، فعرّف أهل منزله عليها بادئ الأمر، حتى اعتادوا عليها وعلى منافعها، وسرعان ما بدأت بالانتشار الذي قابله التحريم من قبل بعض رجال الدين، الذين فضّلوا ضمها إلى المسكرات والمحرمات.
وبعد مئات السنين، لا يستطيع الإنسان في جبال جازان إلا أن يعيش ويهيم ويدمن القهوة وزراعتها والعناية بها، كما جرت في دماء أبناء قبائل خولان القضاعية، التي امتدت جذورها على جبال جنوب الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، حتّى أطلق على أحد أجود أنواع البُن حول العالم، اسم "البُن الخولاني".
رحلة تستغرق نحو ثلاث سنوات
ولم يشترط مزارعو البُن الخولاني في محافظة الداير طريقة مثلى لإعداد القهوة، إلا أنهم يراهنون على جودتها نظراً للعناية الخاصة ببذورها وحبوبها، فهي تزرع بكل عناية في التربة لتحتضنها لمدة تتراوح بين ثمانية إلى تسعة أشهر قبل أن تصبح غرسة جاهزة للنقل إلى الحقل.
ويعرف عن المزارعين الصبر الكبير، ففي المرحلة التالية يجب عليهم الانتظار لتنمو الغرسة لسنتين أو ثلاث، قبل أن تبدأ بالإنتاج وتستمر في النمو، وسط عناية كبيرة ومراعاة المسافات بين الغرسات بما لا يقل عن مترين.
والعناية بثمرة البُن أشبه ما تكون بالعناية بالطفل، إذ يؤكد أحد ملاك مزارع وادي العين في محافظة الداير، يحيى المالكي، أن العناية بها تستوجب حمايتها من أي خدش، لأن أدنى جرح سيفسد الغصن ويمنعه من الإثمار مجدداً في المواسم الزراعية المقبلة.
وأما عن مواسم الإثمار، فتبدأ تقريباً ما بين فبراير (شباط) ومارس (آذار) من كل عام، وعلى مراحل تمتد لستة أشهر تقريباً قبل موسم الحصاد في شهر سبتمبر (أيلول) وحتى رأس السنة.
لكن سلسلة الإنتاج لا تنتهي هنا، فهي تكاد تبدأ للتو، إذ تتبعها مرحلة التجفيف بحسب ما يوضح المالكي على طريقتين، إحداهما أن يختار المزارع التجفيف على الأسطح الأسمنتية لتتعرض لأشعة الشمس المباشرة التي قد تفقدها بعض خواصها، وتستغرق هذه العملية نحو أسبوع فقط.
ويشرح المالكي الطريقة الأخرى، وأنها تتم على الأسّرة تحت الظلال لمدة تستغرق 20 يوماً، وهي الطريقة الفضلى للإبقاء على جودة الثمرة، وعلى الرغم من كلفتها المادية والجسدية، إلا أنها تحافظ على نسبة الكافيين فيها، مما ينعكس على لذّة مذاقها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مليون شجرة "بُن" بحلول 2025
تحتوي مزرعة المالكي على أكثر من 5 آلاف غرسة مثمرة، تنتج نحو خمسة أطنان تقريباً في السنة الواحدة، وتحتضن السعودية نحو 135 ألف شجرة، حصلت جازان على نصيب الأسد بنحو 120 ألف شجرة، ويوجد في البلاد قرابة 600 مزرعة، تنتج 800 طن سنوياً.
وفي سياق متصل، تستهدف وزارة الزراعة السعودية بالتعاون مع الصندوق الدولي للتنمية الزراعية، الوصول إلى زرع أكثر من مليون شجرة "بُن" خولاني بحلول العام 2025، عبر خطوات أبرزها تنمية نحو 60 مزرعة نموذجية بأنظمة ري حديث وخبراء من رواندا لتأهيل الكوادر الوطنية.
ويأتي الاهتمام الكبير بالقطاع الزراعي عامة والبُن بشكل خاص، إلى كون السعوديين يستهلكون القهوة بكلفة بلغت نحو 102 مليار ريال سعودي (266 مليون دولار أميركي) سنوياً، وهو ما يقدر بنحو 80 ألف طن سنوياً، بنصيب 108 كيلوغرامات للفرد خلال السنة الواحدة.
وفي محاولة لحفظ التنوع الثقافي في زمن لم يسلم فيه شيء من العولمة وتوابعها، رأت السعودية حفظ البُن الخولاني في قالب التراث الثقافي غير المادي لدى منظمة "يونيسكو"، التي تقول بأن "التراث الثقافي غير المادي لا يقتصر على التقاليد الموروثة من الماضي، وإنما يشمل أيضاً ممارسات ريفية وحضرية معاصرة تشارك فيها جماعات ثقافية متنوعة".