Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عام 2020 يترك عالما أكثر خوفا وقلقا واكتئابا

الآثار النفسية والاجتماعية لوباء كورونا مهيمنة وستلازم سكان الكوكب حتى إشعار آخر

أدى "كوفيد-19" إلى خسائر فادحة في الأرواح البشرية (أ ف ب)

ماذا فعل هذا الفيروس بما يزيد على 7.8 مليار إنسان على مدار 365 يوماً مضت؟ فعل الكثير. هناك من استشف منه الدروس فأصبح أكثر حكمة. وهناك من أضحى أكثر إيماناً بالمكتوب ورضاً بالمقسوم. وهناك من سعد وابتهج واحتفل بعام بلا مدرسة أو بالقليل منها. 

وبعيداً من الوظائف التي فُقِدت، والأعمال التي أغلِقت، والأنماط التي تغيرت، والعلاقات التي انقلبت رأساً على عقب، والخطط المستقبلية التي فقدت بوصلتها، والممتلكات التي فقدت معناها، والأنشطة التي خسرت جدواها، تبقى الآثار النفسية والاجتماعية لوباء القرن وفيروس العصر "كوفيد-19" مهيمنة مسيطرة ومقررة البقاء وملازمة سكان الكوكب لحين إشعار آخر. 

إشعارات متناقضة

إشعارات متناقضة يستقبلها المواطن من منصاته الإعلامية. وهذه التناقضات وحدها كفيلة بإحداث التوتر والدفع نحو الاكتئاب. محمود مصطفى (موظف، 38 عاماً) مر بما مر به سكان الكوكب من صدمة وجود وباء، ثم هلع انتشاره متبوعاً برعب فقدان العمل في ظل الإغلاق وتقلص الدخل بسبب العمل من البيت وإلغاء خانة "أوفر تايم" ثم العودة إلى حياة "طبيعية" جديدة بمقاييس مغايرة. لكن أكثر ما يزعجه حالياً هو حالته النفسية المتذبذبة بفعل تناقضات الإعلام. يقول: "في يوم واحد أطالع خبراً عن الأعراض المريعة للمرض، ثم أتابع أخبار مهرجان للسينما حيث الفنانين والحضور والاحتفالات والتكريم وكأن لا كورونا ولا يحزنون، ثم أتابع عداد الوفيات، وبعدها أخبار اللقاحات والآمال التي تحملها، ثم الأعراض الجانبية وما تحمله من مخاطر. أشعر أنني في خلاط لا يعطيني فرصة لألتقط أنفاسي. والنتيجة هي حالة نفسية شديدة التذبذب، لا سيما أن توتر العمل غير المستقر والقلق على الأبناء وتأمين تعليمهم وعلاجهم والخوف على والدتي المسنة لم تنته بنهاية الموجة الأولى". 

نهاية موجة وباء لا تعني بالضرورة نهاية آثار نفسية واجتماعية خلفها بنفسه. فالصحة النفسية والآثار الاجتماعية ليست فيروساً ينتهي باكتشاف لقاح أو حتى بكتيريا تعالج بالمضادات الحيوية، لكنها آثار تبقى، وربما تتوغل من دون أن يكون ذلك ظاهراً بالعين المجردة. 

العين المجردة لن تكشف حجم الوحش المفترس الذي تسلل على الرغم من أنف الجميع إلى الملايين طيلة عام 2020. الوسواس القهري يستحق بحق أن يكون "وسواس العام" بلا منازع. هذا الوسواس المرتبط بمشاعر القلق العارمة يضع الشخص في مرمى الأفكار غير المنطقية وهو ما يدفعه للإتيان بتصرفات تبدو غريبة ومبالغاً فيها. ولأن الشخص غالباً يكون منتبهاً إلى ما يقوم به من تصرفات غير منطقية، فإنه يحاول السيطرة على ما يفعله، لكنه يفشل في ذلك مما يسبب له قدراً أكبر من التوتر وهلم جرا.

التهابات ووساوس

شيرين حسني (49 عاماً) تعاني التهابات شديدة في يديها جعلتها غير قادرة على ممارسة حياتها بشكل طبيعي. تقول: "لم أعد قادرة على الإمساك بقلم، أو القيام بالأعمال المنزلية البسيطة، أو حتى استخدام الهاتف المحمول. وبعد جولة على أطباء الأمراض الجلدية، اكتشفت أن الإفراط في غسل اليدين بالماء والصابون ثم دعك اليدين بالمطهرات عشرات المرات في اليوم الواحد أدى إلى التهاب شديد. كانت النصيحة هي التخفيف من عدد مرات الغسيل والتطهير. لكن اكتشفت أنني غير قادرة عن التوقف عن ذلك. وحين حاولت، كانت تعتريني حالة من القلق الشديد من أن أُصاب بكورونا أو أنقلها لأبنائي أو زوجي أو والدتي ودخلت دائرة مفرغة من الالتهاب والخوف والإفراط والتوتر إلى أن اكتشفت بمساعدة طبيب نفسي أنني مصابة بوسواس قهري". 

ربما كانت حسني تعاني وسواساً قهرياً قبل بدء الوباء، وساعد هو في إظهاره. لكن المؤكد أن كورونا وما فرضه من قيود وما تسبب فيه من توتر وقلق ألقى بظلال نفسية وخيمة على الجميع. وإذا كان عام 2020 شهد كارثة الوباء، فإن 2021 ربما يشهد كارثة أثره النفسي. 

الأثر النفسي للوباء على بلايين البشر هو أحد أبرز أحداث عام 2020. دراسة صدرت قبل أسابيع من جامعة أوكلاهوما الأميركية عنوانها "الصحة العقلية ووباء كوفيد-19" تشير إلى أن أغلب الناس في أوقات الكوارث يظهرون درجة عالية جداً من المرونة في التعامل مع الأوضاع الطارئة، بل يظهر كثيرون قوة وجرأة وقدرة بالغة على التصرف بعقلانية. لكن تكمن المشكلة في "اضطراب ما بعد الصدمة" الناجم عن التعرض للصدمة. وأبرز المؤشرات الحالية تشير إلى توقع جائحة اضطرابات واكتئاب وقلق. 

تكاتف الاضطرابات 

الاضطراب الاقتصادي والاجتماعي الناجم عن الوباء يصب مباشرة في الاضطراب النفسي والعقلي. منظمة الصحة العالمية تشير إلى أن "كوفيد-19" أدى إلى خسائر فادحة في الأرواح البشرية، وهو ما يمثل تحدياً غير مسبوق للصحة العامة ووفرة الغذاء وسوق العمل. عشرات الملايين من الناس باتوا معرضين لخطر الوقوع في براثن الفقر المدقع أو وقعوا بالفعل. كما أن أعداد من يعانون نقص التغذية في منتصف العام الحالي قدر بنحو 690 مليون إنسان ويتوقع أن يقفز العدد إلى 132 مليوناً مع نهاية ديسمبر (كانون الأول).

وتشير المنظمة كذلك إلى أن ملايين الشركات وأماكن العمل تواجه تهديداً وجودياً. فنحو نصف القوى العاملة في العالم البالغ عددها 3.3 مليار شخص معرضون لخطر فقدان سبل عيشهم. عمال الاقتصاد غير الرسمي معرضون للخطر بشكل خاص، لا سيما أن أغلبهم يفتقرون إلى الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية الجيدة.  

 

 

التقارير الواردة إلى المنظمة تشير إلى أن عام 2020 شهد تزايد أعراض الاكتئاب والقلق في العديد من الدول. في إثيوبيا، زاد معدل انتشار أعراض الاكتئاب أثناء الموجة الأولى للوباء بثلاثة أضعاف على المعدلات المقدرة قبل "كوفيد-19". وأفاد الآباء والأمهات في إيطاليا وإسبانيا أن أطفالهم يجدون صعوبة في التركيز ويعانون سرعة الانفعال والتململ والعصبية. من جهة أخرى، أدت تدابير الإغلاق والبقاء في البيت إلى زيادة مشاهدة الأطفال للعنف وسوء المعاملة أو تعرضهم لهما. ويُعد الأطفال ذوو الإعاقة والذين يعيشون في الأماكن المزدحمة ومن هم بلا مأوى الأكثر والأسرع تأثراً.

عام قاسٍ على النساء

كما كان عام 2020 قاسياً مع النساء بوجه خاص، فهن ضمن الفئات الأكثر تعرضاً للمخاطر النفسية الناجمة عن الوباء، لا سيما أولئك اللاتي يحاولن الموازنة بين التعليم المنزلي لأطفالهن والعمل من المنزل والأعمال المنزلية، إضافة إلى كبار السن والأشخاص الذين يعانون مشكلات تتعلق بالصحة النفسية. في بريطانيا مثلاً، ثبت أن 32 في المئة من الشباب الذين سبق واحتاجوا رعاية صحية نفسية قبل الوباء تعرضوا لمزيد من التدهور النفسي بسبب الإجراءات المتعلقة بـ"كوفيد-19". 

وعلى الرغم من مناشدات منظمة الصحة العالمية المتكررة طيلة العام لتكون خدمات الصحة النفسية على القدر نفسه من الإتاحة شأنها شأن خدمات الصحة العامة، فإن الواقع وإمكاناته يشيران إلى غير ذلك. مدير عام المنظمة تيدروس أدهانوم غيبريسوس يقول: "اتضح بوضوح شديد أن الاحتياجات المتعلقة بالصحة النفسية يجب أن تُعالج بوصفها عنصراً أساسياً من عناصر استجابتنا لجائحة كوفيد-19 وتعافينا منها"، محذراً من أنه "لو لم يؤخذ ذلك على محمل الجد سيتكبد المجتمع كلفة اجتماعية واقتصادية فادحة طويلة الأمد". 

وداعاً للتخطيط

"الخطط طويلة الأمد" الخاصة بالمستقبل والعمل والزواج لم تعد أمراً عادياً بين الشباب كما كانت من قبل. صار مبدأ "نعيش اليوم بيومه" حاكماً. لكن حياة "اليوم بيومه" أبعد ما تكون عن الصحة النفسية. منظمة العمل الدولية تقول، إن إغلاق المدارس والجامعات ومراكز التدريب والعديد من أماكن العمل أثر سلباً على الشباب. وتشير إلى أن موجة الوباء الأولى أثرت سلباً على نحو 70 في المئة من الشباب الذين يدرسون أو يجمعون بين العمل والدراسة. كما أن 43 في المئة من العمال المتراوحة أعمارهم بين 18 و24 عاماً قالوا إن إنتاجيتهم انخفضت منذ بدأوا العمل عن بعد، وهو واقع جديد يواجه القوى العاملة. 

القوى العاملة المنعزلة أو العاملة عن بعد، والطلاب الذين تحولت حياتهم الدراسية إلى "أون لاين" تعني أن العالم مقبل على جيل جديد منعزل. مستقبل العمل غير مؤكد، ونوعية المهن والوظائف التي ستكون مطلوبة في الحياة الطبيعية الجديدة غير معروفة، والمهارات المطلوبة والخبرات المشروطة غير واضحة. وهذا واقع بالغ الصعوبة لمليارات الشباب والشابات حول العالم. 

البنك الدولي أطلق هذا العام منصة للشباب باسم "الشباب في مواجهة كورونا" (#YouthOnCovid19) الهدف منها عرض الشباب في الفئة العمرية بين 18 و35 عاماً مقاطع فيديو عن حياتهم في هذه الأوقات الصعبة. مئات الفيديوهات أرسلها شباب من الجنسين تحمل قصصاً وحكايات مختلفة عن الانقطاع عن التعليم، أو التوقف عن العمل، أو العنف الأسري وجميعها يحمل قدراً هائلاً من الضغوط النفسية والعقلية. 

ويحذر البنك الدولي من تفاقم حالة عدم اليقين فيما يختص بمستقبل الاقتصاد والوظائف والتحديات الكبرى التي تتمثل في توفير فرص عمل للشباب في عصر ما بعد الوباء وأثنائه. وبحسب تقديرات البنك الدولي، فإن الجيل الحالي من الطلاب قد يخسر نحو عشرة تريليونات دولار أميركي من الدخل مدى حياتهم بسبب الوباء. أغلب الفيديوهات التي تلقاها البنك الدولي من الشباب تتحدث عن الصمود في وجه كورونا. ويبدو أن القدرة على الصمود باتت مفتاحاً من مفاتيح الصحة النفسية والعكس صحيح. 

الأطفال يتأثرون أيضاً

وعكس المعتقد الشائع بأن الصحة النفسية للأطفال لا تتأثر سلباً أو إيجاباً بفعل ظروف الوباء وقيوده وقلاقله الاقتصادية والاجتماعية، فإن "يونيسيف" تقول إن ملايين الإصابات وآلاف الوفيات جراء "كوفيد-19" في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أدت إلى اضطراب حياة ملايين الأطفال في المنطقة. أكثر من سبعة آلاف عائلة في المنطقة شملها استطلاع أجرته "يونيسيف" عن حال الأطفال في ظل الوباء قالت إن أطفالها تأثروا سلباً خلال 2020 بسبب كورونا. 

 

 

المدير الإقليمي لـ"يونيسيف" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تيد شيبان، قال إن "القيود المفروضة على الحركة وإغلاق المدارس أثرت تأثيراً سلبياً شديداً على الروتين اليومي للأطفال وتفاعلاتهم الاجتماعية، وهو ما انعكس بشكل واضح على صحتهم النفسية". وطالب شيبان بضرورة تقديم حلول مبتكرة لمواجهة أثر الوباء النفسي والاجتماعي على الصغار. 

وإذا كان العالم كله تضرر نفسياً واجتماعياً جراء الوباء، فإن المنطقة العربية دائماً تحظى بمكانة مختلفة، بفعل أحوالها السياسية والأمنية. منظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن ما يقرب من نصف دول إقليم شرق المتوسط يموج بأزمات إنسانية وصراعات، أضيف إليها تضرر الملايين من "كوفيد-19"، وهو ما ألقى بظلال وخيمة على صحة سكان الإقليم النفسية. 93 في المئة من الخدمات النفسية المتاحة في الإقليم توقفت بسبب الوباء على الرغم من تضاعف الطلب عليها. 

وفي استجابة إقليمية طارئة للتخفيف من تداعيات الوباء، أصدرت "اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا في الأمم المتحدة" (الإسكوا) ورقة جاء فيها أنه في ظل خطر صحي عالمي شديد الوطأة على المنطقة العربية، تحول ما كان عقداً من العمل الدؤوب من أجل التنمية المستدامة إلى عقد من العمل العاجل من أجل إنقاذ الأرواح وإصلاح الأحوال المعيشية. الصراعات المتعددة والضغوط المالية التي تزخر بها المنطقة العربية تفاقمت بانتشار الوباء في عام 2020، وهو الوضع الذي يدعو إلى الاستجابة السريعة لمد يد العون للفئات الأكثر ضعفاً، لا سيما أن الأولوية لم تعد لإنقاذ دول أو مد يد العون لمؤسسات مالية أو صناعية، بل لإنقاذ أرواح. وتطالب "الإسكوا" بأن تتمحور أي جهود إنقاذ حول رفاه الناس وتضامن أركان المجتمع جميعاً. 

وكالعادة تحظى المرأة العربية بموقع متفرد كلما ضاقت السبل بالكوكب. فالمرأة العربية في 2020 واجهت مخاطر إضافية نتيجة انتشار الوباء. العزلة الاجتماعية تؤدي إلى زيادة معدلات العنف الممارس ضدها، ووقوعها ضحية للعنف يلحق أكبر الأذى بصحتها النفسية والعقلية، ناهيك عن الجسدية. وتتفاقم الأوضاع بالنسبة إلى النساء والفتيات اللاجئات والنازحات حيث العنف مضاعفاً والخطورة أكبر والأزمة أوسع.

أزمة في داخل أزمة

يخرج العالم من عام 2020 وهو يحمل "أزمة في داخل أزمة" كما سمتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر في تقرير لها يحمل عنواناً يتحدث عن نفسه: "الاحتياج الأكبر كان أن يسمعنا أحد". اختصاصيو الصحة النفسية في كل من الصليب الأحمر والهلال الأحمر وجدوا على مدى أشهر انتشار الوباء أنه قد خلف مستويات غير مسبوقة للاحتياجات في مجال دعم الصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي لدى ضحايا الفيروس وعائلاتهم والعاملين في مجال الصحة وغيرهم ممن يعملون في قطاعات التصدي للوباء، إضافة إلى عامة الناس. وقد أدى ذلك إلى "تفاقم الكرب النفسي حول العالم" في عام 2020. 

يلملم عام 2020 متعلقاته تاركاً العالم وقد أصبح أكثر خوفاً وقلقاً وارتباكاً واكتئاباً. وبينما يستقبل 2021، وهو يضع يده على قلبه خوفاً مما يحمله العام الجديد من مفاجآت غير محمودة وانكشافات غير حميدة وآثار نفسية واجتماعية تعيش لسنوات بعد انتهاء الوباء. 

المزيد من تحقيقات ومطولات