Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عبد العزيز بركة: أنفقت وقتي لأصبح كاتبا والطريق طويلة

روايته "الجنغو مسامير الأرض" منعت في السودان وفازت بجائزة الطيب صالح وبجائزة فرنسية

الروائي السوداني عبد العزيز بركة (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية - صفحة الكاتب على فيسبوك))

خرج من وطنه مرغماً بحثاً عن الحرية بعد أن ضيق عليه النظام الحاكم في بلاده حينها، واعتقله وصادر مجموعته "امرأة من كمبو كديس" عام 2005، ومنع عرض كتبه في معرض الخرطوم الدولي للكتاب عام 2012. وحظر النظام السابق أيضاً روايته "الجنقو مسامير الأرض" ومنع تداولها عقب فوزها بجائزة الطيب صالح للرواية في الخرطوم في عام 2009، وهي الرواية التي فازت أخيراً في ترجمتها الفرنسية بجائزة الأدب العربي لعام 2020، التي يمنحها معهد العالم العربي في باريس بالتعاون مع مؤسسة جان لوك لاغاردير.

هكذا أرغم الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن، إلى العيش خارج وطنه الأم "السودان"، مكرهاً من تصرفات نظام بلاده وتعنت الرقابة تجاه نتاجه الأدبي، الذي اعتبره تضييقاً غير لائق، وغير مقبول في عصر الانفتاح والمعلوماتية، على رغم أنه يصف نفسه بأنه "كاتب حسن النية والأخلاق، وداعية للسلم والحرية".

ولد بركة ساكن، في مدينة كسلا التي تقع شرق السودان (480 كيلو متراً عن الخرطوم)، لكن نشأته تقاسمتها مدن عدة هي القضارف، وخشم القربة، وحلفا الجديدة التي قضى فيها سنوات الدراسة في ثانوية الطبري، والتحق من ثم بجامعة مدينة أسيوط بمصر (كلية التجارة تخصص إدارة أعمال) التي تكون فيها معرفياً وأدبياً.

دافع الكتابة

كيف كانت بواكير إنتاجه الأدبي، وسر اكتشافه لموهبته، يقول عبد العزيز ساكن في حواره مع "اندبندنت عربية": "في اللحظة التي أنهيت فيها قراءة كتاب قصص الرعب والخوف لادغار الان بو، قررت أن أصبح كاتباً من أجل هدف واحد، هو أن أكتب نصوصاً ممتعة مثل تلك القصص التي قرأتها، إذ لم أكن أعرف حينها من هو ادغار الان بو، ولا شيئاً عن المترجمة التي هي الأستاذة خالدة السعيد. وكل ذلك لا يهمني، ما يشغلني هو النصوص والقصص الغريبة التي تجعل قلبي يسرع في دقاته مثل الطبل وتشحن منامي بالكوابيس. وتجبرني على الذهاب إلى مكتبة المدينة لأنفق كل النقود القليلة التي أحصل عليها من العمل في المزارع وبيع الفول السوداني وبذور البطيخ والمانغو والأسماك التي اصطادها من النهر في وقت الفراغ، وما تعطيه لي والدتي كل صباح من أجل شراء فطيرة الإفطار في المدرسة. فوقتها كانت الكتب غالية ونادرة، وعادة ما يتم تبادلها في القرية، ويمر الكتاب الواحد بكل من يحب القراءة. ويبدو أنني حرمتهم من ادغار الان بو، فقد أخفيته تحت صخرة عند ضفة النهر (بعد أن سرقته) أحج إليه كلما اشتقت للرعب".

ويستدرك قائلاً: "حصلتُ على الكتاب بصورة درامية، ففي بيتنا لا توجد كتب، فقط هنالك المصحف الذي ليس للقراءة، إذ تحتفظ به الأسرة في مكان ما بعيداً عن أيدي الأطفال، ولا يُستخدم إلا عند ميلاد طفل جديد في الأسرة. يوضع المصحف تحت وسادة الطفل حتى لا تختطفه الشياطين أو تستبدله العفاريت بطفل من أطفالها المشوهين، كما هو معتقد عند الأمهات".

أول كتاب قرأته

وتابع ساكن: "ولجتُ "قُطية" وهي غرفة صغيرة تبنى من القصب اليابس، تخص أخي الأكبر حسن عبيد، وكان غائباً لأسبوع كامل في أحد مواقع العمل خارج المدينة، ما وفر لي فرصة أن أدخل "قطيته" المحرم علينا دخولها عادة. وتحت وسادته وجدت كتابين، هما "التفاحة" و"الجمجمة" لمحمد عفيفي والمجموعة القصصية التي تخص ادغار الان بو، جذبني العنوان الغريب: قصص الرعب والخوف. فسرقت كتاب بو وهربت به إلى شاطئ النهر حتى لا يراني أحدهم ويشي بي، والتهمته التهاماً، وكان ذلك أول كتاب أقرأه في حياتي بعيداً عن مقررات الدراسة النظامية، وكنت في حينها تلميذاً في المدرسة الابتدائية وعمري نحو ثلاثة عشر من الأعوام".

وعن بداياته في الكتابة، يوضح: "لم أكن أفكر آنذاك في ما أكتب، كنت مشغولاً بالسرد والحكي وحيل توصيل الفكرة، وقد كتبتُ ما أسميته لاحقاً تمارين في الكتابة، وهي قصص قصيرة ومسرحيات وما يُشبه الرواية القصيرة التي أسميتها "تحت النهر". وهي تحكي عن طفل عنيد لا يصدق ما يقوله الناس عن الشياطين، التي تسكن قاع النهر وتخرج بعد مغيب الشمس لتمارس حياتها وتخطف إلى القاع كل سيئ حظ تصادف وجوده هنالك. كانت تلك هي روايتي الأولى كتبتها في كراسات الإنشاء والواجبات المدرسية، حيث لم أكن أمتلك نقوداً لشراء الورق. وحالما "ضبتني" أستاذ اللغة العربية سعيد أبو بكر وبدلاً من أن يعاقبني أثنى علي وجعلني أقرأ روايتي للطلاب في كل فصولهم، فصلاً فصلاً، وكانت تلك أول قراءة لنص أكتبه، ما حفزني على مواصلة الكتابة والقراءة باللغتين العربية والإنجليزية من أجل أن أصبح كاتباً. وقال لي: "ما في كاتب لا يعرف أكثر من لغة." حتى الآن لا أعرف من أين حصل على تلك الفكرة، ولكن أفادتني اللغة الإنجليزية في الاطلاع على آداب الآخرين بلغتهم".

يؤكد الروائي السوداني: "تمحورت حياتي منذ سن مبكرة كما ذكرت حول فكرة واحدة، هي أن أصبح كاتباً في مهارة ادغار الان بو، وروح جبران خليل جبران. وأنفقت كل وقتي من أجل ذلك الهدف، وما زلت".

أول قصة

 في سؤالنا له عن أول عمل قصصي قام بكتابته، أجاب: "أول قصة قصيرة كتبتها هي ـ خلا التمارين ـ كانت بعنوان "حَجَر". وكنت حينها طالباً في جامعة أسيوط، عندما خطرت لي فكرة أن أرسلها لأهم مجلة أدبية تصدر في ذلك الوقت، وهي مجلة "الناقد" اللندنية التي يرأس تحريرها الأستاذ نوري الجراح. ووصلتني منه رسالة بخط يده تتضمن الموافقة على النشر، فسعدت بذلك كثيراً، ولو أنني لم أستطع شراء المجلة، كان سعرها يساوي نصف مصروفي الشهرى، ولكن عم سيد بائع الصحف سمح لي بقراءتها واقفاً عند متجره الصغير. هكذا كُنت أقرأ إصدارات "عالم المعرفة" الكويتية، ومجلة "القلم" العراقية و"الأدب الصيني" بالإنجليزية بالأسلوب نفسه. في الحقيقة أهملت دراستي الجامعية تماماً واستبدلتها بما يشبه السكن في المكتبة العامة عند قصر ثقافة أسيوط، حيث القراءة مجاناً وعلى مقعد مريح وفي غرفة هادئة، كما أنني واظبت على حضور جلسات نادي الأدب التي تقام أيضاً في قصر الثقافة، ويحضرها لفيف من المثقفين والكتاب".

وأردف قائلاً: "ليس هنالك سبب خاص دفعني لكتابة الرواية، سوى التجريب في السرد".

هاجرت مجبراً

وعن سؤال حول سبب هجرته إلى خارج السودان، يجيب: "إنها ليست هجرة اختيارية، ولكنه منفى. خرجت إليه مجبراً بعدما ضيقت علي حكومة الإخوان المسلمين في السودان سبل الكتابة والحريات الأساسية، فخرجت من أجل أن أكمل مشروعي الأدبي بعيداً عن الاعتقال والتنمر".

ولمعرفة رأيه عن مدى إسهام الرواية السودانية في تشكيل الوعي السوداني، يقول بركة ساكن: "يصعب التكهن بذلك، فالفن والأدب ليسا سهلين في بلد تنتشر فيه الأمية وتدني مستوى القراءة، بالإضافة إلى الصعوبة في الحصول على الكتاب في الأصقاع النائية في بلد ممتد، لا توجد فيه مكتبات عامة أو حتى مكتبات تجارية توفر الكتب، ولا توجد معارض للفنون التشكيلة أو مسارح فاعلة. فتأثير الأدب لا يحدث بسهولة، يحتاج لبيئة لا يمكن توفرها في الوضع الحالي الذي تعيش فيه بلادنا. حروب وفقر وسوء إدارة، وضعف المؤسسات الثقافية والتربوية وصعوبة الحصول على الكتاب والأعمال الفنية، والفساد السياسي والاجتماعي والمليشيات المسلحة، ولكي يصبح الأدب مؤثراً، يحتاج لبيئة معافاة خالية من تلك الأشياء".

لكن كيف واجهت الرواية السودانية اللحظات السياسية الماضية والراهنة، كالحروب والثورات وهموم الوطن والمواطن بصورة عامة؟ يجيب: "هناك كتاب عالجوا تلك الإشكاليات أدبياً، كما أن البعض كافح بجسده وبعضهم تفرج، ولكن هنالك بعض الروايات التي غاصت عميقاً في شأن الإنسان".

وسألناه هل تجاوزت الرواية السجال القديم حول الثالوث المحرم (الجنس، والدين، والسياسة)، فلم يعد محرماً كما في العقود السابقة، إذا استحضرنا ما واجهته بعض أعماله الأدبية من المصادرة والمنع، يؤكد ساكن، بالقول: "لم تكن تلك موضوعات الرواية، فالروايات عمل أدبي يعمل في اللغة، والتابوهات وضعية اجتماعية. هي ليست نصوصاً إبداعية، كما أنها ليست موضعاً للتناول في صورة منفصلة عما هو كائن في النص الإبداعي. موضوعات الرواية، هي الحياة وغير الحياة وأدواتها هي لغة الكتابة والأخيلة. أما المصادرة فهي أداة سلطة قمعية يتزعمها تنظيم عنصري يرى أن تقييد الجسد والعقول يضمن له الاستمرار في الحكم إلى ما لا نهاية".

وحول رأيه عن أسباب إقبال بعض الدول الأجنبية على ترجمة أو إصدار الروايات السودانية والعربية، يقول: "لا أعرف دولة ما في العالم تقوم بذلك، فالنشر هو مبادرات مؤسسات ومترجمين ودور نشر وكتّاب. لكن يجب على الدولة أن تهيئ الظروف الموضوعية لكل ذلك، مثل حرية النشر والكتابة وإبداء الرأي والأمن".

تجربة الطيب صالح

لا يخفي ساكن أثر تجربة الأديب الراحل الطيب صالح على أعماله وتجربته الروائية، قائلاً: "بالتأكيد الطيب صالح، والقاص والروائي عيسى الحلو، والقاص إبراهيم إسحق، والروائي مبارك الصادق، والروائي إبراهيم بشير صاحب الزندية، والشعراء مثل فضيلي جماع، وعالم عباس، وعبد الله شابو، وغيرهم، إضافة لكل ما قرأته من شعر ورواية ومسرح، وكل ما شاهدته من لوحات تشكيلية، وغير ذلك من الفنون والفنانين في كل أنحاء العالم، كان له أثر في ما أكتب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن كيف يصف ما وجده من احتفاء خارجي وتكريم، وسبب الاحتفاء برواية "الجنقو مسامير الأرض" دون غيرها، يقول: "الترحيب هذا العام برواية "الجنقو مسامير الأرض" لأنها نُشرت بالفرنسية الآن، والأعوام السابقة وجدت رواية "مسيح دارفور" في نسختها الفرنسية احتفاء أكبر، بحيث نالت ثلاث جوائز في فرنسا وسويسرا، وهي "جائزة أدب عالمي"، و"جائزة الأدب الأفريقي"، و"جائزة أدب المقاومة". وصنفت ضمن أفضل خمس روايات ترجمت للفرنسية لكتاب أفارقة. أما رواية "الجنقو" فقد نالت جائزتين في هذا الموسم الثقافي في فرنسا وهما "جائزة الأدب العربي"، و"الجائزة الكبرى للترجمة" في فرنسا".

أين يجد بركة نفسه أكثر، في القصة القصيرة أم الرواية أم غيرها من أنواع الإبداع الأدبي الذي يمارسه، يقول: "أجد نفسي في قراءة الشعر، أما الكتابة فهي مغامرة أدخلها مجبراً، من أجل التخلص من الخوف".

ورغم ما ناله بركة ساكن من جوائز وشهرة، لكنه يرى نفسه بأنه في بداية الطريق، فقد سألناه هل أنتجت ما تحلم به من أعمال أدبية، أم أنها ما تزال رهن المستقبل؟ يقول: "ما زلت أتلمس طريقي وأجرب".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة