Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البلكونة" مخزن ذكريات الأسرة المصرية تتحول إلى خزانة كراكيب

شرفة المنزل كانت مركز تجمع العائلة وأغلقت بعدما أصبحت مصدراً للإزعاج وتعدد استخدامها

البلكونة أصبحت الوجه الآخر للمخزن (حسام علي.إندبندنت عربية)

من متنفس للعائلات وصانعة للذكريات إلى مخزن للكراكيب ومساحة للكراتين القديمة ومنها إلى خندق منزوٍ، أو مخبأ منفرد، حيث الابن المعتكف من أجل الثانوية العامة متقوقعاً في قفص مغلق كان يسميه المصريون فيما مضى "بلكونة" أو "شرفة".

استخدام متعدد الأغراض

أشرفت "البلكونة" بثقافتها المصرية الأصيلة على الاندثار، في البداية تحت وطأة ثقافة متنامية مقللة من قيمة الهواء وأهمية الاطلالة على مشهد مفتوح لا يحوي أثاثاً أو جدراناً أو أسقفا باستثناء السماء، ثم باستسلامها لميل شعبي فطري للاحتفاظ بالكراكيب والاعتزاز بالقصاقيص، ولا مانع من تخزين كميات مهولة من الثوم وتلال رهيبة من البصل، وأخيرا تراجع الجميع واستسلم الكل أمام التضحية بـ"البلكونة" في سبيل حبس الأبناء والبنات من الطلاب والطالبات بعد تحويل متنفس البيت إلى قفص محكم الإغلاق.

ذكريات الطفولة

كانت شرفات العمارات السكنية فيما مضى وسيلة رئيسية من وسائل الترفيه في البيوت المصرية، وأحياناً الوسيلة الوحيدة. تقول آمال عبد العزيز، 79 عاماً: "كان الجلوس في شرفة البيت وسيلة الترفيه الوحيدة المتاحة لنا ونحن أطفال. كان أبناء وبنات الأخوال والخالات يجتمعون في الشرفة في الأمسيات الصيفية. نضحك ونأكل ونتسامر. وفي النهار، كان يتم نشر الغسيل ليجف في الشمس والهواء الطلق. نصف ذكريات الطفولة منبعها البلكونة". 

"البلكونة" منبع ذكريات طفولة الملايين من المصريين في أزمنة مضت تحمل ومضات من الحب الأول، وقبسات من جلسات العائلة الممتدة من أخوال وخالات وأعمام وعمات، واختصارات لصفحات من عمر فات هو عمر البلكونة. وهي كذلك تطور عاكس لما يدور في قلب المجتمع من زيادة سكانية، وأزمة اقتصادية، ومعضلة سلوكية، وتغيرات اجتماعية، وأولويات حياتية.

دورة حياة البلكونة من الماء والهواء وجلسات السمر والسهر إلى مخزن الأشياء والأطلال ثم مساحة إضافية تحت وطأة الزيادة السكانية يشرحها مهندس الإنشاءات محمود عبد الكريم، 57 عاماً، الذي يشير إلى القيمة الكبيرة لفكرة الشرفة في أي عمارة أو مبنى سكني أو حتى إداري.

مصدر إزعاج

"الشرفة مساحة للهواء والترفيه في أي مبنى، لا سيما لو كان سكنياً. فهو متنفس للهواء الطلق، ومهرب من الشقة أو البيت المغلق. بالطبع تكون ميزة إضافية إذا كانت الشرفة تطل على مساحة خضراء أو مجرى مائي أو حتى ميدان أو شارع منسق، لكن حتى لو لم يتوفر ذلك، تظل قيمة مضافة إلى البيت".

لكن عبد الكريم يعود ويشير إلى تغيرات سلبية حدثت في المجتمع وألقت بظلال وخيمة على "البلكونة"، بينها زحام الحالة المرورية، وتحول الشوارع إلى مرائب للسيارات الواقفة بطريقة عشوائية، وغزو المقاهي، والاستماع إلى المذياع بصوت عالٍ، والصراخ المدوي، كل هذا جعل الشوارع قوة طاردة دفعت البعض من المصريين إلى اعتبار الشرفة مصدراً مؤرقاً ومحملا بتلوث سمعي وبصري". ولأن المثل الشعبي حدد طريقة التعامل في مثل هذه الأوضاع، حيث "الباب اللي يجيلك منه الريح سده واستريح"، فقد ترجم البعض ذلك حرفياً.

كراكيب

نظرة متأنية إلى محتوى "بلكونة" شقة السيدة حنان زين، 60 عاماً، في الطابق الرابع تؤكد أن البلكونة صارت الوجه الآخر للمخزن. علب كرتونية مغلقة مكتوب على كل منها محتواها:  كتب هيثم المدرسية (هيثم تخرج في الجامعة ويعمل في إيطاليا منذ خمس سنوات)، أوراق بابا الرسمية (باب رحل عن عالمنا قبل سبع سنوات)، إبر وخيوط تريكو (السيدة حنان توقفت عن أعمال الإبرة منذ ما يزيد على عقدين)، أقمشة (تحولت على الأغلب إلى بودرة بفعل عوامل التعرية)، معلقات من الثوم مثبتة بمسامير من السقف، أشولة من البصل مرصوصة على الأرض.

شرفات جيران السيدة حنان لا تختلف كثيراً عنها. الشرفات أعلاها وأدناها عبارة عن مخازن غلال ومخابئ كراكيب ومقالب نفايات السنين.

البيت المصري شهد في العقدين الماضيين، وتحديداً منذ تحولت العملية التعليمية إلى عذابات بائسة، بؤس مشهد الشرفة – المصممة في الأصل لاستنشاق الهواء واستشراف الفضاء – وهي مغلقة بألواح خشبية ومغلفة بسياج معدني يعكس أوضاعاً تعليمية جعلت من الثانوية العامة والشهادة الإعدادية ومعها الابتدائية مدعاة لعزل التلميذ وحجبه عن كل ما من شأنه أن يشتت الانتباه أو يبدد ساعات المذاكرة.

أعداد مهولة من الشرفات المصرية خسرت الهواء النقي أمام الثانوية العامة وغيرها من الشهادات التعليمية. مشهد العمارات السكنية التي تحولت شرفاتها إلى علب كبريت، أو صناديق لتحصيل المعلومات يقول الكثير عما أصاب مفهوم الهواء وقيمة الاسترخاء ومعنى الجمال.

"فقد الكثيرون مفهوم الجمال، وتبخرت ثقافة الاستمتاع بالهواء الطلق وتقلص مفهوم الجمال، بما في ذلك الجمال المعماري. حتى المعايير الهندسية المعروفة والمعمول بها في تشييد المباني والعمارات بات كثيرون يتجاهلونها تماماً".

على هذا النحو قال المهندس محمد مراد محمد عن دور الشرفة في الوحدة السكنية، وأشار إلى أنه لا ينبغي ألا تقل مساحتها عن عشرة أو 15 في المئة من المساحة الكلية للشقة، وذلك من وجهة نظر جمالية للمبنى وصحية للإنسان.

ويضيف أن البعض يعتبر شرفته ملكية خاصة يفعل بها ما يشاء، وهذا غير صحيح. "الشرفات في أغلب دول العالم يحظر المساس بها أو بشكلها، ويعتبرها البعض ملكية عامة لأنها جزء من الفضاء العام، لكنها تحولت في مصر إلى فوضى معمارية وعشوائية وبصرية".

لكن في عتمة "بلكونات" القاهرة المنقرضة يبزغ نور من بعيد، وتحديدًا من مدينة رأس البر الشاطئية. يقول محمد: "هناك اتجاه واضح في رأس البر لاستعادة البلكونة. العمارات والفيلات الجاري إنشاؤها هناك يتسم جميعها بشرفات واسعة جميلة يتبع أغلبها نسق معماري موحد وجميل وداع إلى الحرية".

المزيد من منوعات