Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الشاي" الثابت الوحيد في عالم غيرته الرأسمالية

النصبة والمنقل وعربات الباعة المتجولين هي الوجهة المفضلة لمحبي المشروب الدافئ

لم تترك الرأسمالية قطاعاً إلا وأعادت تقديمه على أسس أكثر عصرية، وربما أكثر جودة في بعض الأحيان. فالقهوة، المشروب الشائع في كل أنحاء العالم لم يعُد ذاك الذي كنّا نشربه قبل سنوات من الآن.

فصناعة القهوة وتقديمها تجارياً طرأ عليها كثير من التغيير والتبديل، نقل القهوة من شكلها الشعبي الذي لم يعُد قادراً على استيعاب متطلبات "القهوة المختصة"، إلى طاولات المقاهي الهادئة وأكواب الشرب المزينة، باهظة الثمن.

إلا أن الشاي، الذي خاضت إمبراطوريات الزمن السابق حروباً لأجله تحت مسمّى "حروب الشاي" غيّرت بوصلته واتجاهات تجارته، لا يبدو أنها استطاعت حتى يومنا الحالي تغيير الشكل الشعبي لصناعته وتجارته وطرق تقديمه، على الأقل في العالم العربي.

فبعد أن بحثنا عن الشاي في يومه العالمي، 15 ديسمبر (كانون الأول)، وجدنا أن وراء كل مبنى يجري تشييده في مصر "نصبة شاي"، وفي كل زقاق في شوارع فلسطين الضيقة عربة تفوح منها رائحة اليانسون والشومر، وفي كل شارع فرعي لا تصله عين البلدية في السعودية "منقل" عليه أباريق كانت صفراء قبل أن تحيلها أمزجة المارة إلى السواد بفعل الجمر المشتعل تحتها، أو إبريق مزخرف في المغرب ينتظر انتهاء "التشحيرة" قبل شربه.

فتلة وتلقيمة وشاي أعشاب

تحافظ محال تقديم الشاي في الدول العربية على شكلها التقليدي، إذ لا تزال المقاهي الشعبية وباعة الرصيف هم الوجهة المفضلة لاحتساء الشاي في مصر.

وتحت أي مسمّى، يظل المشروب المدرج ضمن منظومة السلع المدعومة في ما يعرف بـ"بطاقة التموين" لمكانته في البلد العربي الكبير، ذا مكانة عالية، بخاصة الذي يباع على الطريقة الشعبية، فمنها ما يتم عن طريق سكب الماء الساخن عليه في ما يسمّى بـ"شاي فتلة"، ومنه ما يظل يغلي على النار حتى تتغير ملامحه وتتبدل معالمه، ومنه ما يخلط بالحليب أو يكتسب نكهة القرنفل أو يضاف إليه النعناع، ومنه أيضاً ما يمكن أن يهدد الأمن العام ويثير البلبلة.

يقابل "الفتلة" المصرية، "شاي التلقيمة" في السعودية، إذ يفضل معظم من يتعاملون مع الشاي بشكل خاص شرب هذا النوع بالتحديد، الذي يتم تحضيره عن طريق سكب أوراق الشاي المجففة بشكل مباشر في الماء الساخن ويترك ليغلي حتى يميل لونه إلى الأسود ثم يشرب.

وللسعوديين أهواء في ما يتعلق بالنكهة المضافة، فقليل ممن يشربونه من دون إضافة أوراق النعناع أو الحبق أو المخلوط من النبتتين العطريتين معاً، فيما بدأ شاي "الكرك" القادم من العراق يقتحم طاولات باعة الرصيف في بعض مناطق السعودية، وهو شاي أيضاً لكن ببعض الإضافات التي تغيّر طعمه ولونه بسبب الحليب والبهارات الكثيرة التي تعتري نكهته.

ولا يختلف محبو الشاي حتى لو اتجهنا إلى فلسطين، فعادة ما يشربونه متوسط الاحمرار بالنعناع أو الميرمية، ولكن بعض الأشخاص يضيفون إليه أعشاباً أخرى كاليانسون والشومر والليمون وغيرها. وإن دخلت دكان أي عطّار هناك ستجد تشكيلة واسعة منه، فأنت إما تشتري الشاي جاهزاً داخل علب، بطعم الياسمين أو الفواكه وغيرها، أو تصنع تشكيلتك الخاصة وتعدّها داخل المنزل، وثمة من يلجأ إلى الإضافة، بخاصة في ساعات الصباح الباكر، وهناك من يشربه من دون سكر ليشعر بطعمه وليتمكّن من تناوله بكميات.

لا يشرب الـ"أتاي" إلا بعد "التشحيرة"

يُحضَّر الشاي المغربي، أو الـ"أتاي" كما يطلق عليه محلياً، في دمج لكلمتي شاي وTea الإنجليزية باعتبار الإنجليز هم من عرّفوا المغاربة إليه، باستعمال الشاي الأخضر الذي يُنقع في الماء المغلي داخل "البرّاد"، وهو إبريق مزخرف، توضع فيه حفنة من أوراق النعناع، ثم يُملأ بالماء المغلي بعد إضافة كمية من السكر، فيُترك لبضع دقائق على نار هادئة، وهذه المرحلة الأخيرة تسمّى محلياً بـ"التشحيرة" تكتسب أهمية كبيرة باعتبارها تضمن جودة عالية ومذاقاً مميزاً للمشروب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقدّم بعدها إلى متناوليه، وفق طقوس صارمة يظل فيها عدد الكؤوس المقدمة للضيوف مؤشراً إلى مدى الترحيب بهم، في حين يعتبر عدم تقديم الشاي للضيف علامة على أن الزائر شخص غير مرغوب فيه، ما يزيد من أهمية احترام طقوس إعداد المشروب.

والشكل الشعبي للشاي في المغرب يختلف قليلاً عن الآخرين، إذ تتسم شعبيته هناك بالأواني المزخرفة، التي تعكس التراث المغربي المنبثق من الثقافة الأندلسية، إذ يوضع "البراد"، برفقة الكؤوس التي تكون في العادة من النوع التقليدي، وكأس "البلار" كما يسمّى هو أرفع أنواعها وأغلاها ثمناً، بجانب "الصينية" و"الربايع" وهي ثلاث علب معدنية، تكون مخصصة للشاي والسكر والنعناع.

يشترك "البراد" و"الصينية" و"الربايع" بكونها مصنوعة من المعدن ذاته، سواء من الفضة الخالصة، أو من معدن مشابه، وتحرص العائلات المغربية على أن تحتفظ تلك الأدوات بلمعانها البراق عبر غسلها باستمرار.

العين تشرب الشاي أيضاً

في فلسطين، هناك شروط خاصة في اختيار الأواني، تقول فرح، إحدى اللواتي التقيناهن هناك، إن القدح الزجاجي هو الأفضل لأنه يتيح لها التأمل في الشاي قبل شربه، لذلك تحمل دائماً قدحاً زجاجياً أينما ذهبت، ويوافقها الرأي عمار، الذي يقول إن "الطعم والحرارة الدافئة يختفيان إذا سكب الشاي في أكواب ورقية".

أما الأباريق، فيحمل الفلاحون واحداً أسود أثناء موسم قطف الزيتون في أراضيهم الجبلية، ليشربوا الشاي في مزارعهم مع "خبز الطابون" والمناقيش وخلطة البصل والبندورة على الفطور. ففي كل أرض كانوا يتركون إبريقاً ويحملون دائماً السكر والشاي معهم وأكواب الكرتون، لإعداد المشروب على الحطب مرتين على الأقل، يضاف إليه بعض البهارات كالقرفة مثلاً، لأن "الشاي بالقرفة هو مشروب الشتاء لبعض الفلاحين".

منقل مقابل نصبة

المنقل هي قطعة معدنية بسيطة، مكشوفة السطح مجوفة، يستطيع باعة ما يعرف بـ"شاي الجمر" في السعودية حملها بخفّة والهرب عندما يغير عليهم موظفو البلدية، يشعلون عليها الحطب حتى يحترق ويحال جمراً مشتعلاً، ثم يضعون أباريقهم المحترقة عليها ويجذبون المارة برائحة الحطب وطعمه الذي يلتصق بالشاي وأكوابه.

طعم الجمر ورائحته سبب رئيس في صمود هذه التجارة البسيطة، كما يقول أبو تركي، أحد باعة "شاي الجمر" في العاصمة السعودية الرياض، "الناس تحب شاي الجمر لأن طعمه مختلف عما يحضّر على الأفران، إضافة إلى أن الشاي الذي نعدّه هو شاي تلقيمة، عكس المقاهي التي تقدّم شاي ليبتون الذي يمكن لأي شخص أن يحضّره في منزله"، وهو السبب الرئيس وراء صمود "المناقل" أمام طاولة المقاهي الهادئة.

أمر مشابه يحدث في مصر، لكن من دون منقل، بل "نصبة" لا يكاد يخلو منها شارع في القاهرة، بنيتها الأساسية إبريق وأكواب وصحن كبير مملوء بالماء وأكواب وملاعق وشاي وسكر، بلا أوراق أو ترخيص.

هذه النصبات لا تلقى إقبالاً واسعاً لأنها تعتمد على "شاي التموين" المدعوم الذي تباع عبوته بثلاثة جنيهات مصرية (0.19 دولار أميركي)، مقابل شاي "ستاربكس" ذي الجنيهات الـ25 للكوب الواحد (1.59 دولار أميركي)، بل هناك سبب أعمق.

فالنصبة ظلت رفيقة ملازمة لكل عربة فول ومجاورة لها، بهدف تسهيل عملية الهضم في ممارسة يتنادى إليها المصريون بعد ترك عربة الفول بـ"نحبس بكوب شاي؟"، ليذهبوا إلى أحدها تحت مبنى يتم تشييده، أو منطقة يتجمع فيها سائقو الأجرة للراحة، ويبدأوا الحديث عن الطقس وأداء الحكومة ومشكلات "العيال" وخسارة ترمب والتعليم الإلكتروني وفستان إلهام شاهين.

وتتّسم أدوات الباعة في هذين الشكلين بالخفة، ما يساعد البائع على الهرب من المفتشين والحملات الحكومية التي تبحث دائماً عن تراخيص لدى الباعة الذين لا يمكن أن تتوفر اشتراطاتها فيهم، وهو ما يجعل أدواتهم دائماً تحت تهديد المصادرة في ما لو وقعت في أيدي المراقبين. لكن السؤال الأهم، أين يشرب موظفو التفتيش هؤلاء الشاي عادة؟

مرخّص؟ لا يهم

أحداث يناير (كانون الثاني) 2011 في مصر لم تترك وراءها آثاراً سياسية واقتصادية مزلزلة فقط، لكنها خلفت ميداناً، الشوارع المؤدية إليه مكتظة بالعشرات من نصبات الشاي، التي أصبحت سمة من سمات "ثوار التحرير" مع اختلاف توجهاتهم وأيديولوجياتهم على مدار سنوات البلبلة السياسية، إذ يبدو أنها المكان الذي يمكن أن يجتمع فيه الإخوان والاشتراكيون الثوريون والأطياف الواقعة بينهما من مواطنين عاديين وآخرين نصف مسيّسين، وكل من أفرزتهم تلك المرحلة السياسية الملتهبة.

لكن هناك طرفاً آخر لا يلتقي مع كل هؤلاء، حتى بائع الشاي ذاته، وهم أفراد الشرطة (لا سيما الأمناء والجنود) الذين يلجأون إلى النصبات لشرب الشاي رخيص الثمن أثناء ساعات العمل، في حين يطاردون بعد ذلك باعة الشاي لعدم حملهم رخصة.

أمر مشابه يحصل في السعودية، كما يقول أبو تركي، "كل طبقات المجتمع تفضل شاي الجمر، لا يوجد طبقة معينة، طبقة محبي الشاي فقط، حتى موظفي البلدية يعرفون أني أفضل من يعدّ الشاي في المكان".

وحول معاناته مع مطاردة البلدية، يضيف "في كل مرة يجدون خيمتي هنا، يضعون عليها ملصق إزالة"، لعدم مراعاتها الاشتراطات. ويقول "هم لا يريدون الشكل الشعبي الذي أعمل به، يريدون مني أن أحضر تراك أو عربة وأحصل على ترخيص وكل ذلك يتطلب دفع أموال لا يمكنني دفعها".

وفي وقت تتصادم الشروط الصحية والرقابية مع توجّه السوق، يحافظ باعة الرصيف المتجولون على الطريقة الشعبية التي تعطي الشاي مكانته التي يستحقها، بعدما انتقلت القهوة إلى المقاهي الفارهة مع موسيقى كلاسيكية هادئة، وتركته على الرصيف مع هدير محركات السيارات وأصوات عمال البناء في الأحياء غير المكتملة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات