Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركي الباكستاني أياد أختار يروي محنة الهوية في الولايات المتحدة اليوم

"مرثيات وطن" محاولة استكشاف جريئة للذات والعالم بعد 11 سبتمبر 2001

الروائي الأميركي الباكستاني أياد أختار (الخدمة الإعلامية في دار ليتل براون - نيويورك)

نعرف الأميركي أياد أختار كاتباً مسرحياً من أصول باكستانية حصد عام 2013 جائزة "بوليتزر" العريقة عن مسرحيته "موصوم"، ووضع رواية لا تقل أهمية بعنوان "درويش أميركي" (2012). وها هو يعيد ابتكار ذاته ككاتب بخطّه كتاباً يخرج عن المألوف صدر حديثاً عن دار "ليتل براون" النيويوركية بعنوان "مرثيات وطن"، ويلجأ فيه إلى نوع الرواية السير ذاتية الخرافية (autofiction) لسرد فصول من حياته تكشف من خلال ذلك محنة أن تكون كاتباً مسلماً في أميركا بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001. رواية تجريبية يتناول فيها أيضاً قصة والديه وروابطهما بوطنهما الأم ووطنهما بالتبني ــ أميركا ــ حيث استقرا في نهاية الستينيات.

حول هذا العمل الباهر الذي حصد مقالات مديح لا تحصى، أسرّ أختار إلى أحد الصحافيين: "أردت العثور على شكل أدبي يعبّر عن ذلك الالتباس بين حقيقة وخرافة والذي يبدو أنه أصبح أكثر فأكثر نسيج واقعنا أو لا واقعنا". ومن هذا المنطلق، يصعب على قارئ روايته تمييز بطلها وراويها عن كاتبها، ليس فقط لأنه يحمل الاسم نفسه، بل لأنه وضع أيضاً نصاً مسرحياً مثيراً للجدل حصد جائزة "بوليتزر"، وتقر واحدة من شخصياته الرئيسة المولودة في أميركا وذات الأصول المسلمة بأنها شعرت، لدى انهيار برجي "مركز التجارة العالمي" في نيويورك، بشيء غير متوقع وغير مرحّب به، بشعور بالفخر.

بدلاً من حبكة روائية تقليدية، تنتظرنا في هذه الرواية بنية مشهدية فريدة من ثمانية فصول، بعضها سردي وبعض آخر ذو طابع بحثي، وفي جميعها يقارب الكاتب بنثر ملتهب وبصيرة نادرة موضوعات مختلفة، كالعائلة والسياسة والفن والمال والجنس والدين والأحكام المسبقة. فصول تعج أيضاً بالأحلام والتعليقات والانتقادات اللاذعة والتأملات، على خلفية أحداث تاريخية راهنة، أبرزها حدث 11 سبتمبر 2001 الذي كشف كراهية عميقة للطائفة المسلمة في أميركا، وحدث صعود نجم دونالد ترمب ووصوله إلى سدة الرئاسة الذي أدى إلى تأجيج هذه الكراهية وتسبب بإساءات تجاه أبناء هذه الطائفة لم يسلم منها الكاتب نفسه.

شخصيات مؤثرة


تنتظرنا أيضاً في الرواية شخصيات مثيرة ومؤثرة، أبرزها: والد أختار، سيكاندر، وهو طبيب قلب جراح لامع حظي بفضل مهاراته واكتشافاته داخل ميدانه بشهرة كبيرة وبمرضى مثل دونالد ترمب، وعانق "الحلم الأميركي" ودافع عنه بشراسة لا تخلو من سذاجة، قبل أن يختبر الألم مع وفاة زوجته وينحدر مساره فيخسر ما جناه على طاولات القمار ويخضع لمحاكمة بتهمة خطأ مهني لم يرتكبه. لدينا أيضاً والدة أختار، وهي امرأة كئيبة تعاني من حالة حنين كبير لوطنها الأم ومن أسف شديد لاقترانها بسيكاندر بدلاً من زميلها السابق في كلية الطب وصديق زوجها الحميم الذي بقيت تحبه في السر حتى وفاتها. لدينا رياض ريند، الموظف المصرفي المثلي الذي يدير واحداً من صناديق الوقاء (أو المجازفة العالية) في وول ستريت، ويأخذ أختار تحت جناحه ويمنحه أمثولة في الحقائق الباردة لرأس المال، وبالتالي في الجانب المفترس للرأسمالية.

لكنّ قيمة الرواية تكمن خصوصاً في التأملات التي يقودها أختار داخلها في وضع أميركا الراهن وفي تحليله الثاقب للمشاكل التي تتخبط بها. وفي هذا السياق، يبين لنا ارتباط صعود الأيديولوجيا العنصرية والمعادية للمهاجرين بفشل النظام الرأسمالي في تحسين أوضاع الطبقة العاملة في المدن الصغيرة والأرياف، ويكشف النتائج الوخيمة لوقوع ممارسة الطب اليوم في دائرة الكسب المادي، وتراجع القطاع الصناعي أمام تنامي السوق المالية وسلطتها، ويفضح توقف الإدارة الأميركية عن تطبيق قانون مكافحة الاحتكار الذي أدى إلى التهام السوق على يد عدد محدود من الشركات الكبرى، من دون إهمال الجور المنهجي الذي يواجهه ذوو البشرة السمراء في بلاد العم السام.

ولأن تأملات الكاتب في "مرثيات وطن" لا تقتصر على وضع أميركا الداخلي، نراه يحط بنا تارة في أفغانستان لتعرية مسؤولية أجهزة الاستخبارات الأميركية في ما يحصل من حروب وصراعات داخل هذا البلد منذ ثلاثة عقود، وأخرى في باكستان حيث يعود إلى ظروف ولادة هذه الدولة وسيرورة تطورها في اتجاه فساد مدني وحكومي علني، من جهة، وفي عداء مفتوح للأجانب وكل من يختلف مع مسؤوليها وأبنائها في الرأي، من جهة أخرى. وبدلاً من أن تثقل المشاكل الاقتصادية والسياسية الغزيرة التي تقاربها حبكة روايته، نراها تنساب بيسر نادر داخل صفحاتها وتعزز من وقع سرديتها وقيمتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولأن أختار لا يلتزم بأي محظور داخل نصه، يسرد أيضاً فيه بعض مغامراته العاطفية والجنسية، كعلاقته بشابة أميركية مسلمة يقع في غرامها وتفترق عنه في النهاية، لكن ليس قبل أن تنقل إليه مرض الزهري؛ ويتوقف عند فصل معاشرته المشاهير والأثرياء خلال فترة من حياته، بفضل صديقه رياض ريند، ما يمنحه فرصة لخط بورتريه مثير للأرستقراطية الجديدة. ومع أنه سيعي بسرعة أنه لم يكن في تلك الفترة سوى "متزلف نيو ليبيرالي"، فيبتعد عن هذا المحيط، لكن ذلك لن يمنعه من الاستفادة من صديقه رياض لتوظيف كل ما يملكه في مشروع مالي مشبوه وجني أكثر من خمسة ملايين دولار.

باختصار، "مرثيات وطن" رواية شخصية عميقة حول الأمل والهوية في أميركا اليوم، يمزج صاحبها فيها الواقع بالخرافة لسرد قصة ملحمية عن الانتماء وفقدانه في العالم الذي انبثق بعد 11 سبتمبر 2001. ولكتابتها، شحذ صوتاً سردياً جديداً قادراً على الإمساك ببلد دمر الدَين فيه حياة عدد كبير من أبنائه، وتمت التضحية بمُثُله العليا على مذبح الكسب المادي؛ وترأسه شخصية تلفزيونية عصابية، ويعيش المهاجرون داخله في خوف دائم، وتعيث جروحه الحديثة التي لم تلتئم بعد الخراب داخله وخارجه على حد سواء. رواية يسعى أختار فيها إلى استخلاص معنى لكل هذا عبر موشور قصته وقصة والديه، ولا يوفر أحداً في طريقه، بما في ذلك نفسه.

رواية لا نقرأها إذاً لمتعة السرد الخرافي التقليدي فيها، مع أن أختار يبرع في هذا الفن، بل لأنها محاولة استكشاف جريئة للذات والعالم، ولتشكيلها تحقيقاً عميقاً واستفزازياً في الهوية الأميركية المعقدة والإشكالية لكاتبها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة